• الموقع : كتابات في الميزان .
        • القسم الرئيسي : المقالات .
              • القسم الفرعي : المقالات .
                    • الموضوع : انتفاضة أبي ذر الغفاري ، قصتها وفلسفتها .
                          • الكاتب : يحيى غالي ياسين .

انتفاضة أبي ذر الغفاري ، قصتها وفلسفتها

شخصية أبي ذر وسابقته في الإسلام وإيمانه وزهده وصحبته للرسول الأكرم صلوات الله عليه وخليفته من بعده أمير المؤمنين ع وكلمات النبي والائمة المعصومين ع بحقه ، ومناقبه التي أقرّ بها العام والخاص .. كلها مما لا ينسيه أمس ولا يطغى على ضوءه شعاع شمس ..

غير أن ثمة قضية قد فتح ملفها رضوان الله عليه في آخر سني عمره الشريف وبذل من أجلها حياته المليئة بالجهاد والاجتهاد حتى باتت علامةً إسلامية فارقة تضاف الى علامات أُخر ترصّعت في تأريخ الإسلام ومسيرته بعد رحيل النبي صلوات الله عليه والى الآن ..

وهذه القضية ايضاً تمثل إحدى أهم الملفات الإسلامية والإنسانية التي طالما فُتحت بوجه المستأثرين من قبل المؤستثر عليهم ، فهي إحدى أوجه قيام المظلومين على الظالمين ، هي ثورة من ثورات الجيّاع على المتخومين ..
فرغم اختلاف تلك الثورات والانتفاضات ببعض التفاصيل والجزئيات ، ورغم تنوعها في الأدوات المستخدمة والآليات ، الاّ أن الثابت فيها محفوظ ، وملاكاتها كما يُعبر واحدة ، وأن الإرسال في بعض نصوص تشريعاتها لا يؤثر مادامت أنها بالضرورة تتبع ظروفها الخاصة ومادامت أنها تنطلق من نقطة واحدة وتنتهي الى نقطة واحدة ايضا ..

من دواعي الإنتفاضة

لقد وقعت خلافة عثمان بن عفان بالكثير من التجاوزات والانحرافات المالية والادراية ومن غير أن تقابلها جهة رقابية ذات صلاحيات وامكانيات قادرة على الإصلاح وتقويم ما فسد وانحرف ..

وعند تصفّح المستندات الرسمية لأرشيف هذه الخلافة فإننا نجد هذا الفساد الإداري والمالي واضحاً وبادياً للعيان وعلى لسان الخليفة نفسه حيث يقرّ بلسان التعليل أنه استأثر بالأموال لنفسه وخاصته من عشيرته ال أمية ومن والاهم ، فقرّبهم وسلّطهم على مقدّرات الدولة انئذ حيث يقول : ( إن أبا بكر وعمر كانا يحتسبان في منع قرابتهما وأنا احتسب في إعطاء قرابتي ) ، ويقول : ( لنأخذن حاجتنا من هذا الفيء وان رغمت أنوف أقوام ) .

ومثلاً ايضاً يذكر لنا التأريخ أن عثمان عندما فتح أفريقيا عام ٢٧هـ أعطى خُمس غنائمها إلى مروان بن الحكم زوج ابنتـه أم أبـان ..

وكذلك وصل نسيبه الحكم بن العاص بصلة بلغت مائة ألف درهم ، وولّاه على صدقات قضاعة ، فبلغت ثلاثمائة ألف فوهبه إياها وهو من أعداء الإسلام ، وطريد النبي ، ولم يردّه الخليفة أبو بكر ولا الخليفة عمر ..

وعشرات التجاوزات المالية التي ذكرتها المصادر بالأرقام ، تركناها اختصاراً ..

امّا عن احتكار المناصب الإدارية لخاصته واقربائه ، فهذا باب آخر للفساد قد اتسمت به الدولة ايّام خلافة عثمان ، فأعطاهم مناصب أهم الولايات ، كالشام ومصر والكوفة والبصرة وغيرها من المناصب الادارية المتحكمة بإدارة البلاد والعباد ..

لم يكن عثمان مهتماً بالانتقادات التي توجه اليه ، ولا يعطي لنصائح الصحابة وعلى رأسهم امير المؤمنين ع أهمية فضلاً عن تجاهله لحرمة أحكام الإسلام وتشريعاته وسننه ..

