• الموقع : كتابات في الميزان .
        • القسم الرئيسي : المقالات .
              • القسم الفرعي : المقالات .
                    • الموضوع : ثقافة (البدون) وتطبيقاتها في العالم .
                          • الكاتب : كاظم الحسيني الذبحاوي .

ثقافة (البدون) وتطبيقاتها في العالم

 يبدو أنّ وجود ظاهرة (البدون) انعكاسٌ من انعكاسات التباين الطبقي الذي هو نتاج طبيعي لتكوّن المجتمعات البشرية نتيجة التباين في الملكات والإمكانات والجـِبلّة ؛إذ لا يُنظر إلى الناس نظرة متساوية . قال تعالى في الآية 11من سورة المجادلة :(يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) ثم قوله تعالى: (وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لأَمْلأنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ * [هود : 118 ـ119] .

وعند تصفح القرآن العظيم نجد تفشي ظاهرة (البدون) في التاريخ بشكل بشع .فمثلاً خذ إليك الحوار الذي كان يجري بين نبي الله نوح سلام الله عليه وبين كبراء قومه الذي يظهره قوله تعالى:( وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ * أَن لاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ اللّهَ إِنِّيَ أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ *فَقَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قِوْمِهِ مَا نَرَاكَ إِلاَّ بَشَراً مِّثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلاَّ الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِن فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ *[ هود :25 ـ27] فكان جواب هذا النبي لقومه كما تعرضه لنا سورة الشعراء :( قَالَ وَمَا عِلْمِي بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * إِنْ حِسَابُهُمْ إِلَّا عَلَى رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ * وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الْمُؤْمِنِينَ*)[ الشعراء :112 ـ 114] .
إذن مسألة التباين الطبقي الذي يمكن النظر إليها على أنها ظاهرة طبيعية لكنّ كبراء الأقوام أخذوا بالتفكير بضرورة جدوى استمرار استحواذهم على وسائل الإنتاج ،ومنها قوّة العمل البشرية ،فشاع الظلم واختفى القسط في الأرض شيئاً فشيئاً نتيجة لذلك . انظر إلى هذه الصورة التي يعرضها لنا قوله تعالى ،مثالاً على ذلك :( كَذَّبَتْ عَادٌ الْمُرْسَلِينَ * إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ أَلَا تَتَّقُونَ * إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ * فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ * وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ* أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ* وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ* وَإِذَا بَطَشْتُم بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ*فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ*[ الشعراء :123 ـ 131] . انظر إلى قوله فيها : إذا بطشتم بطشتم جبّارين ، لترى كيف يستثمر المسيطرون على وسائل الإنتاج ، ممّا يكرّس ظاهرة الظلم الاجتماعي التي يمارسها الأقوياء مادياً ضد الضعفاء مادياً وانعكاس ذلك على الحالة النفسية للمجتمعات وللإفراد أيضاً .
ولقد كانت دعوة الأنبياء عليهم السلام هو بسط العدل في الأرض واجتثاث شأفة البغي بين الناس، من خلال إنصاف المظلومين بجملة من الوسائل الكفيلة بفض آثار هذا التفاوت ،وهو المعنى الذي أكده القرآن العظيم في مواضع منه ، أمثال قوله تعالى :( كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلاَّ الَّذِينَ أُوتُوهُ مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ لِمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللّهُ يَهْدِي مَن يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ) [البقرة : 213] .
وصفوة القول : إنّ التفاوت بين الناس ناج عن التفاوت بالخلقة من حيث الملكات ومن حيث الاستعدادات ونحو ذلك . لكننا نلحظ استئثار الأقوياء بحقوق الطبقات الأضعف، فكانت علة إرسال الرسل والأنبياء هو التصدي لاستعباد الناس . هذه هي الفكرة بخطوطها العريضة ،وهناك تفصيلات طويلة ليس هنا محل ذكرها لأنها معروفة .
لكنّ الذي تنبغي الإشارة إليه هي حقيقة اتساع مساحة الظلم وتعاظمها في هذا العالم بحيث يصير أهل القرى غرباء في قراهم ،والغرباء أهل القرى يمارسون شتى صنوف الإرهاب والقتل والاستئثار بالموارد ما يـُبقي الهوّة بين الطائفتين واسعة ؛بل أنها آخذةً بالتوسع بمرور الأيام ،فقامت بعض التشريعات الحديثة بمحاولات لمعالجة هذه الظاهرة الخطيرة بأن سنَّت قوانين تتيح لأهل الدار أن تكون لهم القيمومة على الوافدين إليه ، أو قل لا يصح بسط المساواة بين القادم وبين المقيم ، تلك المساواة التي تثير الشحناء بين سكان البلد الواحد. وقد لاحظ المجتمع العراقي كيف تصاعدت الشحناء في ما بينهم نتيجة قيام الحكومة البعثية بمنح حق المواطنة في العراق للمصريين ولغيرهم أمثالهم ،في الوقت الذي هجّرت أهل الدار بدعاوى ظالمة مازال الناس يحصدون آثارها اليوم .
فمن وجهة نظر سياسية [ أقول من وجهة نظر سياسية بحسب قاعدة الإلزام] أنا مع هذا النوع من التوجّه ،شريطة أن لا يفضي إلى الظلم المشار إليه ـ كما في حالة دول مجلس التعاون الخليجية ـ ففي العراق نجد الحاجة ملحة لأن يكون أهل الدار أحق من غيرهم بموارد بلدهم من غيرهم [ أوربيين ومصريين وأردنيين وفلسطينيين وإيرانيين وسودانيين وسوريين ويمنيين وغيرهم] ممّن جعلتم الحكومات العراقية المتعاقبة هم أهل الدار ،وأهلُ الدار هم البدون ،وهذا ـ برأيي ـ هو السبب الكامن وراء فشل جميع الحكومات في العراق بإنشاء أجهزة دولة يمكن وصفها بأنها أجهزة محايدة لا تتأثر كثيراً بالتجاذبات السياسية التي تقع هنا وهناك باعتبارها أجهزة تتولى رعاية أهل الدار قبل رعاية غيرهم ممّن تتقاذفهم أمواج التغييرات الدولية والإقليمية التي تعصف بالبلاد منذ العام 1914 وإلى اليوم .
وهذا بالطبع لم يحدث فجأة ؛بل هو من ثمار السياسة التي اتبعها السلاطين العثمانيون التي قامت على القهر والاستبداد بحق المواطنين أهل الدار الذين جُعلوا قوة معارضة لمخططاتهم وسياساتهم ،فقد اعتاد العراقيون منذ ذلك الزمن الأغبر على جعلهم مواطنين من الدرجة الأخيرة من درجات السُّلّم الاجتماعي ،فكان السخط متبادلاً بين المتسلط ،وبين المتسلَّط عليه ظاهرة اجتماعية لا سمكن اجتثاثها إلاّ باجتثاث منظومة القيم هذه .
17 / 1/ 2012



  • المصدر : http://www.kitabat.info/subject.php?id=13292
  • تاريخ إضافة الموضوع : 2012 / 01 / 18
  • تاريخ الطباعة : 2024 / 04 / 18