• الموقع : كتابات في الميزان .
        • القسم الرئيسي : المقالات .
              • القسم الفرعي : المقالات .
                    • الموضوع : الرحمة تاج مكارم الأخلاق ـ الجزء الثاني .
                          • الكاتب : محمد جعفر الكيشوان الموسوي .

الرحمة تاج مكارم الأخلاق ـ الجزء الثاني

كعادتهم بنشر الترهات والأباطيل، يحاول المدلسون ومعهم  بعض سطحيي الفهم أن يفسروا الرحمة بأنها علامة شاخصة من علامات الضعف والوهن والخوف فهي ـ على زعمهم ـ تؤدي بالنتيجة إلى الخنوع والتنازل عن الحقوق. بيد أن الضعف هو عكس القوة، وان الأمن والإطمئنان هو عكس الخوف كما أن الرحمة هي عكس الظلم والتعسف والإستبداد. لا أدري من اين إستدلوا على أن الرحمة تعني الضعف والخوف؟! لاغرابة في تفاسير أهل الباطل وتحليلاتهم وخزعبلاتهم، ألمْ يفسروا التوكل على الله تعالى بأنه تقاعس ويدعو إلى البطالة والعطالة؟! ألمْ يفسروا مسألة الحجاب والعفاف بأن ذلك يقيّد المرأة ويعزلها إجتماعياً ويتعارض مع مفاهيم الحرية (العصرية)؟! نتساءل دوما: ما الدليل على هذا الزعم وعلى أية أسس بُني هذا الإستنتاج (الخاطيء)؟! لا دليل ولا برهان عند المشككين والمتربصين  بأهل الحق وأهل لا إله إلاّ الله، إلاّ اللهم الهراء ومحاولة غواية البسطاء من الناس بشكل يشبه التشويش على بث بعض البرامج والأخبار للتأثير على المستمعين او المشاهدين. لم أجد مدلسا أو مشككاَ يدعو لحوار علمي رصين يقرع الحجة بالحجة والمنطق بالمنطق والبرهان بالرهان للوصول إلى الحقيقة. ما نقرأه ونسمعه مجرد أقاويل وأباطيل تشبه التخريف ما أنزل الله بها من سلطان وعلى قاعدة أكتب وأنشر والتعليق غير مسموح به، يعني بإختصار شديد بث سموم وتنفيس هموم. الرحمة هي الإحسان والشفقة والمحبة والحنان والرفق ورقة القلب والليونة والأناة، وهذه الصفات لا يتحلى بها إلاّ القوي العزيز الكريم والمتسامح العفو الغفور. إن الحقَّ سبحانه وتعالى هو القوي العزيز وهو أرحم الراحمين وهو الغفور الرحيم، يرحم خلقه لأنه غني عنهم "مَّا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِن شَكَرْتُمْ وَآمَنتُمْ ۚ وَكَانَ اللَّهُ شَاكِرًا عَلِيمًا". ويدعوهم ليغفر لهم من ذنوبهم ويكفر عنهم سيئاتهم وهو القادر على أن يخسف بهم الأرض لو كانوا يعدلون عنده جناح بعوضة "سبحان من لا يعتدي على أهل مملكته، سبحان من لا يأخذ أهل الأرض بألوان العذاب، سبحان الرؤوف الرحيم"، " وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِم مَّا تَرَكَ عَلَيْهَا مِن دَابَّةٍ وَلَٰكِن يُؤَخِّرُهُمْ إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى ۖ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً ۖ وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ".

ومن رحمته أنه أمرنا بفعل الخيرات وترك المعاصي والسيئات ثم دعانا إلى التوبة والإعتراف بالذنوب والخطايا وعدم اليأس من رَوحه ورحمته فهو الغنيُّ الحميد والخلق كله مفتقر إليه "قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا ۚ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ". فمن يخلصنا من أليم عذابة على ما إقترفنا من ذنوب وخطايا؟ لا أحد ولا شيء سوى فيض من واسع رحمته وعظيم عفوه وصفحه "وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَىٰ مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَٰكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَن يَشَاءُ ۗ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ". فضل الله ورحمته هما المنقذان من الهلكات وهما المنجيان يوم الحساب، ومن رحمته أن أرسل إلى عباده رُسُلاً ترشده وتهديه للحق وتنقذه من حيرة الشرك والضلال بعد أن منحه العقل ليتدبر به آيات الله ويتفكر في خلقه سبحانه. وأنا أكتب هذه الكلمات المتواضعة عملت جردة حساب بسيطة فوجدت أن أحسن اعمالي هو قبيح فكيف بالقبيح من الأعمال يا ترى، وان أكملَ وأتمَ أعمالي هو ناقص فكيف بالناقص من أعمالي، فكيف والف مرّة فكيف!!!. "إلهي أنا الفقير في غناي فكيف لا أكون فقيراً في فقري!؟ إلهي أنا الجاهل في علمي فكيف لا أكون جهولا في جهلي!؟.... إلهي وصفتَ نفسكَ باللطفِ والرأفةِ لي قبل وجودِ ضَعفي، أفتمنعني منهما بعد وجود ضعفي!؟ ، إلهي إن ظهرت المحاسن مني فبفضلك ولك المنّة عليّ، وإن ظهرت المساوي مني فبعدلك، ولك الحجة عليّ، إلهي كيف تكلني وقد توكلت لي؟ وكيف أضام وأنت الناصر لي!؟".

في تاريخ إبن عساكر..