نتجت عن كل ذلك ظاهرة الطبقية في المجتمع المسلم ، فطبقة الاغنياء والمترفين هم اولئك الذين لديهم قرابة واتصال مع السلطة في قبال طبقة اجتماعية مُعدمة ومحرومة ..! فالخليفة عثمان بن عفان نفسه قد وجدوا في خزانته يوم قتل ثلاثين ألف درهم ومائة وخمسين ألف و ( ٢٦٠ ) دينار وترك ألف بعير بالربذة وصدقات بقيمة مائة ألف دينار، علاوةً على ضياعه بوادي القرن وحنين وغيرها حيث قدرت بمائة ألف دينار وخلف خيلاً كثيرةً و بنى دوراً بالمدينة ..

هذه إشارات خاطفة الى فساد الدولة ووضع المجتمع في ايّام عثمان بن عفان ، الّا أن ذلك كان عبارة عن نار مستعرة في صدور ابناء الأمة وثورات خامدة لم يعد وقت اتقادها ، وبدأت تطفح على السطح معارضات صريحة لسياسات السلطة المالية والإدارية ، ومن هنا فتح ابو ذر رضوان الله عليه ملفّ القضية وأشعل شرارة الانتفاضة الخاصة به ..

أساليب الانتفاضة

تدهورت أحوال المجتمع الإسلامي كثيراً في ظل إخفاقات السلطة أيام خلافة عثمان بن عفان وتراجعت أخلاقياته ، حتى وصف الوضع القائم وقتها أبو ذر بقوله : ( سنّة تُطفأ ، وبدعة تحيا ، وقائل بحق مُكذَّب ، وأثرة لغير تقى ، وأمين مستأثر عليه ) .

عزم أبو ذر على رفع راية الإصلاح وقرر قيادة انتفاضة بوجه الدولة ، ويمكننا القول أن انتفاضة ابي ذر التي أعلنها بوجه فساد الدولة وما آلت إليه أمور المجتمع بسببها تمثّل في مصطلح اليوم حركة اصلاحية وانتفاضة ناشط مدني او ناشط متخصص في مجال حقوق الإنسان ، ولكون نشاطه هذا كان فردياً ولعدم وجود حصانة وحماية لهكذا نشاطات ولم تعطِ الدولة غطاءً قانونياً لها ( رغم وجودها في أصل التشريع الإسلامي ) ولأن جهاز الدولة تأخذه العزة بالإثم في هكذا حالات .. فنجد أنها تعاملت معه كمعارض سياسي يهدد أمن الدولة وينتهك سيادتها واعتبرت حراكه معادياً للسلطة وعليه فينبغي أن يُسجن أو يُقتل أو ينفى .. !

ولرسم صورة واضحة عن شكل وطبيعة نشاط وحركة وانتفاضة أبي ذر رضوان الله عليه بوجه فساد السلطة ، سنحاول أن نتطرق لها ضمن أسلوبين مارسهما رضوان الله عليه يمثلان الخطوط العامة لحركته هما :

الأسلوب الأول : النُصح ، اي نصح الخليفة وجهازه في ادارة الدولة .

الأسلوب الثاني : محاولة صنع رأي عام وشعبي ضاغط على الدولة وناهِر لتصرفاتها ..

امّا الأسلوب الأول فكان موجهاً الى الخليفة ومن يدور في حومته بالمباشر ، فأبدى النصيحة وأشار الى الأخطاء ووعظ ونهى وذكّر ولم يألُ جهداً في ذلك .

فروى الراوندي عن الصدوق بسنده المتصل بابن عباس : دخل أبو ذر عليلاً متوكئاً على عصاه على عثمان ، وقد حملت إليه من بعض النواحي مئة الف درهم فهي بين يديه وحوله أصحابه ينظرون اليه ويطمعون أن يقسمها فيهم ، فقال أبو ذر لعثمان : ما هذا المال ؟ فقال عثمان : مئة الف درهم حملت إلي من بعض النواحي أريد أضمّ إليها مثلها ثم أرى فيها رأيي .
فقال أبو ذر : يا عثمان ، أيما أكثر مئة ألف درهم أو أربعة دنانير ؟ قال عثمان : بل مئة ألف درهم .

