• الموقع : كتابات في الميزان .
        • القسم الرئيسي : ثقافات .
              • القسم الفرعي : ثقافات .
                    • الموضوع : وجهٌ من الطف ، شعرية المفارقة في قصيدة حسينية .
                          • الكاتب : د . علي مجيد البديري .

وجهٌ من الطف ، شعرية المفارقة في قصيدة حسينية

                                              (1)

 يَنتمي النصُّ الشعريُّ المدروسُ هنا إلى ما يُسمى في الشعرِ العربيِّ المعاصِر بـ"قصيدة النثر". و تُعدُّ هذه الأخيرةُ من أبرزِ التحولاتِ الفنيةِ والنوعيةِ التي حدثتْ في تاريخِ القصيدةِ العربيةِ الحديثةِ. وقد حاولتْ العديدُُ من الدراساتِ النقديةِ تحديدَ السماتِ الفنيةِ والمزايا الجديدةِ لهذه القصيدةِ، متخذة ًمن كتابِ سوزان بيرنار(1) مظلة ًنقدية ًلها، وهيَ تؤشرُ الوعيَ، والإيجازَ، والتوهجَ، والمجانية، شروطاً لهذا الشكل ِالشعريِّ الجديد.على أنَّ من أبرزِ ما تتسمُ بهِ قصيدة ُالنثرِ  بحثها المُستمرَ عن التغايرِ والإختلاف ، وسعيَها إلى الإنفلاتِ عن سطوةِ التأطيرِ والحدودِ المُغلقةِ، متوسلة ًفي تحقيقِ ذلكَ استثمارَ كلِّ محفِّزٍ للكامنِ من الطاقاتِ الجماليةِ في اللغة ِـ خُصوصاً ـ وفي عناصرِ البناءِ الأخرى عُموماً .

   ولا نريدُ أنْ نخوضَ في الإشكالياتِ الكثيرةِ المثارةِ حولَ هذهِ القصيدةِ فنخرج عن موضوعِ المقالِ، ونكتفِي بهذا التعْريفِ البسيطِ لننتقلَ إلى معاينةِ مفردة ٍجماليةٍ في قصيدةِ نثرٍٍ لشاعرٍ بصريٍّ هو (طالب عبد العزيز)، الذي أصدرَ حتى الآن ثلاثَ مجاميعَ شعريةٍ هي:( تاريخُ الأسَى 1994)، و(ما لا يفضَحُه السِّراج 2000)، و(تاسوعَاء 2004). والقصيدةُ موضوع ُالدراسةِ عُنوانُها (على آخرِ الرَّمل) نُشِرتْ في مجموعةِ الشاعِرِ الثانية.(2)   

                                                         (2)

(نص القصيدة)

                                   على آخر الرَّمل

 

إنكسَرَ الصَّباحُ على الفُراتِ

أصحابُ عَمي وأهلُه يَحفُّونَ بهِ

والشمسُ سَطرُ فسيفساءَ لم يتهشمْ بَعد

سيفُ أبي في الخِزانةِ 

وعمامتُهُ عَلى رأسِي

تكلَّموا وسيوفُهم مُشرعة

تكلَّمَ وسيفَهُ مُغمَد

أرادَ أنْ لا تقعَ الحربُ

لكنَّهم اشتمَلوها دروعاً

رماحُنا في الخيامِ

ورماحُهم في العراء

ولمَّا نَضَجَ النَّهار

اكتملتْ شهوة ُالأعداءِ بنا

واخترَط َالموتُ من سيفِه شِبرا

فاحتطبُوا المنايا

وطلبنا لأجسادِهم النارَ

راياتُنا سود

وَهم بلا راياتٍ

لكنَّ نصرَنا لا بدَّ أنْ يقطرَ مِن سُيوفِهم

ولمَّا كانتْ الشمسُ تَذبلُ على آخر الرَّمل

كرهتُ دمي

فجعلتُ قلبي على راحةِ سَيفِي

ومَضيتُ إليهِم

والحديدُ لمْ يَلُحْ بعدُ على جَسدي

زعموا بأني قمرٌ

وأشبَهُ جدي

 

