صفحة الكاتب : الشيخ محمد مصطفى مصري العاملي

هل تعلّم أمير المؤمنين من الرسول ما لم يكن به عالماً ؟
الشيخ محمد مصطفى مصري العاملي

المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.

السؤال رقم8: إن كان ازدياد علم الأئمة عليهم السلام لا يعني حدوث علم جديد، فكيف يفسر حديث: علمني رسول الله ألف باب من العلم.. وأمثاله ؟
ألا يدل على أنه تعلّم ما لم يكن يعلم ؟

الجواب:
بسم الله الرحمن الرحيم
لقد ذُكرت هذه الروايات باسانيد متكثرة وصيغ متعددة..
فقد عبّر في الروايات ب: (حدّثني) و (علّمني) و(أسرّني) و(أوصى رسول الله)
وعبّر عن متعلقها ب: (باباً) و(كلمة) و(حرفاً) و(حديثاً)

وقد يقال بدلالة هذه الروايات على اتصاف أمير المؤمنين ع بهذا العِلم كعلامةٍ من علامات الوصي ووارث النبي، فتكون من باب ذكر العلامة المشيرة للوصي وتحديده، ولا تدلّ على التعليم الفعلي الذي يكون مسبوقاً بالجهل.
 
أو للتأكيد كما هو الحال في موارد كثيرة، نظير البلاغ في غدير خم بالولاية مع أن الإبلاغ بها كان قريناً لبدء الدعوة أول أيام النبوة وطيلة مسيرة الدعوة من حديث الدار إلى وفاته صلى الله عليه وآله، فيكون إبلاغاً مسبوقاً بإبلاغ.

ويمكن ان يؤيد هذا المعنى بجملة من الأمور:
1. أن الرواية وردت بأخبار معتبرة بصيغة (أوصى) فقد روي عن أبي عبد الله عليه السلام: أَوْصَى رَسُولُ اللَّهِ ص إِلَى عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ ع بِأَلْفِ بَابٍ فَتَحَ كُلُّ بَابٍ أَلْفَ بَابٍ. (بصائر الدرجات ج‏1 ص304)
وعنه عليه السلام: أَوْصَى رَسُولُ اللَّهِ ص إِلَى عَلِيٍّ ع بِأَلْفِ كَلِمَةٍ كُلُّ كَلِمَةٍ تَفْتَحُ أَلْفَ كَلِمَةٍ.(المصدر ص311)

وفيها إشارة إلى أن المقام مقام الوصاية، وأن علياً عليه السلام هو الذي يمتلك أبواب العلم ومفاتيحه.

2. أن بعض الروايات قرنت بين هذه الأبواب وبين إرث النبوة، ففي الخبر المعتبر عن ذَرِيحٍ الْمُحَارِبِيِّ قَالَ سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ ع يَقُولُ: نَحْنُ وَرَثَةُ الْأَنْبِيَاءِ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ص جَلَّلَ عَلَى عَلِيٍّ ع ثَوْباً ثُمَّ عَلَّمَهُ وَذَلِكَ مَا يَقُولُ النَّاسُ عَلَّمَهُ أَلْفَ كَلِمَةٍ كُلُّ كَلِمَةٍ يَفْتَحُ أَلْفَ كَلِمَةٍ.(بصائر الدرجات ج1 ص309)

وفيها إشارة ثانية إلى كون المقام مقام وراثة الأنبياء، وأن علياً وبنيه من بعده هم المؤهلون ليكونوا ورثة الأنبياء فهم أهل العلم.

3. أن هذه الأحرف كانت في صحيفة عند الأئمة عليهم السلام كما كان عندهم سيف رسول الله والكتب المعروفة، فعن أبي بصير عن أبي عبد الله عليه السلام: كَانَ فِي ذُؤَابَةِ سَيْفِ رَسُولِ اللَّهِ ص صَحِيفَةٌ صَغِيرَةٌ.
فَقُلْتُ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ ع أَيُّ شَيْ‏ءٍ كَانَ فِي تِلْكَ الصَّحِيفَةِ ؟
قَالَ: هِيَ الْأَحْرُفُ الَّتِي يَفْتَحُ كُلُّ حَرْفٍ أَلْفَ حَرْفٍ.
قَالَ أَبُو بَصِيرٍ قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ ع: فَمَا خَرَجَ مِنْهَا حَرْفَانِ حَتَّى السَّاعَةِ.(الكافي ج1 ص296)

وفيها إشارة ثالثة إلى أن هذه الأحرف التي يفتح من كل حرف ألف حرف، هي إرث النبوة الذي ورثوه عن النبي صلى الله عليه وآله وكان عندهم عليهم السلام، وإنما كان في (صحيفة صغيرة) فيؤكد أن المقام مقام إرث النبوة والإمامة.