قال : أما تذكر إذ دخلنا أنا وأنت على رسول الله ص واله عشيّا ، فرأيناه كئيباً حزيناً .. فلما أصبحنا أتيناه فرأيناه ضاحكاً مستبشرا ، فقلنا له : بآبائنا وامهاتنا أنت ، دخلنا اليك البارحة فرأيناك كئيباً حزينا ، ثم عدنا إليك اليوم فرأيناك فرحاً مستبشراً ؟
فقال: نعم ، كان قد بقي عندي من فيء المسلمين أربعة دنانير لم أكن قسّمتها وقد خفت أن يدركني الموت وهي عندي ، وقد قسمتها اليوم واسترحت منها .
فنظر عثمان الى كعب الأحبار وقال له : يا ابا إسحاق ، ما تقول في رجل أدّى زكاة ماله المفروضة ، هل يجب عليه فيما بعد ذلك شيء ..؟ فقال كعب : لا ، ولو اتخذ لبنة من ذهب ولبنة من فضة ما وجب عليه شيء .
فرفع أبو ذر عصاه فضرب بها رأس كعب ثم قال له : يابن اليهودية الكافرة ، ما أنت والنظر في أحكام المسلمين ؟ قول الله أصدق من قولك حيث قال : وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ..

ومما يروى في ذلك ايضاً ، أن معاوية بنى داراً واسعة بدمشق وسمّاها الخضراء ، فقال له أبو ذر ( حيث كان في منفاه الأول في الشام كما سنبينه لاحقاً ) : يا معاوية إن كانت هذه من مال الله فهي الخيانة ، وإن كانت من مالِك فهو الإسراف .

وفي هذا الصدد نقل المعتزلي ايضاً عن الجاحظ بسنده عن جلّام بن جندل قال : كنت عاملاً لمعاوية على قنسرين والعواصم - في خلافة عثمان - فجئت يوماً اسأله عن حال عملي إذ سمعت صارخاً على باب داره يقول : أتتكم القطار تحمل النار ! اللهم العن الآمرين بالمعروف التاركين له ، اللهم العن الناهين عن المنكر المرتكبين له . فقال لي معاوية : من عذيري من جُندب بن جنادة ( وهو اسم ابي ذر ) ، يأتينا كل يوم فيصرخ على باب قصرنا بما سمعت .
ثم أمر معاوية ان يدخلوه عليه وحصلت محاورة بين معاوية وأبي ذر ، ومما قاله ابي ذر فيها بعد أن قال له معاوية يا عدو الله : ما انا بعدو الله ولا رسوله ، بل أنت وأبوك عدوّان لله ولرسوله ، أظهرتما الإسلام وأبطنتما الكفر ، وقد لعنك رسول الله ودعا عليك أن لا تشبع ..

وهكذا كانت طريقة أبي ذر رضوان الله عليه ، يقول كلمة الحق عند سلطانٍ جائر ، لا يهاب العقاب ولا تأخذه في الله لومة لائم ..

أما الأسلوب الثاني الذي أتّبعه أبو ذر رضوان الله عليه في إنتفاضته ضد فساد السلطة الحاكمة ، وهو أسلوب صناعة رأي عام مؤيّد لإنتفاضته ورافع من وعي الأمة إتجاه حكّامها وضاغط على السلطة بإتجاه الإصلاح ..

فكان يجلس في المسجد النبوي ( كما في تأريخ اليعقوبي ) ويجتمع الناس إليه ويحدّثهم بمخالفات السلطة وما قام به الخليفة من تغيير وتبديل لسنن رسول الله ص واله وحتى لسيرة أبي بكر وعمر .

وأرسل عثمان إليه مولاه ناتلاً : أن انته عمّا بلغني عنك ؟ فأجاب أبو ذر : أينهاني عثمان عن قراءة كتاب الله وعيب من ترك أمر الله ! فو الله لئن أُرضي الله بسخط عثمان أحب إليّ وخير لي من أن أُسخط اله برضاه ! فغضب عثمان لذلك ولكنه صبر وكفّ عنه .

وكذا كان يفعل ابو ذر في الشام بعد صلاة الصبح في مسجدها الجامع بعد أن نفاه عثمان إليها ، حيث كان يجلس ويحدّث الناس بالبدع التي تفشت في الأمة ويقارن بين ما وصلت إليه الأمور وما كانت عليه في ايّام رسول الله ص واله .
وكتب معاوية الى عثمان مشتكياً من أبي ذر : أما بعد ، فإن أبا ذر قد حرّق قلوب أهل الشام وبغّضك إليهم ، فما يستفتون غيره ، ولا يقضى بينهم الّا هو ، وإنه يصبح إذا أصبح ويمسي إذا أمسى وجماعة كثيرة من الناس عنده فيقول لهم كيت وكيت ، فإن كانت لك حاجة في الناس قبلي فأقدم أبا ذر إليك ، فإني أخاف أن يفسد الناس عليك والسلام .

