• الموقع : كتابات في الميزان .
        • القسم الرئيسي : ثقافات .
              • القسم الفرعي : ثقافات .
                    • الموضوع : عين القلب .
                          • الكاتب : بارعة مهدي بديرة .

عين القلب

تمر بحياة الإنسان مشاهد ومواقف عديدة فيها عبر كثيرة ودروس كبيرة وبعض هذه المواقف تبقى في الذاكرة لاىتتأثر بمتغيرات المعاش اليومي .. ومن هذه المآثر موقف من المواقف التي عشتها  في بيت الله الحرام فقد كان ذهابي للعمرة للمرة الثانية بحياتي ، كنت أحمل بداخلي هما كبيرا وحاجة من حوائج الدنيا أسعى إلى الله تعالى بالدعاء ليلا نهارا ليمن علي بقضائها ويفرج هما كبيرا أصابني.فالحوائج احيانا تأخذ شكلا مؤ ذيا بحيث تشغل الإنسان اكثر من سواها ، . وقبل الانطلاق بقليل أحرجنا السائق لإصرارة بعدم الانطلاق بالمسير أبدا مادام في الباص ثلائة مقاعد مزدوجة فارغة مع اكتمال عدد المشتركين ،  يجب أن لانتأخر في الانطلاق كي لانصل مكة المكرمة متأخرين فيلغى الحجز في الفندق،استفحل هذا القلق مع اقتراح السائق بل أصراره على  أن يكتمل عدد الركاب من مكتب السفريات الخاص بالحج والعمرة.. فوافق مسؤول رحلتنا رغما عنه فلا حل آخر لديه غير الخضوع لرغبة السائق أو رفضه ودفع تكلفة ٦ أشخاص من ماله الخاص بدل المقاعد الفارغة وفعلا نزل السائق وعاد مصطحبا معه ستة ركاب أغراب عن الوفد المسافر وتبين انهم من تبعة مذهب أخر، وهذا قد يعرقل لنا الفة السفر، وخاصة اننا نريد ان نقرأ دعاء الحسين (ع )ودعاء العهد وبعض الادعية الاخرى والصلوات على محمد وآله( ع) فلاحظت منذ بداية المشوار  المضايقة الواضحة والغاضبة التي تمتزج بروح العداء ونظرات السخرية الظاهرة في عيونهم ولكن لفت انتباهي  مشهد امرأة منهم منزوية عنهم وهي تردد معنا الصلوات وأحيانا تقرأ القرآن غيبا اذ كانت  تحفظه عن ظهر قلب وشعرت بميول انسانية كبيرة نحوها  وبلهفة لااعرف اسبابها او مكوناتها و لاأدري كيف ومن أين مصدرها .. ومن خلال مشوار الطريق من الشام إلى مكة المكرمة كنا نحتاج لقضاء يومين  ، ومثل هذه المدة من الممكن ان تخلق حالات تقاربية كثيرة .. وبالفعل تقربت لهذه الانسانة المنزوية  وتحدثت معها وانفتحت اساريرها معي  ولذلك تعرفت على مكامنها الجوهرية فتبين لي انها انسانة مؤمنة  تحب أهل البيت عليهم السلام ، وعرفت منها انها قد سعدت بلقاء كربلاء وزارت الحسين عليه السلام ، بحجة زيارتها لاحدى صديقاتها في العراق ... وبغتة تفاجئت لكونها بصيرة ، المسألة في غاية الصعوبة فخلال هذه الرحلة  لم  يقدر احد ان يكتشف انها فاقدة البصر ، لكونها تتحرك بحرية المبصر وتلاحق حركاتها الصوت المتحدث معها فيعتقد المتكلم بأنها تلتفت إليه أردت ألا أفارقها بمكة خوفا عليها أن تتيه وسط الزحام  أو ان تسقط أرضا فقد ادركت بانهم يعاملوها باهمال ولامبالاة
وكي لا أشعرها بالعجز والإعاقة صرت أرجوها أن تقبل صحبتي طوال الرحلة فوافقت بسرور كبير كي تبتعد عن مرافقيها.. وفي الطواف حول الكعبة المشرفة ورغم شعوري بعذابها لفقدان بصرها ،  لكن من شدة ضيقي  بما احمل من الهم الثقيل والحزن المتعرش  داخل قلبي صرت أناجي الله تعالى ببكائي اناديه متوسلة : يارب خذ بصري وأذهب عني همي وحزني فقد ضاق صدري كثيرا يارب ، ان تعب الجسد مقدور عليه أمام الهموم والأحزان وكلما وصلت الركن المستجار أستجير بالله بهذا الدعاء وكنت فعلا أعاني من ضعف
