• الموقع : كتابات في الميزان .
        • القسم الرئيسي : المقالات .
              • القسم الفرعي : المقالات .
                    • الموضوع : السلطة واغتصاب اللغة  .
                          • الكاتب : د . حسين القاصد .

السلطة واغتصاب اللغة 

    طالب الدكتور علي جواد الطاهر رواد الشعر الحر بقليل من الإيهام والابتعاد عن الوضوح ، ونفى قدرة بعضهم على ذلك  ، حيث قال : ( لا يستكمل الشعر الحر ـ وهو في أصله الفرنسي ابن شرعي للرمزية ـ ميزاته وكيانه ما لم يخرج به صاحبه ـ.. إلى شيء من الإبهام  . وقلما يهيئ عنصر الإيحاء الذي يخلق من القصيدة جوا عاما هو معناه الذي تحسه النفس ولا يحدده العقل . 
  وهنا ، لا بد من انتظار قليل حتى تتوافر صلة جيدة بالشعر العربي الرمزي مع معرفة بما يميز هذه المدرسة مما سبقها ، وحالة نفسية مؤاتية  ، وبحث عن جديد وتميز .. وتوطد في التجارب السابقة .. ) ، إن الدكتور الطاهر وهو يدعو إلى شيء من الغموض ، فإننا نجد في ذلك محاولة لإنقاذ الشعراء من الانكفاء الذاتي فنيا ، والاكتفاء بالوضوح مفضلين الموضوع على البناء الفني ، والسلطة على القصيدة . لذلك نراه يشير بوضوح للشعراء حتى من زاوية علاقتهم بالسلطة فيقول ( فمن  من الشعراء يا ترى سيكون المنتظر ؟ من الصعب أن يكون بلند لأنه اكتمل في نسق نظمه ، ومن الصعب أن يكون شاذل لقوميته ، ومن الصعب أن يكون البياتي لأنه لا يجد المثل إزاءه ، وتعده ضآلة لغته الأجنبية إلى الاطلاع المطلوب غير ما هو من اتجاه سياسي و " ثقافة جديدة " وسباق إلى المركز السياسي الذي يرفع اسم صاحبه شعبيا آنذاك) . 
   وكلام الدكتور الطاهر ـ دون أدنى شك ـ يمثل شجاعة النقد ، ففي الوقت الذي يعمل فيه الناقد والشاعر لخدمة السلطة ، في مهرجان كالمربد في عام 1985، أقامته السلطة لتكثف الحشد العربي والشعبي والإعلامي لدعم السلطة في حربها مع إيران ، يسمي الدكتور الطاهر الأشياء بأسمائها ، ويجعل الهاجس السياسي والسلطوي سببا لتدني مستوى الشاعر ، وهو الواضح في استثنائه شاذل طاقة " لقوميته " ، ذلك لأن الفكر القومي الذي يريده البعث هو فكر السلطة ، والسلطة تريد القصيدة الواضحة ، وهذا الأمر يقف عائقا في طريق الشاعر الذي يراد منه أن يكون مبدعا ذا بصمة منفردة وواضحة . 
   ويشير الدكتور الطاهر إلى الانتماء الحزبي لرواد الشعر الحر ، وأثره في شعرهم ، فيقول:    ( من طبيعة هذا الانتماء ـ على مر الزمن ، ومنذ أن كان ـ أن ترد لدى الشاعر المنتمي مفردات من الحزب الذي ينتسب إليه ، ويعتنق مبدأه . ومشهور من بدر أمر شيوعيته ، وكان طبيعيا أن ترد لديه مفردات الحزب وشعاراته : ولكن الملاحظ أن ذلك جاء معتدلا وأقل من المعتدل) ، وهو تشخيص يميز السياب بأن مفردات السلطة لم تدفع بشعره إلى التخلي عن الفنية ، واللجوء للوضوح ، فضلا عن إن جمود الكلام الحزبي يحط من فنية الخطاب الشعري . 