لم يكن هذا الأسلوب هيّناً على السلطة الى الدرجة التي تجعل من عثمان يرسل أبا ذر الى الشام لكي يكون تحت رقابة معاوية ، ثم معاوية يطلب رجوعه الى المدينة كونه سيفسد الأمر عليه وسيغيّر من قناعة الناس بالخليفة .. هذا التخوّف الكبير من أعلى شخصيتين في الدولة دليل على أهمية ما قام به رضوان الله عليه والنتائج التي بدأ يقطفها من ثورته ..

موقف الإمام علي عليه السلام الداعم لانتفاضة أبي ذر .

بات واضحاً أن حِراك أبي ذر رضوان الله عليه ضد السلطة كان حراكاً سلمياً هدفه تصحيح المسار وإعادة الأمور الى نصابها الشرعي والمنطقي انطلاقاً من المسؤولية التي يستشعرها على عاتقه ..

وأبو ذر ممن يعرف تكليفه الإسلامي جيداً وهو أحد أربعة شهد لهم المعصوم بعدم الرِدة بعد وفاة النبي الأكرم ص ، فولايته لأمير المؤمنين ع وأمرته به مما لا يخفى على موالٍ ومعاد ، وعليه فلا ريب ولا شك أنه لا يخطو خطوة بدون استحصال أذن شرعي من إمامه الشرعي ..

وما يؤكد هذا الكلام هو ما صدر من مواقف لأمير المؤمنين توحي بدعمه وتأييده لأبي ذر في حراكه ..

فكان له عليه السلام دوراً مهمّاً في مساندة هذه الانتفاضة والوقوف الى جانب بطلها في بعض المواقف والمنعطفات ولكن مع الحفاظ على منهجه الذي اتخذه عليه السلام مع القوم بعد وفاة النبي ص واله وحصول الانقلاب واغتصاب الخلافة ، هذا المنهج الذي عبّر عن قانونه العام عندما قال : ( لأسالمن ما سلمت أمور المسلمين ) . الا أن هذه المسالمة لم تمنعه عليه السلام في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ومناصرة المظلوم وتقديم النصح وإبداء المشورة وبالقدر الممكن واللازم ..

ولقد لخّص أمير المؤمنين ع رأيه بهذه الانتفاضة بقوله لأبي ذر قبل الذهاب به الى منفاه الثاني في الربذة :

« يا أبا ذر انك إنما غضبت لله عز وجل فارج من غضبت له ، ان القـوم خافوك على دنياهم وخفتهم على دينك فأرحلوك عن الفِناء وأمتحنوك بالبلاء ، ووالله لو كانت السماوات والأرض على عبد رتقاً ثم اتقى الله عز وجل جعل له مخرجا ، فلا يؤنسك إلا الحق ولا يوحشك إلا الباطل » .

وفي إحدى المرات قال أبو ذر في محضر عثمان بأنه سمع رسول الله ص واله يقول : إذا بلغ آل أبي العاص ثلاثين رجلاً صيّروا مال الله دُولا ، وكتاب الله دَغلا ، وعباد الله خولا ، والفاسقين حزباً والصالحين حربا .

فسأل عثمان من كان حوله من الصحابة فأنكروا حديث ابي ذر ، فقال عثمان : ادعوا لي عليّا .

فلمّا جاء عليه السلام قال له عثمان : يا أبا الحسن أنظر ما يقول هذا الشيخ الكذّاب !

فقال الإمام ع : مّه يا عثمان ، لا تقل كذّاب ، فإني سمعت رسول الله ص واله يقول : ما أظلّت الخضراء ولا أقلّت الغبراء على ذي لهجة أصدق من أبي ذرّ ، فقال الصحابة الحضور : صدق أبو ذر .. الرواية

ردود فعل السلطة

كان أبو ذر رضوان الله عليه يمثل مشكلة حقيقية للسلطة ، فشخصيته الإسلامية الكبيرة الناتجة عن سابقته في الإسلام وصحبته للرسول الكريم وتزكيته من قبله وكذلك كونه من خلّص أصحاب الإمام علي ع ، أضف الى ذلك إيمانه وزهده وعبادته وجهاده المعروفة بين المسلمين ... كل هذا جعل السلطة تتعامل معه بحراجة بالغة ، فمن جهة أنها لاتُطيق انتفاضته وتأليبه للأمور ضدها ، ومن جهة اخرى لا يستطيع الحاكمون اتخاذ اجراءات صارمة معه خوفاً على سمعتهم وردّة فعل المسلمين عليهم .. ورغم هذا قاموا ببعض المحاولات في سبيل إيقافه أو الحدّ منه ولكنها كلها فشلت معه .

