صفحة الكاتب : د . احمد جمعه البهادلي

السجن والمعتقل بين سطوة التعذيب وسلطة الخلود.
د . احمد جمعه البهادلي

المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.
 يعتقد أغلب الطغاة بأن واحدا من أسرار قوتهم هو تفعيل السجون والمعتقلات، ليقمعوا بذلك كل صوت رافض لاستبدادهم، ومخالف لأهوائهم ومنظومتهم المحاطة بأجواء سرانية وحواجز متعددة ومنيعة. ولهم فيها أساليب عجيبة وغريبة لتعذيب الافراد الثائرين والرافضين، غير أن المعادل الموضوعي لمقاومة هذا القمع المستبد، ليس في الانصياع لمهاترات الفكر المنحرف الذي ينشده الطغاة، وإنما يتمثل بالرفض له وبالتعايش مع المأساة بطريقة تفوق ما للواقع من مستلزمات للتعايش نفسه.
 
وحين نطالع السجون وعلى مر التاريخ سنجدها تتعكز على منظومة من التقشف، وكأنها ذات بنية معدة مسبقا للعيش في مكان يسلب منا كل واقعية أعتدنا عليها، بل ويسلب كل شيء، في تقابل غريب، فمن النور إلى الظلمة، ومن سعة المكان إلى ضيقه، ومن الزخارف والنقوش إلى حيطان مجردة، ومن أناسة وتفاعل مع الاخر إلى وحدة صماء. وهكذا… فضلا عن التعذيب الدوري وعن لوائح السلوك والجلوس والاشغال الشاقة، وبإختصار إنه محطة (للنفي) بكل ما لهذه الكلمة من معنى.
 
هذه الاشارات على ما فيها من بساطة، كافية لكشف السمات والعناصر التي ولع بتطبيقها الطغاة، إذ جعلتهم في موقف التخويف الدائم للشعوب المستضعفة، وكانت سببا لاسكات الجماعات الثائرة، ولذلك بالغوا فيها وجعلوها واحدة من مآثرهم وكانت سببا في ديمومتهم، بل ولعلها من اوضح الطرق واكثرها اختصارا لنفي الذات (الفردية) المحركة للجماعات الثائرة. وكلما كان الطاغية متمسكا بالدنيا كانت سمات وعناصر أمكنته القمعية وأفرادها القائمين عليها أكثر ابتعادا عن الواقع المألوف وأقرب إلى المخيال الاسطوري الذي تضخمه الحكايات الشعبية فيما بعد.
 
غير أن أكثر الاشياء إنتهاكا للفرد (السجين) هو (جسده)، ليس الجسد بما هو وعاء خارجي لصورة الذات، وإنما بما هو حضور لفاعلية الذات بكل ما فيها من قيم ومبادئ، ولذلك يعذب في (السجين) جسده الذي يعني في مرأة السطوة تعذيب للقيم وللمبادئ ذاتها. وحينها يتوجب على السجان أداء الدور بأقسى صوره في محاولات دؤوبة لسلخ الجسد وهو يعني سلخ تلك القيم والافكار المعارضة لفكر الطاغية الحاكم. بينما يتوجب على (السجين) التفاعل مع استراتيجية المظهر الجديد لجسده الذي يبدو وكأنه قد خضع لعملية تشويه متعمد.
 
ويغفل أغلب الطغاة عن حقيقة متجاوزة للجسد بل ومتجاوزة للزمكان، حتى وان تمت السيطرة على كامل الوجود الفعلي (للسجين)، هذه الحقيقة هي (الفكر).. وكلما كان الفكر قادما من مصادر رفيعة كلما كان سيالا ومنزلقا كالماء لا يمكن السيطرة عليه، ولذلك لا سبيل أمام كل هذه الانتهاكات لكينونة الذات (السجينة) إلا الخلود والبقاء، وهنا يبدو أن التفاعل مع السجين في حجب كل متقابلات الواقع بنظام من التقشف، تكسرها الفضاءات والملكات الذاتية لفكر السجين ومبادئه وقيمه. خصوصا إذا ما كان متجاوزا لحدود جسده. فالفكر منظومة لا مادية تسبح في دائرة الحضور الجمعي وسرعان ما تنتشر هذه المنظومة تحديدا إن كانت تبغي رفعة المجموعة ذاتها.
 
وفي هذه الايام المباركة أدعوكم لنستذكر لحظات الامام (موسى بن جعفر) عليه السلام، في سجن طاغية عصره هارون اللارشيد، وآليات السيطرة على جسد الامام المبارك، ظانا بأنه سيسيطر على المنظومة الفكرية الإلهية، وهنا نكتشف غباء الطغاة وعدم قدرتهم على إنتاج مجتمع حقيقي، له القدرة على إيصال الشعب او الجماهير إلى درجة من الكمال المنشود أو المبشر به في كل أدبيات الأديان السماوية المباركة.
 
وفي الحقيقة يمكننا أن ننظر إلى الطغاة بوصفهم شلة من الاغبياء على مر التاريخ، وأن ننظر إلى السجن والمعتقل وسطوة التعذيب على أنها محطة من محطات القرب الإلهي ننطلق منها إلى (سلطة الخلود). كما فعل إمامنا (موسى بن جعفر) عليه السلام، إذ حول الفكر إلى سلطة خالدة تأثر بها الملاين من الأحرار والمصلحين في مختلف بقاع العالم، وكما فعل كل الأئمة عليهم السلام المتجاوزين لأجسادهم الشريفة.

قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


د . احمد جمعه البهادلي
 (للدخول لصفحة الكاتب إضغط هنا)

    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2017/04/20



كتابة تعليق لموضوع : السجن والمعتقل بين سطوة التعذيب وسلطة الخلود.
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 



حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :


مقالات متنوعة :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net