   لكن الأمر مع عبد الوهاب البياتي ، يختلف كثيرا ، إذ يقول الدكتور الطاهر : ( أما عند عبد الوهاب البياتي فقد طفح الكيل لديه ، ودخل في المبالغة والغلو ، ويأتي على رأس تلك المفردات ... التي صارت مصطلحا لا لبس فيه كلمة " رفيق " ومؤنثها رفيقة " وجمع الرفيق " رفاق " وجمع الرفيقة " رفيقات " . وقد أحصيت منها مابين ديوانه : أباريق مهشمة ، الصادرة سنة 1954 وبين ديوانه الرابع " كلمات لاتموت " الصادر في 1964 ، ومرورا بـ " المجد للاطفال والزيتون " و" عشرون قصيدة من برلين " : أحصيت منها أكثر من ثلاثين مرة) ،إن تكرار المفردات الحزبية بدا مهيمنا على مضمون القصيدة  ، فأسهم في وضوحها إلى الحد الذي تتساوى فيه مع الخطاب الحزبي ، وهو ما دفع الدكتور علي جواد الطاهر إلى القيام بإحصائية لكل الألفاظ التي خرجت عن معناها المتداول والمتعارف عليه ، إلى الدلالة الحزبية والسلطوية . وقد يقول قائل بأن السياسيين اغتصبوا اللغة ووظفوها لخدمتهم ، وجوابنا هو : أن الشاعر استعملها مغتصبةً معتمدا على دلالاتها الجديدة ، بعد أن خرجت من إنسانيتها إلى الحزبية الضيقة .
 ان  اغتصاب وعي الشاعر من قبل السلطة  هو الأمر الذي أدى إلى اغتصاب اللغة ، لتتمكن السلطة بعد اغتصاب فكر الشاعر ، ومن بعده ، اللغة  إلى إنتاج خطابها الذي ( يترك المخاطَب في حالة مستديمة من الشعور بالتهديد والذنب والخطأ . وعلى درجة من الاحتراس والحذر الشديدين ، وهو خطاب إرغام ، موجه ببعد واحد ... ان كلمات من قبيل " الله ، المبادئ ، الدين ، الماضي الجديد ، التراث الخالد ، الوطن ،الشعب ، القومية .." هي عناصر مستكملة ومحتكرة وممثلة في نسيج الخطاب ) (أنطقة المحرم : 142) . 
  إن اغتصاب الكلمة هو الذي جعل المثقفين يسمون ( الجلاد رئيسا ، والمرتزقة وزراء ، ومدراء ... والمنظمة السرية  حكومةً ودولةً  ، والأوراق المملاة بالترغيب والترهيب صحافةً ورأيا عاماً) (العودة الى كاردينيا ، فوزي كريم ، دار المدى ، 2004 : 18)  ، ومثلما وجدنا رمزية كلمة " الرفيق " التي رصدها الدكتور علي جواد الطاهر في منجز عبد الوهاب البياتي الشعري ، وكيف خرجت هذه الكلمة من معناها الاجتماعي إلى دلالتها الحزبية ، وهو الأمر الذي استهجنه الدكتور الطاهر ، على عكس ما يفعله نقاد المنهج البعثي حين يبحثون عن مفردات مثل " البعث ، التأميم ، الطليعة ، الثورة ، الحزب " ، نجد مغتصبي اللغة ونقاد المنهج البعثي يجعلون رمزية مضاعفة للكلمات التي تعنيهم بعد أن قاموا باغتصابها  ، فلقد رفع الإعلام كلمات ( إلى مستوى التجريد الرمزي ، وصارت شاهدة للموت الجماعي : شباط ، نيسان ، حزيران ، الحزب ، القائد ، القيادة الحكيمة ، المؤسس ، فلسطين ، الجبهة ، ثم السيد النائب . هذه الكلمة الاخيرة سرعان ما أصبحت ارفع التجريدات الرمزية وسرعان ما تشبّحت تحت ظلها كل الكلمات الأخرى وأصبحت باهتة ) (العودة الى كاردينيا ، فوزي كريم ، دار المدى ، 2004 : 18).
  هكذا كان دور الناقد البعثي ، والمؤسسة السلطوية ، ولكي تكتمل الحلقة وحين تريد السلطة شاعرا بعثيا ، لابد أن توفر له ناقدا يسوّق ما يقول ، ومؤسسة تنشر ما تم تسويقه . 
 لقد دخل الناقد البعثي من باب الاتفاق الايدلوجي بين الشيوعيين والبعثيين ، واستثمر " الأدب الثوري " الذي اعتمده الشيوعيون في بداية الأمر قبل أن يتلقفه المصريون في زمن عبد الناصر ويجعلونه طريقا لتثوير الادب من اجل القومية ؛ وحين عادت القومية بثوبها البعثي كانت كل أدوات الناقد البعثي جاهزة ، بانتظار ما يقول شاعر البعث .




  • المصدر : http://www.kitabat.info/subject.php?id=129588
  • تاريخ إضافة الموضوع : 2019 / 01 / 24
  • تاريخ الطباعة : 2024 / 04 / 19