فقطعوا عطاءه كجزء من الحرب النفسية والاقتصادية عليه الّا انه لم يهتم بذلك وقبل بقطع العطاء وردّ على هذه الفعلة بقوله لهم : " لا حاجة لي بذلك ، تكفي أبا ذر صريمته "

ثم حاولوا بالأسلوب المعاكس من خلال الإغراءات المادية ، إذ بعد مدة من قطع عطائه عادت السلطة إليه من جديد لتختبر مدى فعالية إجرائها في قطـع العطاء ، وإذا بالخليفة عثمان يبعث بمائتي دينار إلى أبي ذر الذي ظن انه سيقبلها لأنه محتاج لها لاسيما وانه بلا عطاء ولكن النتائج جاءت بخلاف التوقعات ، إذ ان أبا ذر حين جاء بها رسول الخليفة إليه رفضها وطلب منه ان يبلغ الخليفة "بأن أبـا ذر رجـل مـن عامـة المـسلمين يـسعه مـا يسعهم".

واستعملوا معه ايضاً طريقة تضعيف الشخصي وتسفيه الرأي وأنه أصبح ليس كما كان عليه سابقاً من العقل والإيمان ، وهذا الأمر مارسه عثمان نفسه حين قال له بمحضر من أصحابه : يا أبا ذر إنك شيخ قد خرفت وذهب عقلك ، ولولا صحبتك لرسول الله لقتلتك ، فقال أبو ذر : كذبت يا عثمان ، أخبرني حبيبي رسول الله فقال : لا يفتتنونك ولا يقتلونك ( وهنا إشارة قوية الى أن انتفاضاته هذه كان قد تنبأ بها الرسول الأكرم صلوات الله عليه بل أخذ شرعيتها منه ) .. الرواية

ومن الإجراءات الصارمة التي اتخذتها خلافة عثمان بن عفان ضد نشاط وحراك أبي ذر غير ما ذكرناه في المنشور السابق من إجراءات وهي ( الحرب الاقتصادية ومحاولة تسقيط وتسفيه شخصيته ) ، هو نفيه وإبعاده عن عاصمة الخلافة ومركز السلطة .

ولقد نُفي أبو ذر الغفاري مرتان :

الأولى : إلى الشام ، والهدف من هذا النفي هو لوضعه تحت رقابة وسلطة معاوية ، ولأن الشام تختلف عن باقي الأمصار حينها بعدم وجود فيها من يدين بالولاء لأمير المؤمنين ع ، بل أصبحت الشام في وقت معاوية منفى لكثير من الثوار والمعارضين للدولة في جميع الأمصار ، ثم أن معاويه يرى رأيه المناسب فيهم ..!
الّا أن أبا ذر استمر في انتفاضته وعمل نفس ما كان يعمله في المدينة ، مع محاولات معاوية معه في اغوائه واغرائه ولكن دون جدوى حتى كتب معاوية الى عثمان يطلب منه أن يردّ اليه أبا ذر لأنه سيفسد الأمور عليه ووافق عثمان ولكن أمر ان يُرد بطريقة مُتعبة ومهينة لأبي ذر وفعل ذلك معاوية فعلاً وأرجعه على ظهر أسوأ مركب وساروا به ليلاً ونهارا حتى تساقط لحم فخذيه من الجهد ..!!

الثانية : النفي الى الربذة ، فلما عاد أبو ذر الى المدينة من منفاه الأول ، أستمر بثورته وعاد الى ما كان عليه من انتفاضة ، فقرر عثمان ان ينفيه مرة أخرى ولكن ليس الى عواصم ومدن الإسلام وانما لا بد من اختيار البراري والقفار ، فاختار الربذة ( تقع على طريق حج الكوفة وتبعد 200 كم عن المدينة ) .. فنفي ومعه امرأته - وقيل - ابنته أيضا .