4. أن هناك نصوصاً أشارت إلى تسليم النبي لأمير المؤمنين ميراث العلم وآثار علم النبوة عند وفاته، وهي تتطابق مع روايات الالف باب، منها الخبر الصحيح عن الباقر عليه السلام: لَمَّا أَنْ قَضَى مُحَمَّدٌ نُبُوَّتَهُ وَاسْتَكْمَلَ أَيَّامَهُ أَوْحَى اللَّهُ تَعَالَى إِلَيْهِ أَنْ: يَا مُحَمَّدُ قَدْ قَضَيْتَ نُبُوَّتَكَ وَاسْتَكْمَلْتَ أَيَّامَكَ فَاجْعَلِ الْعِلْمَ الَّذِي عِنْدَكَ وَالْإِيْمَانَ وَالِاسْمَ الْأَكْبَرَ وَمِيرَاثَ الْعِلْمِ وَآثَارَ عِلْمِ النُّبُوَّةِ فِي أَهْلِ بَيْتِكَ عِنْدَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ فَإِنِّي لَنْ أَقْطَعَ الْعِلْمَ وَالْإِيمَانَ وَالِاسْمَ الْأَكْبَرَ وَمِيرَاثَ الْعِلْمِ وَآثَارَ عِلْمِ النُّبُوَّةِ مِنَ الْعَقِبِ مِنْ ذُرِّيَّتِكَ كَمَا لَمْ أَقْطَعْهَا مِنْ ذُرِّيَّاتِ الْأَنْبِيَاءِ (الكافي ج1 ص293)

وهذه إشارة رابعة كالإشارات السابقة، فجعل (العلم والإيمان والاسم الأكبر وميراث العلم وآثار علم النبوة) عند علي عليه السلام وهو واضح في أن التعليم ليس على نحو الحقيقة، فلم ينقل النبي ص الإيمان مثلاً إلى علي في لحظة وفاته، إنما هو تأكيد على اتصاف علي بصفات العلم والإيمان وحمله مواريث الأنبياء وهو ما يجعله خليفة الله تعالى بعد النبي صلى الله عليه وآله.

5. ما روي أن الألف باب فيها علم الحلال والحرام، فعن الأصبغ بن نباتة عَنْ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيٍّ ع قَالَ سَمِعْتُهُ يَقُولُ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ ص عَلَّمَنِي أَلْفَ بَابٍ مِنَ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ وَمِمَّا كَانَ وَمَا هُوَ كَائِنٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ كُلُّ يَوْمٍ يَفْتَحُ أَلْفَ بَابٍ فَذَلِكَ أَلْفُ أَلْفِ بَابٍ حَتَّى عَلِمْتُ الْمَنَايَا وَ الْوَصَايَا وَ فَصْلَ الْخِطابِ. (البصائر ج1 ص305)

ولا شك عند الإمامية أن أمير المؤمنين عليه السلام لم يكن جاهلاً بتلك الأحكام الشرعية قبل ساعة وفاة الرسول، بل كان عالماً بها أثناء حياته صلى الله عليه وآله، وقد روي بالخبر الصحيح عن أبي بصير عن أبي عبد الله عليه السلام: قَالَ: سَمِعْتُهُ يَقُولُ وَذَكَرَ ابْنُ شُبْرُمَةَ فِي فُتْيَاهُ فَقَالَ: أَيْنَ هُوَ مِنَ الْجَامِعَةِ ؟
أَمْلَى رَسُولُ اللَّهِ ص وَخَطَّهُ عَلِيٌّ ع بِيَدِهِ فِيهَا جَمِيعُ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ حَتَّى أَرْشُ الْخَدْشِ فِيهِ. (البصائر ج1 ص148)
فعليّ عليه السلام قد خط جميع الحلال والحرام حتى أرش الخدش في حياة الرسول، ثم لا يكون عالماً بها إلا ساعة وفاته صلى الله عليه وآله ؟

ويلاحظ إضافة إلى ما تقدم، أن روايات (الألف باب) ونظائرها على قسمين: قسم لم يبين وقتاً لهذا التعليم، وقسم آخر ذكر له وقتاً فكان ذلك (في مرضه ص الذي توفي فيه).

