• الموقع : كتابات في الميزان .
        • القسم الرئيسي : المقالات .
              • القسم الفرعي : المقالات .
                    • الموضوع : ( مرجعية النخبة ) ، بحث مختصر بمناسبة الذكرى رقم 40 لأستشهاد السيد المرجع محمد باقر الصدر .
                          • الكاتب : يحيى غالي ياسين .

( مرجعية النخبة ) ، بحث مختصر بمناسبة الذكرى رقم 40 لأستشهاد السيد المرجع محمد باقر الصدر

ما يُميز مرجعية السيد محمد باقر الصدر هو أنها مرجعية نخبة في قبال المرجعية الجماهيرية ومرجعية الطائفة ، ونريد بالنخبة هنا : تلك الثلة الجماهيرية التي بفعل تطلعها ووعيها أصبحت لديها متطلبات خاصة بالمرجع ، فهي تتوسم بالمرجع أن يقوم بأعباء فوق المهام المتعارفة له - من افتاء واستلام حقوق شرعية .. الخ - وهذه الأعباء الإضافية حسب ما تراه هذه النخب هي حاجة تأريخية وضرورة دينية مُستقاة من النص الشرعي والسيرة العملية للنبي ص واله والائمة من بعده .

ترى هذه النُخبة أن توسيع مهام المرجعية باتت حاجة حضارية تفرضها بشدة متطلبات ومتغيرات الحياة الراهنة وبدونها سيكون الاسلام عبارة عن دين عاجز عن ادارة ومواكبة الشؤون الحياتية للإنسان وهذا يعني انه قد خرج عن مدة الصلاحية وانتهى زمن مفعوله ..

والسؤال هو : ما طبيعة المهام التي تريدها النخبة من المرجع غير المهام المتعارفة .. ؟

يقولون : أن يكون المرجع مرجعاً في كل مظاهر الحياة للمسلم ومنها السياسية والاجتماعية والاقتصادية والتعليمية والفكرية ..الخ ، فبما أن الدين الدين يغطّي كل نواحي الحياة ، وبما أن الفقيه هو لسان الدين الناطق وحَلَقة الوصل بين الدين والمتدين ، فينبغي أن يكون اذن مرجعاً لكل تلك النواحي وقائداً في جميع ميادين الحياة ..

هذا ما وَجَدَته شريحةٌ من المجتمع العراقي في فترة الستينات والسبعينات من القرن الماضي في شخص ومرجعية الشهيد باقر الصدر ، فإنجذبت اليه وتفاعلت معه فأصبحت مرجعيته في ظل الظروف الموضوعية في وقتها مرجعية النخبة .

ولكن ثمّة أمور أخرى ساعدت على أن تبقى هذه المرجعية مرجعية نخبة وحالت دون التوسع على شرائح أخرى ، سنذكرها بنقاط :

1. وجود مرجعيات كبيرة قد أطبقت زعامتها على الطائفة ومن الصعب مزاحمتها بل من المخاطرة بمكان التمدد بالعرض منها ، كمرجعية السيدين الكريمين ، محسن الحكيم وأبي القاسم الخوئي قدست نفسهما الزكية .

2. أنَّ الأفكار والآراء والمتبنيات وأساليب التطبيق والأداء الجديدة وغير التقليدية التي جاء بها السيد الشهيد وعلى مستوى الحوزة والمجتمع كانت غير مختمرة في الأذهان وواجهت صدوداً قوياً من قبل النفوس بسبب الطبيعة الإنسانية في مواجهة أي جديد ..

3. بسبب النظام السياسي الموجود والحاكم في البلد والذي وجد في مرجعية السيد الشهيد خطراً حقيقياً يُهدد وجوده ، فضلاً عن دكتاتورية النظام وتسلّطه الشوفيني ، فجعل هذا الكيان المستبد من مرجعية السيد الشهيد ناراً تكوي كل من اراد الانضواء تحتها ..

4. أخلاق وطبع السيد الشهيد من الأسباب وراء تقويض مرجعيته المباركة ، فلم يسعَ لبسط وفرض مرجعيته على حساب أساتذته وبعض الطبقات الرافضة لحركته .

5. كان مؤمناً بأن التصدي وإطلاق المشاريع وتنفيذ الخطط قبل الحصول على تغيير في قناعات الناس لصالح تلك الأفكار والأساليب التجديدية غير مجدٍ ، بل قاتل لها ، فكان يسير بخطوات مرحلية بعضها يتجاوز عمره الشريف ..

6. في فترة الستينيات والسبعينيات كان العمل النخبوي هو السائد وهو الأسلوب المؤثّر والفعّال في المعادلة السياسية والإجتماعية والحوزوية ، حيث شهد العالم والعراق خصوصاً ظهور تيارات فكرية وأحزاب سياسية وحركات تدعو إلى التطوير والتغيير والحداثة .. قادتها نُخب المجتمع ومثقفوه آنئذٍ ..

