• الموقع : كتابات في الميزان .
        • القسم الرئيسي : المقالات .
              • القسم الفرعي : المقالات .
                    • الموضوع : ومضات (2) .
                          • الكاتب : الشيخ مازن المطوري .

ومضات (2)

قد يتصوّر بعضهم وهو يقرأ ويشاهد احتفاءنا بالسيد محمد باقر الصدر (ره) دعوةً للغلو في شخصه وفكره، وقداسة ترفعه فوق النقد والتخطِئَة! وبرغم أن هذا التصور غير صحيح، ولكن من الصحيح كذلك التأكيد على أن السيد الصدر ليس فوق النقد والتخطئة، لا في منجزه المعرفي ولا في مشروعه وعمله السياسي والاجتماعي، فنحن من الرافضين للغلو في شخصية المعصوم عليه السلام ومقاماته، فكيف بغير المعصوم! بل إن النقد لفكر الصدر اعتراف بأهميته، وهو يسهم بتظهيره ورواجه، وهو رحمه الله أسعد الناس بعملية النقد لفكره وآرائه! ولكن بالنقد وليس بالتجريح لشخصه والطعن بعقيدته الشخصية!

المعرفة البشرية بصورة عامة وبضمنها المعرفة الدينية لا تقف عند شخص، والفكر والإبداع كذلك لا يقفان عند شخص أو مدرسة فكرية معينة، وإنما المعرفة تجري بالنقد وتتطوّر وتنضج ما بقي الليل والنهار، فهي بحر جار متموّج متلاطم.

غير أن النقد يتمثّل في تقديم الأرقام والنصوص، وتقديم المنجز والقراءة التي نستطيع متابعتها ويستطيع المشتغلون بالمعرفة محاكمتها، أما إطلاق الكلمات في الهواء الطلق فهو لا يعبّر عن النقد بحال من الأحوال.. وحتى ننتقل من الفكرة إلى المصداق أشير إلى تعليقات وتعقيبات وردتني بواسطة أحد الأعزّة الفضلاء تتعلّق بمقالة ومضات (1)، وهي تعقيبات وتعليقات مقتضبة جداً، تنص على أن (إدخال مفهوم الاستقراء على المنظومة الدينية لها مشاكل كبيرة وأساسية، ولا يجوز أن نأتي لحساب رياضي وندخله في منظومة لا تعتمد عليه، ونقيس أداة علم بأداة علم آخر وإن كان مهماً في موارد أخرى. بل للشهيد الصدر أخطاء أساسية في الرياضيات ونظريات الاحتمال كان من المفترض أن لا تصدر منه، أخطاء منهجية واضحة. المشكلة أنهم لا يقبلون النقد).

والآن لو أردت التعامل بشكل موضوعي وعلمي مع هذا التعقيب، فسوف نرى:

أولاً: هذا الكلام جيد، ولكنه مجرّد دعوى تفتقر للدليل، بمعنى أن هذا الكلام حتى يكون معتبراً ومهماً يحتاج صاحبه أن يكتبه بشكل فنّي معزّزاً بشواهد من الأسس المنطقية تبيّن الأخطاء الرياضية والمنهجية التي وقع فيها السيد الصدر! كأن يقول: إن الصدر ذكر في صفحة كذا أن المعادلة الفلانية تنتج هذه النتيجة، بينما الصحيح هو.. وهكذا.

وأنا متأكد من أن صاحب الكلام لن يجد هذه الأخطاء، لأن البراهين الرياضية الموجودة في الكتاب والمعادلات التي اعتمدها السيد الصدر فيه، براهين مثبتة في كتب معتمدة عالمياً، وهي نظريات رياضية مثبتة في المراجع ومعروف أصحابها مسجّلة بأسمائهم، كما في نظرية برنولي وبرهان تشيف وغيرهما.