فلا تخلو هذه الروايات من أحد أمرين:
الأمر الأول: أن تكون الروايات ناظرة لواقعة واحدة تدل على أن التعليم حصل مرة واحدة عند وفاة النبي ص، فإن كان الأمر كذلك لا يمكن تفسير العلم بحدوث علم جديد إذ ثبت أن علياً عالمٌ بجميع الحلال والحرام وما كان وما يكون حتى قبل ذلك، فيثبت المطلوب وهو كون المقام مقام إثبات إرث النبوة والوصاية.

الأمر الثاني: أن تكون الروايات ناظرة لوقائع متعددة أي أن النبي ص علم أمير المؤمنين الف باب مرات كثيرة، وعليه يكون التعليم لنفس الشيء قد حصل مرات عدة، فيدل على تأكيد ما كان يعلمه وهو موافق للمطلوب أيضاً.

بعد كل ما تقدم، فلا مجازفة في القول أن المراد من تلكم الروايات هو كون علي أعلم الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وآله، وهو وصيه ووارثه ووارث الأنبياء، فيكون هذا أحدُ أوجَهِ الاحتمالات في تفسير هذه الروايات وأمثالها.

جواب ثانٍ
ثم بغض النظر عن كل ما سبق.. ولكي يكون الجواب شاملاً لسائر روايات (علمني رسول الله) المتناثرة في أبواب عدة..

فإن الوصف بما ظاهره حصول العلم لا يلازم أن يكون مسبوقاً بالجهل وإن كان كذلك عند عامة الناس، إلا أنه لا ملازمة بين الأمرين.. كيف وهذه آيات القرآن الكريم تصف الله تعالى بأنه (عَلِمَ) و(لِيَعلَم) ولا شك بأن الله تعالى لا يوصف بجهل ولم يكن علمه مسبوقاً بجهل حاشاه عز وجل.

ومن تلك الآيات قوله تعالى: عَلِمَ اللّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ..[البقرة : 235]
وقوله: وَلِيَعْلَمَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ..[آل عمران : 140]
وقوله: لِيَعْلَمَ اللّهُ مَن يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ..[المائدة : 94]
وغيرها من الآيات المباركة

ولم يعهد عن أحد من علماء الإمامية ولا من عوامهم نسبة الجهل لله تعالى ! فثبت إمكانية الوصف بالعلم مع عدم سبق الجهل، فساغ أن يقول أمير المؤمنين: علمت ذلك من رسول الله مثلاً وعلّمني رسول الله وهو عالم به، كما ساغ القول (عَلِمَ الله)..

وكما كان النبي صلى الله عليه وآله نوراً يسبح الله عالماً بما علّمه الله، غير جاهل في آن من الآناء، فإن الله (علّمه) عند خلقه أي خلقه عالماً، كذلك علّم علياً وهو القائل: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْعَمَ عَلَيَّ بِالْإِسْلَامِ وَعَلَّمَنِي الْقُرْآنَ وَحَبَّبَنِي إِلَى خَيْرِ الْبَرِيَّةِ  (أمالي الصدوق 97)
وكما كان حب خير البرية له (حببني) منذ خلقهم الله أنواراً، كان تعليم الله ورسوله له (علّمني) منذ خلقهم الله في تلك النشأة.
واشتقاق النور من النور ملابسة أخرى تصحح نسبة التعليم للنبي صلى الله عليه وآله بعد نسبتها لله تعالى..

والحمد لله رب العالمين
الثامن عشر من شهر رمضان المبارك 1438 هـ


قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


الشيخ محمد مصطفى مصري العاملي
 (للدخول لصفحة الكاتب إضغط هنا)

    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2017/06/16



كتابة تعليق لموضوع : هل تعلّم أمير المؤمنين من الرسول ما لم يكن به عالماً ؟
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 



حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :


مقالات متنوعة :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net