7. إنشغال السيد قدس سره لفترة طويلة في التأصيل والتأسيس لأفكاره والتنظير لها والإعراض عن طقوس المرجعية الدينية وطرقها المتعارفة في الإتصال بالمجتمع وطبقاته المترامية الأطراف ، فلم يُعرف في فترة من فتراته كمرجع دين بقدر معرفته كمفكر وكاتب وأستاذ ..

8. ونختم أسباب التقويض بسنوات عمرهِ القليلة نسبياً مقارنةً بعمر المرجعيات ، فلم يعش سوى نصف عمر معدل عمر المرجعيات الأخرى ولم يُتح له زمن كافٍ لتوسيع مرجعيته وقاعدته في أوساط المجتمع .

هذه الاسباب الثمانية نعتقد انها من أهم الأسباب التي قوّضت مرجعية السيد محمد باقر الصدر في حينها وحصرتها وقيدتها ضمن مساحة محددة .

سبّب هذا التقويض خسائر كبيرة تكبدتها الأمة ، منها :

الخسارة (1) : التفريط بفكر اسلامي كبير مستودع بمفكر عظيم معطاء استطاع ببعض ما أنتجه إيقاف تيارات الحادية جرفت بالعراق ووقف الجميع موقف العاجز أمامها ، فبكتابيه الجليلين ( فلسفتنا واقتصادنا ) أرجع للإسلام موقعه الفكري ومكانه العلمي بين المتبجحين بأفكار ماركس وهيجل وأفكار ديكارت وما شاكل ذلك ، أخذ فكر باقر الصدر أصداءه اللازمة في الشرق والغرب ولم يأخذ جزء ما يستحقه في النجف الأشرف والعراق ..!

الخسارة (2) : فقدت الحوزة العلمية بتقويضها لمرجعية باقر الصدر فرصة عظيمة لتغيير بعض مناهجها وأساليبها في التدريس وقيادة الأمة قد أكل عليها الدهر وشرب ولم تعد نافعة ومؤثّرة ومنتجة وغير مواكِبة لحركة الزمن ، إنبرى قدس سره وحثَّ الخطى في رسم معالم المرجعية الصالحة التي تستحقها الأمة ، وشدَّ العزم على تبديل وتطوير بعض الكتب وأعطاها بعداً علمياً من جانب ومن جانب آخر من شأنها تقليص وإختزال الزمن الطويل الذي يستغرقه طالب العلم من غير مبرر .

الخسارة (3) : فَقَدَ المجتمع الذي أوغلت به أوحال الجهل والفقر والظلم فرصة القيادة الصالحة والقادرة على جذب مقدّراته البشرية وإستثمارها بإتجاه النهوض بالواقع وتغيير الحال ، فكانت لديه قدس سره المقدرة على كسب الشباب وإستقطاب الكفاءات وتغيير بوصلتها بما ينفع الدين والوطن والمجتمع ، حيث أحدث ثورة عارمة في نفوسهم وعقولهم وهي بإتجاه ثورة تغيير عام للواقع لولا الموانع التي حالت دونها وأجهضتها قبل موعد ولادتها ..!!

الخسارة (4) : خسرت الأمة حريتها وحياة أبناءها ودفعت الثمن غالياً بعد التفريط بشخص ومرجعية السيد الصدر الاول ، فبعد خذلان الامة له وتفريطها لمرجعيته إزداد تسلط النظام وتفرعنه ومسك قبضته على البلاد والعباد ، فتسلط على العراق نظام دكتاتوري شوفيني عاث في البلد ظلماً وفسادا ، يقتل ابناءه ويستحيي نساءه ، امتلأت الطوامير والسجون بنزّالها وهاجر الوطن من سنحت له الفرصة ان يهرب بروحه ودينه ، اطبق الجهل عليهم وجوّعهم وأدخلهم في حروب قد أحرقت الاخضر واليابس .. فقدت الأمة هويتها ومسخت شخصيتها وانقطعت عن عالمها وكادت تفقد الأمل بل سكن اليأس في نفوس ابناءها ..