ثانياً: وبشأن قوله: إن ادخال مفهوم الاستقراء على المنظومة الدينية.. فهو أيضاً كلام جيّد، ولكن يفتقر لبيان النكتة الفنّية لذلك، كما ويغيب عنه أن منظومة المعرفة الدينية المتداولة تعتمد المنطق الأرسطي ومذهبه المعرفي، فلم صار ادخال منطق الاستقراء يمثّل مشكلة بينما ادخال منطق أرسطو لا يمثّل مشكلة! وهل يعرف كاتب هذه الكلمات أن بحث التواتر الذي يمثّل وسيلة من وسائل الإثبات الوجداني (اليقيني العلمي) يعتمد على منطق أرسطو، وأن حجية التواتر تستند إلى قاعدة أرسطية يدعى أنها قاعدة عقلية بديهية! بينما السيد الصدر يرفض ذلك ويعتبرها قاعدة استقرائية تجريبية ويرى أن التواتر يقوم على حساب الاحتمال وليس تلك القاعدة المدعاة! وهل خفي على صاحب التعقيب الكم الكبير من الأدوات الأرسطية التي أدخلها علماء أصول الفقه في أبحاث الأصول واعتمدوا عليها كثيراً في بناء هذا العلم؟ وهل غاب عنه أن نظرية العلم وتعريفه وحقيقته وإفادته لليقين وما يتعلّق بالكشف والانكشاف هي نظرية أرسطية! فضلاً عن اعتمادهم المنطق الأرسطي في علم الكلام والعقيدة!

إن إطلاق الكلمات والدعاوى المهلهلة في الهواء الطلق سهل جداً، فأي إنسان مهما كان محدود الإدراك والفهم والاطلاع يمكنه أن يطلق مثل هذه الدعاوى بكل يسر وسهولة، ولا توجد ضريبة على ذلك سوى ضحك الآخرين! فيمكن لكاتب هذه السطور أن يقول بشكل ارتجالي: "إن فيلسوف العلم المعروف كارل بوبر لديه أخطاء كارثية منهجية وعلمية ما كان ينبغي أن تصدر منه، وأن برتراند راسل لديه اشتباهات رياضية مضحكة"!

ولكن ما هي قيمة مثل هذا الادعاء إذا لم يعزّز بالشواهد من كلام بوبر وراسل؟! ألسنا من أتباع الكتاب الإلهي الذي يصدح قائلاً: {قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين}!

إننا في ذات الوقت الذي نرفض فيه الغلو ونظرة التقديس ونؤكّد على النقد، ولكن للنقد أسسه العلمية والموضوعية، وهو عملية تعكس أمانة وعلمية صاحبه!

أما الادعاء بأنهم لا يقبلون النقد، فإننا وإن كنا نقرّ بوجود هذه الظاهرة عند بعض الناس، ولكن تعميمها غير صحيح. على أن المعرفة والعلم والنقد وتسجيل الملاحظات ليست مشروطة بموقف الآخرين، فسواء رفضوا أو لم يرفضوا فهذا لا ينبغي أن يغيّر من طبيعة العمل العلمي والمعرفي، فقدّم منجزك ببناء علمي وفنّي، وبحوار مؤدب وأسلوب موضوعي أخلاقي، وما عليك من موقف الآخرين مهما كان.

شخصياً أفرح كثيراً عندما أجد نقداً لأفكار وأطروحات السيد الصدر، وأبحث عنها، وكم حزنت لما اطّلعت على الفصل الخاص بالسيد الصدر من كتاب الدكتور علي حاكم صالح (الأيديولوجيا وتمثيلاتها الفلسفية في الفكر العراقي الحديث) عندما وجدته خالياً من النقد والإشكال ويقتصر على التوصيف البحت فحسب، برغم أهمية التوصيف التي لا تنكر وهي مقدمة للنقد، ولكن النقد هو الأهم.

نشر ‏ليث‏ ‏4‏ منشورات حديثة في هذه المجموعة. تعرف على المزيد عنه.




  • المصدر : http://www.kitabat.info/subject.php?id=117573
  • تاريخ إضافة الموضوع : 2018 / 04 / 03
  • تاريخ الطباعة : 2024 / 03 / 28