الذين حَولي كرِهوا أنْ يُلاقوا الله

بدمي

لكنِّي عفَّرتُ بأبدانِهم الثرى

ولمَّا بلغتْ جراحِي مائة

آويتُ إلى عَمِّي

كي أموتَ أمامَه

                                 (1981)             

                                                  

                                                       (3) 

 

   قبلَ أنْ نتأمَلَ بنية َالمُفارقةِIrony   في القصيدةِ، نتوقفُ قليلاَ عندَ ما يَمنحُ المفارقة جماليتها وشعريَّتها، فهي ((تستمدُّ قوتها مِن واحدةٍ من أشدِّ وأقدمِ وأكثرِ المُتعِ دواماً في الذهنِ البشريِّ المتأمِّلِ متعة َمقابلةِ المظهرِ بالحقيقةِ))(3) حيثُ تولي عنايتها إبرازَ حِدة َالتناقض ِبينَ طرفينِ، مُستفِزة ًهدوءَ التناقضِ البسيطِ إلى أعْلى درجاتِ انفجارِ صُراخِه وأكثرِها امتداداً. كما أنَّها ((قولُ شيءٍ بطريقةٍ تستثيرُ لا تفسيراً واحداً بل سلسلة ًلا تنتهيَ منَ التفسيرَاتِ المُغيِّرة))(4) عندَ المتلقي.

   إنَّ اعتمادَ بنية َالمُفارقة نَسقاً جَمالياً في النَّص أمرٌ لا يمكنُ النظرُ إليه بمعزلٍ عن آفاق ِالتجربةِ الحياتيةِ والجماليةِ للشاعر، وما يدفعُ إلى هذا ما يعقِدُهُ الشاعرُ من قنواتٍ حواريةٍ بين ما هو جَماليّ فنيّ وما هو حياتيّ يوميّ في مقاربتهِ الشعريةِ للحياةِ (القصيدة) فـ ((التعبيرُ بالمفارقةِ، يرتبط ُلدى الشاعرِ المعاصرِ بالموقفِ الجدليِّ من الحياةِ والعصرِ، وما يَشوبُه من صراعٍ يجعلُ الفعلَ يَرتمي من أحضانِ اللا معنى، حيثُ تُصبح المفارقة ُهي الوسيلة ُالوحيدة ُالتي تقررُ المعنى بافتراض ِخلفيةٍ لجميع ِمظاهرِ الصراع ِفي هذا العصر))(5)  

   إلا أنَّ الإمساكَ بشعريةِ المفارقةِ والقدرةِ على تحويلِها إلى بنيةٍ فاعلةٍ في النَّصِ أمرٌ لا يقدرُ لكلِ شاعرٍ أو نصٍ، وذلك لارتكازِ التناول على مدى حساسيةِ الوجوهِ المُتناقضةِ من صورِ الحياةِ، واقتناصِ المُدهش من مرجعياتٍ متزاحمةٍ قد ترتبكُ أو تنفلتُ من بين أصابع ِبعض ِالشعراء، وتفقد ُحضورَها الفاعلَ وهي تدخلُ فضاءَ النَّص. لذا فإنَّ توظيفَ المفارقةِ في بناءِ النَّص ِالشعري لا بدَّ أنْ يُشكلَ نَسقاً دالاً يتجاوزُ الإطارَ اللسانيَّ البسيطَ للجملةِ كوحدةٍ جزئيةٍ إلى أخذِ النص ككل في الإعتبار ؛ لأنَّ المفارقة ترتبطُ بالمجالِ الفكريِّ الذي يثيرُ الموقفَ العام داخلَ القصيدةِ.(6) فالعملية ُإذن عملية ٌتكشفُ عن طاقةِ المفارقةِ، وحثِّها على خلقِ مناخِها الفاعلَ في السياقِ مُتزاوجة ًومتوحدة ًمع كليةِ النَّص.

                                                  

                                                      ***

 

   تبني قصيدة ُ(على آخر الرمل) استهلالَها بشكلٍ يهيئُ القارئَ لإرصادِ خاتمَتها من خلال :

ـ  انكسارُ الصَّباح 

ـ  تهشُّم الشمسِ المُرتقب 

ـ وما بينَ الإنكسارِ والترقبِ :  "أصحابُ عمِّي وأهلَه يَحفونَ به".

