• الموقع : كتابات في الميزان .
        • القسم الرئيسي : المقالات .
              • القسم الفرعي : المقالات .
                    • الموضوع : التنمية البشرية وميدانها الفكري في القرآن الكريم  .
                          • الكاتب : د . عاطف عبد علي دريع الصالحي .

التنمية البشرية وميدانها الفكري في القرآن الكريم 

     يُعد مصطلح التنمية البشرية من المصطلحات الحديثة في ميدان المعرفة إذ شاع  صيتهُ في العقد الأخير من القرن الماضي وبان أثر حركته من خلال البحوث العلمية والتقارير الدولية التي سعت لرصد حركة الإنسان وتتبع نموه وتطور مستواه الحياتي ، وعلى الرغم من حداثته إلا إن مضامينه لم تكن جديدة على ساحة الإنسانية هذا إذا ما قلنا إن المضمون قد أقترن بوجود الإنسان عن منأى الإسلام وميدانه ، فقد حفل القرآن الكريم بكثير من الآيات التي تحمل مضامين التنمية  هذا فضلاً عن تعرضه إلى الركائز والعناصر الأساسية للتنمية البشرية من خلال فهم السياق القرآني ومدلول آياته , إذ إن الفكر القرآني أكثر شمولاً وتكاملاً واستيعاباً عن النظرة الوضعية له وللتعرف عليها وفق هذا المنظور يتطلب منا الإحاطة بذات المفهوم الذي نص على أنه عبارة عن عمليات إجرائية منظمة وفق رؤية فكرية مُنتخبة تهدف الى تطوير القوى الكامنة لدى الإنسان بصقلها وتوجيهها نحو تحقيق طموحاته بغية إشباع حاجاته المشروعة في شتى مجالات الحياة المختلفة , وقد كرم الله الانسان على سائر المخلوقات بالعقل وبه عرف الله تعالى وصدق دعوات الرسل والانبياء وعرف نفسه وفهم الحياة , ولأهميته في قبول هذا المعتقد أو ذاك كان اهتمامنا بالتفكير الذي يمثل مظهر من مظاهر العقل , إذ يعد اللبنة الأساسية لأي مشروع أو نشاط تنموي , وما تأكيد الاسلام وكتابه المقدس على التفكير والتدبر والتنمية إلا لأنه السبيل للوصول الى الحقائق والمعارف وترجمتها الى سلوك وافعال , ولهذا كان اهتمام التنمية القرآنية بأهمية الجانب الفكري لكونه السبيل بين الضلال والجهل من جهة والنور والعلم من جهة أخرى ومن هنا تبنت التنمية البشرية القرآنية مشروع التفكير طريقاً الى تمام الحكمة التي فيها سعادة الأنسان والتي لا تتوقف عند حد التفكير بل الى ما بعده , ولهذا يفسر على إنه نشاط لا ينحسر في مجال الكشف عن الحقيقة فحسب وإنما يساعد على تناول المعلومات المتاحة بطريقة جديدة تضفي عليها أبعاد جديدة لم تكن مألوفة وتفسرها على نحو جديد ومختلف , ومن خلال تسليط الضوء على هذا المفهوم نجد الاسلام يعمل على اقتران النظرية بالعمل كما يؤكد على ضرورة إسناد العمليات الإجرائية إلى منظومة فكرية أو رؤية كونية ترتكز عليها ، وهذا يعني إرواء أبعاد ومعطيات التنمية البشرية من روافد الأدلة الشرعية واعتماد مفرداتها عليها , كما ينظر إليها على أنها صومعة بناء الإنسان وتسخير البيئة له وتذليل الصعاب وتطوير ما يحيط به لإسعاده وتحقيق طموحاته ، فالإنسان في الفكر القرآني خُلق على كمال في نفسه واعتدال في جوارحه , كما منح أعلى المراتب بتكريم الله تعالى , وإن منزلته في التنمية القرآنية لا تضاهيها منزلة قياساً بمنزلته في الدراسات التنموية الوضعية ، بالرغم من وجود بعض المشتركات بينهما ، إذ نجد إن منحى التنمية القرآنية ذات منحى التنمية البشرية بمفهومها العام والشائع في الأوساط العلمية ونلمس التباين واضحاً حينما ندخل في الجزئيات والتفاصيل وكذا في الغايات وإن اتفقنا في بعض الأهداف والموارد الأخرى , وإن اختلاف مفهومها عن المفاهيم السائدة في الفلسفات الوضعية مرجعه ذات المزية التي تميّزت بها مفهوم الرؤية الإسلامية وسماتها عن بقية الرؤى الأخرى  ممّا عُدَّ العلة الحقيقية وراء هذا التباين في فهم الإنسان والحياة والكون ، فالرؤية الكونية هي التي تحدد معالم الطريق لحركة المفاهيم الأخرى ورؤاها داخل دائرتها وتتحكم بحركة مساراتها على وفق مؤشرات البوصلة الرئيسة التي تمثل خلفية أي نظرية , إذ يُعد وقوفنا عند التنمية البشرية القرآنية وقوفاً عند مضامين الرؤية الكونية الإسلامية وأحكامها الشرعية ، فالغوص في معرفة غايتها ومقصدها هو ذات الغوص في مقصد الشريعة واحكامها ، إذ لها موقع ريادي في عموم الشريعة المقدسة وكذا القرآن الكريم الذي يُعد أصل منابعها الأساسية ، حيث نلمس ذلك واضحاً حين نبحث في مقاصدها بين آية أو رواية أو حكم ونلتمس هدف رؤيتها الإسلامية في تحقيق سعادة وطموحات الإنسان ، وإن المتتبع للمصالح التي قصد القرآن الكريم تحقيقها يجدها مقاصد كثيرة منها تستقيم الحياة الاجتماعية وتهنأ بها وتحقيق مصالح العباد بالإيجاد لها أولاً ثم حفظها ثانياً وحفظ الضروريات وتحقيق الحاجات وضمان التحسينات وهذا هو هدف وغاية التنمية البشرية ومرادها ,وإن اعتمادنا في هذا المطلب مبني على القاعدة التي تنص على جلب المصالح ودرء المفاسد والتي اعتمدت على أساس مبدأ منفعة الإنسان قبل كل شيء , حيث يجب أن لا ننسى إن الغاية من الإسلام وبيان أحكام الشرعية هي إيجاد الحلول للمشاكل التي يعاينها الإنسان وهذا يستدعي أن نؤكد إن التشريع تشخيص لحقائق الموضوعات والسلوكيات الإنسانية تحديداً . 