بصر شديد واستعمل عدسات لاصقة لاأستغني عنها أبدا لكني كنت أستطيع الرؤية عموما ومع هذا بلحظة ضعف و ضيق كبير تمنيت أن أفقد البصر لأحصل على الراحة كمقايضة مقتنعة بها في لحظتها ، .. وبقيت مع تلك الأخت ألازمها كظلها مخافة ان  افقدها ، فان فقدتها بين الجموع كيف  ساعثر عليها ؟واحسب الف حساب بما ستتعرض له اذا تركتها ، وعندما انتهينا من الاحرام واثناء عودتنا  اكتشفت انها معنا في نفس الفندق ، دعوتها لغرفتي و جلست أحدثها بيسر وراحة ، وهي انفتحت معي لتخبرني بانها
قد جاءت مع جيرانها وهم يحتقرون معاملتها ويتركون لها فضلات  طعامهم ، ويعاملونها كخادمة ولم تجد من يصطحبها لمكة المكرمة غيرهم وطلبت مني أن أتفقد نقودها فاتضح لنا أنهم استبدلوا  مالها بأوراق نقدية أقل قيمة مطمئنين بأنها عمياء ستحصي عدد الأوراق ولن تكتشف السرقة.. ياويلهم من الله يسرقون في حرم الله..ومن يسرقون؟ إنسانة لاحول لها ولاقوة!! ألا يكفي بأنهم يسخرون من تمسكنا بالولاية التي نفتخر بها؟ إنهم يطوفون رغما عنهم حول المكان الذي ولد فيه أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليهما السلام..وأنا
رأيت انسانة منهم متبرجة في الإحرام وفوق هذا يسخرون!!ورأينا منهم العجائب .. نحن نراعي حق الجوار وهم يسرقون جارتهم الضريرة ويسخرون أيضا؟ فذهبت لوالدي الذي كان معي محرم لي بسفر العمرة وأخبرته قصتها فأكمل لها من ماله المبلغ الذي سرقوه منها وقال لها سأحتفظ لك بالنقود ومتى تشائين ابنتي تعالي وخذيها وخلال أيام إقامتنا بمكة سألتها عن سبب فقدان بصرها فروت لي قصتها الحزينة وقالت بأنها كانت تعيش علاقة طاهرة  مع شاب كان يمثل لديها عالمها وحياتها وروحها  وعند اقتراب موعد زفافها لتتزوج به لتحقق
مابنته من أحلام طوال سنتين برفقته..وبلحظة أو أقل تهدم الحلم..صار سرابا.. انهار البناء.. أصبحت ناطحة السحاب أرضا.. لقد تبين ان الشاب ينتمي لمذهب آخر وحين عرفوا اهله انني انتمي لمذهب اهل البيت عليهم السلام  طالبوه بالاتفصال عني عنوة فرفض  وكابر لكنه استجاب لاهله تحت الضغط الملح ، فصار انفصالي قسريا يتحمل الطائفيون على ذمتهم جريمة هذا القتل  المتعمد ، ففارقت المسكينة روحها انخلع قلبها.. توقف الزمن عندها.. وقالت بأنها حزنت انهارت بكت وبكت ثم بكت كثيرا أياما وليال
إلى أن فقدت بصرها تقريبا وكيف لا؟ وقد سمعت  ان الهم قد ركب خطيبها المخلوع عنوة  فاعتل ومات وهو في عز شبابه كمدا وحسرة ، فإن فقد الأحبة غربة ولقاؤهم أنس ومسرة وهم للعين قرة.. وهي لن تلقاه بعد الأن فكيف سترى من بعده؟ أصبحت ترى بصعوبة فائقة.. هذا ماقالته المسكينة وأكملت بأنها لاتنام كل ليلة قبل أن تصلي له وتهديه سورة يس  وتبكي لفراقه حتى وهي نائمة..تنام باكية وتستيقظ على دموعها إلى أن رأته مرة في منامها يجلس في غرفة غارقا بأنوار عجيبة لاتوصف فسألته ماهذا النور
ياأحمد؟  فأجاب: سورة يس.. قالت لي بأنها فقدت بصرها لفقدان أحمد لأنها لاتريد أن ترى بعده أحدا.. عيناها تأبى النظر لغيره.. صوته سكن بيتها الأكبر لايفارقه لحظة..بعد أشهر أرغمها والدها على الزواج من صديق له كبير بالسن ولم يراع ظرفها الصحي ووالدها إنسان قاس بحد الشرك فهو  لايعترف بالله عز وجل ومعتقده أن الدنيا تكونت من الطبيعة فقط! ولنفترض حقه التمتع بتفكيره المريض فماذا لو اختلت الطبيعة ولو لمحة؟ وكلما رآها تصلي يضربها وهي شبه ضريرة لاتعرف من أين تأتيها الضربات لتدافع عن نفسها.. ماهذا