هكذا يَبدأ بناءُ المفارقةِ، وهي تدخلُ فضاءَ واقعةٍ تاريخيةٍ بارزةٍ (وقعة الطَّف) حينَ يَجعلُُ الشاعرُ شخصية َالإمام الحسين(عليه السلام) وصحبَه وأهلَهُ مُحاصرة ًبينَ صباحِ عاشوراءَ المتكسِّرِ، وظهيرَته التي ستتهشمُ بشكلٍ يُنبئ ُبانفراطِ الشملِ وتفرقه. هذه المفارقة ُالتي تجسِّدُها بنية ُالمَشهدِ الإستهلاليّ، تؤسسُ ارتِباطاً تركيبياً معَ بنيةِ النص الكُليةِ، وتكاد تشكلُ نواة ًأو ثيمة ًأساسية ًمكتنزة لدلالةِ النص بأكملِه. ثم يتواصلُ النَّصُ عبر اعتمادِه بنية َالوصفِ والإخبارِ في تحقيقِ المفارقةِ وتناميها، فعلى لسانِ (الغلام) ـ الذي يبرز إلى ساحةِ الحربِ ـ تتجسدُ صورة ُطرفَي المعركةِ؛ الجانبُ الحُسينيّ الذي يَنتمي إليه الصبيُّ، فهو القاسمُ بنُ الإمام ِالحَسن (عليهما السَّلام)، والجانبُ الآخرُ تمثله سيوفُ الأعداءِ المشرعَةِ، والرِّماح التي تحتطبُ المنايا في العَراء.

   ويضيءُ لنا التاريخُ بعضَ ملامحَ القاسم ِبنِ الإمام ِالحَسن (عليهما السلام) ؛ فهو يتقلدُ سيفَ أبيهِ الحسن (ع) وعمامَته ، بعد أنْ تُخرجهما أمُه من خزانتِها، وكانتْ قد ادخَرتْ السَّيفَ والعمامة َليوم الطفِ بناءً على وصيةِ الإمام الحسن (ع) لها.

   وينقلُ الطبريُّ في تاريخِه عن أبي مخنف قولَه (( قال حُميدُ بنُ مسلم: خرجَ علينا غلامٌ كأنَّ وجهَه شِقَّة قمرٍ في يدِهِ سيفٌ، وعليه قميصٌ وإزارٌ، ونعلانِ قد انقطعَ شِسعُ إحداهُما، فقالَ لي عمرُ بن سعيد بن نُفيل الأزدي: واللهِ لأشدنَََّ عليه. فقلتُ سُبحان الله، وما تُريدُ بذلك؟! دعْهُ يكفيكهُ هؤلاءِ القوم الذين لا يبقون على أحدٍ منهم!، فقال واللهِ لأشدنَّ  عليه. فشدَّ عليه فما ولَّى حتى ضربَ رأسَه بالسيفِ ففلقه، ووقعَ الغلامُ لوجهِه فقالَ : يا عماه! فجلّى الحسينُ ]ع[ كما يجلي الصقرُ ،....... وانجلتْ الغبرة ُفرأيتُ الحسينَ ]ع[ قائماً على رأسِ الغلامِ وهو يفحصُ برجلِه، والحسينُ]ع[ يقولُ: بُعداً لقومٍ قتلوكَ، ومن خصمُهم يومَ القيامةِ فيك جدّك. ثم قالَ: عزَّ ـ والله ـ على عمِّك أنْ تدعوَه فلا يجيبُك، أو يجيبُك فلا ينفعُك، صوتٌ ـ واللهِ ـ كثُرُ واتروه وقلَّ ناصروه!!....))(7)

    إنَّ المتأملَ لوقعةِ الطف عامة، وللمجتزأ التاريخيّ أعلاه ـ بشكلٍ خاص ـ يَخرجُ بنتيجةٍ مؤلمةٍ هي أنَّ الوقعة كلَّها عبارة عن (مفارقةٍ سوداءَ) متمثلة ًفي أفعالِ الإنكار والتكذيبِ والغدرِ والقتلِ والتمثيلِ والحَرقِ والسَّبي بأجسادٍ طاهرةٍ هي امتدادٌ لجسدِ وروحِ النَّبيِّ الهَادي، الصَّادق، الأمِين، صاحِب السكينةِ...الخ. 