بقي أبو ذر في الربذة ، وكانت له غنمات فيها فأصابها داء فماتت .. وماتت زوجته ، وقالت ابنته في خبر : بقينا ثلاثة أيام لم نأكل شيئاً واصابنا الجوع ... فجمع أبي رملاً ووضع رأسه عليه ورأيت عينه قد انقلبت ، فبكيت وقلت له : يا أبت كيف أصنع بك وأنا وحيدة ..؟ فقال : يا بنية لا تخافي ، فإني إذا مت جاءك أهل العراق من يكفيك أمري ( حيث نبّأه رسول الله بذلك ) ، وحصل ذلك فعلاً وجاء أهل العراق ومعهم مالك الأشتر رضوان الله عليه وقاموا بتجهيزه والصلاة عليه ودفنه .
وقف على قبره مالك الأشتر وقال : اللهم هذا ابو ذر صاحب رسول الله ص واله ، عبَدك في العابدين ، وجاهد فيك المشركين ، لم يغير ولم يبدل بكنه رأى منكراً فغيّره بلسانه وقلبه حتى جُفي ونُفي وحُرم واحتقر ، ثم مات وحيداً غريبا ، اللهم فاقصم من حرمه ونفاه من مهاجره حرم الله وحرم رسوله . وكان ذلك في 32 للهجرة ..

ونحن نقول كما قال مالك رضوان الله عليه

دروس وعبر

استعرضنا قصة انتفاضة ابي ذر الغفاري رضوان الله عليه ونشاطه ضد فساد سلطة الخليفة عثمان بشقيها المالي والإداري ، وحاولنا طرحها بأسلوب ومصطلحات وتعابير عصرية لتكون أكثر وضوحاً وكذلك لنوفر تحليلاً ذاتياً ضمنياً لدى القارىء الكريم بإعتبار مفهوميتها المسبقة ..

والآن لا بدّ لنا من أخذ الدروس والعبر من هذه القصة ولنستفيد منها في أيامنا هذه التي نشهد بها دول ظالمة وشعوباً منتفضة ، وسنحاول وضعها في نقاط :

1.لنتعلم من أبي ذر أن تكون لنا في الحياة قضية حقة ، نلتزمها ونعمل من أجل إنجازها ، ندافع عنها بإمكانياتنا وقدراتنا ، إن لم تكن بقيادتنا فبقيادة الآخرين المؤهلين للقيادة ، وإن لم نكن بمفردنا فمع الجماعة الصالحة لهذه المهمة ، وإن خلا المجتمع من قضايا ( وهيهات ) فإن الكمال بنفسه قضية ..

2. الإخلاص في القضية ، لنتعلم من أبي ذر الإخلاص لله في جميع قضايانا وحراكاتنا ، فلا نثأر من أجل دنيا ولا ننتفض لمصلحة ، وهذا ما شهد له به أمير المؤمنين ع بقوله : ( يا أبا ذر : إنك غضبت لله فارج من غضبت له ) ، والإخلاص لله سر نجاح كل ثورة ..

3. الصبر على القضية ، فمعالي الأمور لا تأتي بالمجان ، ولقد تتبعنا ما عاناه أبي ذر في سبيل قضيته من حرب نفسية وجسدية واقتصادية حتى مات في سبيل قضيته ، ولهذا نراه يقول : " و الله لو أن عثمان صلبني على أطول خشبة ، لسمعت و أطعت و صبرت و احتسبت ، و رأيت أن ذلك خير لي " .

ويقول أيضاً : " و الذي نفسه بيده ، لو وضعتم السيف فوق عنقي ثم ظننت اني منفذٌ كلمة سمعتها من رسول الله قبل أن تحتزوا لأنفذتها " .

4. لم يقتطف أبو ذر ثمرات انتفاضته في حياته وإنما أتت أكلها بعد فترة قصيرة ، فلم يسمع عثمان لنصائج أبي ذر ولم يتعض منه حتى هجم عليه الثوّار الى بيته وحاصروه ثم قتلوه ، وهكذا نحن في قضايانا ، فلسنا مسؤولين عن النتائج ما دامت المقدمات صحيحة والنوايا سليمة ، فإن الله لا يضيع أجر عامل ..

5. وأخيراً ، يبقى التأريخ وعاءً لتجارب الماضين ، وتبقى السنن الكونية تجدد نفسها متى ما توفرت ظروفها ، واللبيب هو الذي تكون له في ماضيه عبرة وفي مستقبله نظرة ..

والحمد لله رب العالمين وشكراً جزيلا
 




  • المصدر : http://www.kitabat.info/subject.php?id=140095
  • تاريخ إضافة الموضوع : 2019 / 12 / 18
  • تاريخ الطباعة : 2024 / 03 / 28