الخسارة (5) : لقد جرّأ تطاول الطغاة على السيد باقر الصدر بدون أن تحرك الأمة ساكناً الى تكرار الاعتداء على العلماء والمراجع والأسر العلمية ، فقتل السيد الخوئي قدس سره ( حسب بعض التحليلات ) وكاد سوءاً للميرزا الغروي والشيخ البروجردي ، وأوضح تلك التصفيات ما جرى على الشهيد الصدر الثاني ونجليه ، علاوة على الاعدامات التي طالت أسرة ال الحكيم وغيرهم من الأسر النجفية .. فقدت الحوزة العلمية في النجف الأشرف جزء مهم من قيادتها للأمة واقتصرت بسبب سطوة النظام عليها على الدرس والافتاء بما لا يتقاطع مع توجهات السلطة ومصالحها .. لم تكن الحوزة الشريفة بعد استشهاد السيد الصدر كما هي قبل الإستشهاد وهذه نتيجة واضحة لأدنى تأمل ..

الآن وبعد أن تكلّمنا عن الجانب ( السوداوي ) إذا جاز التعبير عن مرجعية السيد محمد باقر الصدر المباركة وما تعرّضت له من ممارسات تضييق وتقويض ، وما جنته الأمة من خسارات باهضة الثمن لا زالت تدفعها نتيجة لذلك .. لا بد من الحديث عن الجانب المُشرق منها :

فمرجعيته كالشمس التي غيبها السحاب فإنها سرعان ما يعمي نورها الابصار حال جلاء الحجب والسحب ، ونستطيع وبكل يسر إعطاء بعض المنجزات التي حققتها هذه المرجعية ولا زالت تحققها في الأمة .. ومنها :

.. استطاعت ان تزرع وتسقي روح التجديد في كل قديم وغير مجد وعدم الاكتراث الى مخاوف الصد والمعارضة ممن قصرت عزائمه على تحمل متاعب التغيير وإن كانت انفسهم قد استيقنت ضرورتها ..

.. وبنفس السياق فلقد بذر بذور الثورة على الظلم والطغيان وسقاها بدم شهادته المقدس واخته العلوية الطاهرة ، فالعراق بعد شهادته اصبح كالنار تحت الرماد تلهب حال هبوب ادنى ريح غير ان القبضة الطاغوتية عاتية عجزت عنها كثير من المحاولات التي تلت وعقبت شهادة باقر الصدر .

.. ملأ الفراغ الفكري في جوانب اسلامية مهمة معاصرة وأعطى سلاحا فكريا فتاكا بوجه الحروب الفكرية التي عصفت بالامة خاصة ايام المد الالحادي الشيوعي او مايسمى ( بالمد الاحمر ) حيث واجه تنظيراتهم الفلسفية والاقتصادية والاجتماعية واعطى المذهب الاقتصادي الاسلامي الذي يختلف عن الرأسمالية والمشاعية .. ولا ننسى حروفه الاولى في كتابة دستور الجمهورية الاسلامية وكيف ضمن الصبغة الاسلامية حسب نظام الدولة المعاصرة .

.. يحسب لهذا العظيم خلق أجيال واعية ومثقفة بالثقافة الاسلامية الاصيلة ، بعضها استطاع ان يكمل مشوار السيد الشهيد على مستوى الحوزة وعلى مستوى الشارع والمجتمع ولا زال معينه العذب والسائغ الشرب يمدنا بقامات علمية وشواهق قيادية .

نختم فيما يلي ببعض الشهادات بحق الشهيد باقر الصدر نطق بها بعض الأعلام ..

1. قال فيه صاحب كتاب أعيان الشيعة :

( هو مؤسس مدرسة فكرية إسلامية أصيلة تماماً، اتسمت بالشمول من حيث المشكلات التي عنيت بها ميادين البحث، فكتبه عالجت البُنى الفكرية العليا للإسلام، وعنيت بطرح التصور الإسلامي لمشاكل الإنسان المعاصر ) .

2. يقول السيد ابو القاسم الخوئي قد:

( السيد الصدر مظلوم لانه ولد في الشرق، ولو كان مولوداً في الغرب لعلمتم ماذا يقول الغرب فيه... هذا الرجل فلته هذا الرجل عجيب في ما يتوصل اليه وفي طرحه من نظريات وافكار ) .

3. ويقول السيد موسى الصدر قد :

( على الزعيم السياسي ان يرى لليوم وللغد ولما بعد الغد، وهذا متوفر في السيد محمد باقر الصدر وحسبه انه استطاع ان يضع حولاً لامور بقيت عالقة مائة وخمسين عاما تهيب الفقهاء من الدنو منها ).

4. يقول محمد جواد مغنية قد :

( هذا الرجل اخرج النجف من الكتب الصفر الى الكتب البيض، هذا الرجل عرف العالم على النجف الاشرف بعد ان كانت مطمورة ) .

رحم الله شهيدنا الصدر وعوّض الإسلام بعالِمٍ مثله .. الفاتحة لروحه الطاهرة




  • المصدر : http://www.kitabat.info/subject.php?id=143383
  • تاريخ إضافة الموضوع : 2020 / 04 / 10
  • تاريخ الطباعة : 2024 / 04 / 19