    ولعلَّ اكتنازَ الوقعةِ بصورٍ من هذه المُفارقةِ المُؤلمةِ مَثلتْ حَافِزاً كبيراً لقصيدةِ (عَلى آخر الرَّمل) في أنْ تقومَ على (مفارقة متنامية) تبدأ في الإستهلال، لتصلَ إلى الخاتمةِ بشكلٍ يُوحي بالإستمرار لا الإنتهاء.  فيأتي السطرُ الشعريُّ : "لكنَّ نصرَنا لا بُدَّ أنْ يقطرَ من سيوفِهم"، ليعيدَ تشكيلَ بنيةِ المُفتتح للقصيدةِ عِبر مُفارقةٍ واضحةٍ، فالنَّصرُ لا بدَّ أنْ يكونَ بالإستشهاد.

    ويقفُ (الغلام) متأملاً المشهدَ : ((ولمَّا كانتْ الشَّمسُ تذبلُ آخرَ الرَّمل/ كرِهتُ دمي/ فجعلتُ قلبي على راحةِ سيفي/ ومضيتُ إليهم))، وهكذا تَتدفقُ صِورُ المُفارقةِ راسِمة ًجَو المعركةِ من خلال ِعينِ الغلامِ الذي ـ وعلى نحوٍ مُنسجم ٍتماماً مع إنباءِ المُفتتحِ ـ يختارُ نَصرَه في أنْ يُكملَ نزفَ دَمِهِ بينَ يدي عمِّهِ الحسين (عليه السلام).

   إنَّ التماثلَ الدلاليَّ القائمَ بينَ أولِ سَطرٍ شعري ٍوآخرِ سَطرٍ من النَّصِ يُؤكِّدُ دورانَ المُفارقةِ التي نَمَتْ بشكلٍ عضوي داخلَ النَّص:

                      إنكسارُ الصباحِ                 موتُ الغلامِ  

 

وعلى المُستوى الجماليِّ لبنى الوصْفِ المُستخدَمةِ في البناءِ، فإنَّ انتقالاتِ المُفارقةِ لم تسقط في نثريةٍ باردةٍ، بل حافظتْ ـ وعبر انسجامِها مع بنيةِ النَّص الكليةِ ـ على حرارةِ شِعريَّتها وهي تنمو وصولاً إلى الخاتِمة.

 

الإحالات   ................................................................................................

(1)    الكتاب في الأصل أطروحة دكتوراه للكاتبة، ترجمه عن الفرنسية الدكتور زهير مجيد مغامس، بعنوان: قصيدة النثر من بودلير إلى أيامنا،وصدر عن دار المأمون للترجمة والنشر ـ بغداد سنة 1993.

(2)    ما لا يفضحه السراج: طالب عبد العزيز، دار الشموس للدراسات والتوزيع والنشرـ دمشق، ط1، 2000: 29ـ 30

(3)    المفارقة وصفاتها: د.سي.ميوبك، تر: د. عبد الواحد لؤلؤة، دار المأمون للترجمة والنشر ـ بغداد، د.ت: 58.

(4)    المصدر السابق: 43.

(5)    اللغة الشعرية دراسة في شعر حميد سعيد: محمد كنوني، دار الشؤون الثقافية العامة ـ بغداد، 1997: 271.

(6)    ينظر: المصدر السابق:271.

(7)    تاريخ الأمم والملوك: أبو جعفر محمد بن جرير الطبري ، تح: محمد أبي الفضل إبراهيم ، دار المعارف ـ مصر ، ج5، ص 447.


كافة التعليقات (عدد : 1)


• (1) - كتب : ادارة الموقع ، في 2011/12/10 .

نعتذر للاخ الكاتب الدكتور علي مجيد البديري عن الخطا الفني في عنوان الموضوع نتيجة بطيء النت



  • المصدر : http://www.kitabat.info/subject.php?id=11992
  • تاريخ إضافة الموضوع : 2011 / 12 / 08
  • تاريخ الطباعة : 2024 / 03 / 28