        وبما إن التنمية البشرية في الإسلام عموماً والقرآن الكريم خصوصاً تتبنى منهج دفع الضرر عن الإنسان وجلب المنافع إليه وسد حاجاته وتحقيق طموحاته فهي تعمل بطول الأحكام الشرعية وتدخل تحت نطاق الرؤية القرآنية ، فالغاية من الأهداف معرفة مقاصد الشريعة ويُعد هذا أمراً ضرورياً للإنسان لأن كل حركة تكمن في معرفة الغايات والأهداف العامة لتلك الحركة والبحث في معرفة غاية التشريع يُعد وازعاً لنمو وتطور الإنسان وأدائه ، إذ نجد العمل التنموي يتجلى نظرياً وعملياً عندما تُحدد الأهداف وتُعرف المقاصد إلا إن الأمر لم ينحسر عند حد معرفة علة التشريع فحسب بل عملت التنمية القرآنية مع باقي مصادر التشريع على ترويض الإنسان وتجنيده لضرورة لزوم الامتثال لأمر الله تعالى تعبداً وتسليمه بحكمة الشارع المقدس ومسعاه لكسب رضا الله تعالى الذي يُعد الهدف الأساس لفكر التنمية البشرية وميدانها في القرآن الكريم  فتسليم الإنسان للرؤية الكونية السماوية والرؤية الإيديولوجية لها يعني الانعطاف به نحو العدالة الاجتماعية التي تُعد العلة الحقيقية لتطور وإنماء كل الأمم والشعوب , حيث تبنت علاجها من خلال اللجوء إلى فهم واستيعاب ذات المفهوم والتعامل مع نشاطاته التنموية على أساس خريطة الرؤية الكونية وعلاقتها مع الانسان وحياته , وقد تعامل القرآن الكريم مع الإنسان الذي يُعد محور التنمية البشرية على أساس التأثر والاستيعاب للمظاهر الاجتماعية من خلال فهمه لها بمنظور جديد والعمل على تنمية فهم غريزة حب الذات والمادة وتأثيرهما في نشاطات البشرية ومجالات الحياتية المختلفة ، كون الإسلام وكتابه الكريم تعامل مع الإنسان على أنه مركب من العقل والشهوة وبحكم غريزته وفطرته يسعى لذاته ويطلب لنفسه الكمال غير المتناهي وأنه مُتعدد الحاجات والمطاليب من حيث تعد جميع تلك الحقائق أزمة اجتماعية تعيق حركة الإنسان وتطوره في العملية التنموية التكاملية ، ممّا يستدعي حينئذ أن نبحث عن منقذ لحل الأزمة الاجتماعية وهذا حكمه أتخاذ المدنية والاجتماع التعاوني والاستقرار وإعطاء كل ذي حق حقه وتعادل النسب والروابط وهو ما يسمى بالعدل الاجتماعي ممّا يقتضي بموجبه أن يُسن للإنسان نظاماً عادلاً  ومن هنا نرى إن فكر التنمية البشرية القرآنية جاء ليوحد بين المقياس الفطري للعمل والحياة ليضمن السعادة والرفاهية والعدالة للبشرية جمعاء .  
 




  • المصدر : http://www.kitabat.info/subject.php?id=143885
  • تاريخ إضافة الموضوع : 2020 / 04 / 27
  • تاريخ الطباعة : 2024 / 04 / 16