الأب؟ ليس غريبا عليه ظلم ابنته ان كان لايعترف بخالقه ولتتخلص من ظلمه تزوجت صديق والدها الذي تبين مع الزمن بأنه يفوق والدها ظلما وجورا.. ماهذه الحياة القاسية..لاراحة مع الأهل لاراحة مع الزوج.. ومرة كان زوجها يمسح حذاءه بفرشاة خاصة للأحذية فغضب وهو يكلمها فانهال عليها ضربا بفرشاة حذائه فأصابت الضربات رأسها وعينها ثم انتابها نزيف حاد وبالمستشفى قال الطبيب (عمياء تماما أتلف العصب البصري لن ترى بعد اليوم ابدا) انفصلت عن الزوج.. طلقها وماذا يفعل بعمياء من صنع يده.؟. فقدت معظم بصرها من البكاء حزنا لفقد فرحها وبقية بصرها فقدته ظلما من ضرب
حيوان بهيئة إنسان وكان لها منه طفلان حرمها منهم فترة من الزمن إلى أن عادوا لها من تلقاء أنفسهم والأن أصبحوا كبارا لاتعرف ملامحهم.. أم لاتعرف ملامح أولادها ولاتعرف كيف أصبحت ملامحها هي بعد مرور سنوات.. لاتميز الألوان.. لاترى الشمس لاترى القمر لكنها ترى ظلام الليل فقط.. روت لي أنها بالمنام تكون مبصرة! تستطيع رؤية حبيبها كل ليلة! وإلى الأن مازالت تزور قبره وتأخذ له الأزهار وترتمي على رمسه  لتنسى معاناتها وبنت بجانب قبره شبه قبر لها من كومة تراب وأصبحت تزور قبرها بنفسها! ماكل هذا؟ أي محنة هذه؟ كيف يتحمل قلبها كل
هذه الأحزان؟ قالت بأنها مازالت تدعو الله أكرم الأكرمين كل لحظة ألا يحرمها منه من جديد وأن يتجدد اللقاء فيجمعها به بدار الأخرة بحياة دائمة أبدية في ظله بلقاء لاانقطاع بعده.. رغم عجزها الكبير تمسكت بحب أهل البيت ع لم تهتم لظلم والدها المستمر وكانت سابقا قد اشترت مسجلا وأشرطة واستمعت للقرآن وحفظته غيبا بالكامل.. لكنها مازالت تبكي لاتجف دموعها أبدا.. الشوق والحنين.. الألم والحزن.. الغربة ووحشة الفراق.. مشاعر مختلطة داخل انسانة عاجزة تملك قلبا نادر الوجود..ساعد الله قلبها الممزق.. حزنت لأجلها كثيرا حين قالت: ليته يعود فأفديه بأولادي! ليتني
أكلمه مرة واحدة وأموت بعدها! ومن لايحزن لمثل حالها؟ جعلتني هذه المسكينة أتمنى أن أرى هذا الإنسان الذي امتلك كل هذه المكانة بمثل هذا القلب المميز..  بقيت ألازمها وأحببتها جدا واحترمت بداخلها أكبر قلب وأطهر حب عرفه إنسان وحين عادت كل منا لوطنها (فهي من محافظة أخرى بسوريا) جاءت وزارتني واستضفتها في بيتي وزرنا السيدة زينب ع والسيدة رقية ع معا ولن نفترق ان شاء الله.. ألا يكفيها معاناة؟؟ فالفراق وجع لاشفاء منه أبدا.. ألم متواصل يستحيل أن يسكنه شيء..أما أنا فإن الرب الكريم استجاب دعائي حسب كرمه وليس كما طلبت منه
بضعفي عند الركن المستجار فلقد أكرمني بعد عودتي من بيته الحرام وبعد رعايتي لتلك الانسانة الضريرة بشفاء عيني تماما وكأني ولدت من جديد.. وماعدت بحاجة لعدسات أبدا وأبطئ عني بالحاجة الأخرى فترة ثم أزاح عني الهم الذي لازمني طويلا بفضله وببركة ((أناس)) كان لهم كل الفضل بمساعدتي معنويا بالخلاص مما أهمني.. فكيف لانحترم مثل هؤلاء؟ كيف ننسى هذه النماذج الرائعة بحياتنا؟ كيف ننسى هذه الأصوات العميقة؟ لكن.. لكن الهموم تتجدد باستمرار حياتنا.. لاتنتهي إلا بنهاية الانسان.. ولاراحة لمؤمن إلا بلقاء وجه ربه الكريم


كافة التعليقات (عدد : 2)


• (1) - كتب : نورالسراج ، في 2011/11/29 .

الأب العظيم الأديب الخباز المحترم
مرورك بصفحتي باستمرار مدعاة فخر واعتزاز لي
أطال الله بعمرك في خير وعافية
أدعو لك باستمرار وأسألك الدعاء
مع احترامي الكبير

• (2) - كتب : علي حسين الخباز ، في 2011/11/29 .

سلمت ايتها الرائعة يا نور السراج ولك الله لهذه القصة المبدعة لك مني المودة والدعاء بنيتي




  • المصدر : http://www.kitabat.info/subject.php?id=11725
  • تاريخ إضافة الموضوع : 2011 / 11 / 28
  • تاريخ الطباعة : 2024 / 03 / 28