إن شخصاً من أصحاب بعض الصلحاء قال: رأيته في النوم بعد موته فقلت: ما فعل الله لك؟ قال: أوقفني الله بين يديه، وقال: يا فلان أتدري بماذا غفرت لك؟ قلت: بصالح عملي؟ قال: لا، قلت: بإخلاصي في عبوديتي؟ قال: لا، قلت: بكذا وكذا؟ قال: لا، كل ذلك لم أغفرك بها، فقلت: فبماذا؟ قال: أتذكر حين تمشي في دروب بغداد فوجدتَ هرّة صغيرة قد اضعفها البرد وهي تنزوي إلى أصول الجدار من شدة البرد فأخذتها رحمة لها فأدخلتها في فرو كان عليك وقاية لها من البرد؟ فقلت: نعم قال: برحمتك لتلك الهرّة رحمتك.

وعكس ذلك..

"عذّبت امرأة في هرّة، سجنتها حتى ماتت، فدخلت النار، لا هي أطعمتها، ولا سقتها إذ حبستها، ولا هي تركتها تأكل من خشاش الأرض" ( حديث شريف ).

في جاهلية قساة القلب وعبدة الأوثان الذين كانت قلوبهم كآلهتهم مجرد حجر " ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُم مِّن بَعْدِ ذَٰلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً ۚ وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ ۚ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ ۚ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ ۗ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ"، صحيح ان الآية الكريمة هي توبيخ وتقريع لبني إسرائيل وقصة البقرة المعروفة لكن المورد لا يخصص الوارد. أيّ قلوب تلك التي هي أقسى من الحجارة، فلا ترحم إنسانا ولا حيوانا وتسر وتأنس بعذاب الآخرين، خصوصا إذا كان هذا القلب هو قلب أنثى، فالمرأة هي منبع الشفقة ووعاء الحنان والرفق والمحبة، خلقها الخالق الباريء وجعل العاطفة صفة ملازمة لها وجزء من انوثتها وشخصيتها، فكيف إن وجدت الخشونة والقساوة طريقها إلى قلب هذه الأنثى، بلا شك سيكون سلوكها منحرفا وتصرفاتها خطيرة ومعاملاتها قاسية. القصة حدثت وقائعها ايام الجاهلية، وهي أن امرأة كانت تملك هرّة، فبدلا من الإعتناء بها وإطعامها والإحسان إليها ورعايتها، إذا بها تحجرها وتمنعها من الخروج والأدهى من ذلك أنها منعت عليها الطعام والشراب وحبستها من الخروج لتجد ما تأكله ولو كان من هوام الأرض أو حشراتها. ظلت الهرّة تتألم من شدة الجوع والعطش وتعاني الأمرين إلى أن فارقت الحياة والمرأة الحجارة تنظر إليها دون أن تتحرك مشاعرها الميتة ودون أن يرق قلبها القاسي المتحجر. لكنها نالت جزاء تعذيبها لتلك الهرّة أن سلط الله عليها هرّة تجرحها بمخالبها مقبلة مدبرة حتى يوم القيامة، ثم لا يكون مصيرها إلاّ الى نار جهنم جزاء بما كسبت. الحق سبحانه وتعالى عادل وحكيم وقد حرّم الظلم على نفسه فكيف يقبله من أحد وكيف يرضى أن يقع على أحد " فَمَن یَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَیْرًا یَرَهُ ؛ وَمَن یَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا یَرَهُ".

تعليق..

عمل ذلك الصالح مع الهرة التي وقّاها من البرد كان خالصا لوجه الله تعالى ولم يكن للرياء والمفاخرة والشهرة فقد تقبل الحق سبحانه عمله ونال رضاه وشملته رحمته يوم الجزاء يوم الحسرة والندامة. هذا دليل بأن العمل مهما كان متواضعا فإن الله يجزي عليه بأكبر منه "يا من يقبل اليسير ويعفو عن الكثير" شرط ان يكون خالصا لا تشوبه شائبة ولا يراد به إلاّ وجه الله تعالى. ألمْ يأنِ لنا أن نرحم من في الأرض ولا نكون من الظالمين وأول الظلم هو ظلم النفس بحملها على المعصية وتسويفها بالتوبة. ما المحن التي نحن فيها اليوم إلاّ نتيجة الظلم السائد بيننا قولا وفعلا وعملا وسلوكا وكأن الظلم أصبح ثقافتنا ومن تقاليدنا وعاداتنا ونحن أمة تدعي انها تنتمي إلى دين الرحمة والمحبة، وهل الإسلام إلاّ الرحمة، وهل الإسلام إلاّ الحب! فقد دخلت الجنة امرأة قد سقت كلبا ودخل الجنة رجلا وقَّى هرّة من البرد في أحدى دروب بغداد، كما دخلت النار امرأة حبست هرّة وعذبتها حتى الموت بلا رحمة ودون أدنى شفقة أ, رفق بها، لكنها نالت جزاء سوء عملها في الدنيا قبل عذاب الآخرة. هذه القصص والحوادث ليست للترف والبطر ولملأ الصفحات.... بل للتأمل والعبرة وان نحث الخطى ونسارع إلى مغفرة من الحق سبحانه والفوز بمقعد صدق عند ملك مقتدر. الرحمة تطهر القلب من الظلم والتجبر والتكبر بغير الحق وتهذب النفس وتحملها على التسامح والمحبة والشفقة:

سامح أخاك الدهر مهما بدت    ***  منه ذنوبٌ وقعها يعظُمُ

وارحمْ لِتلقى رحمة في غدٍ     ***   فربما يرحم من يرحم

ايّ خلق هذا الذي لا تزينه ولا تجمله الرحمة، قلب بلا رحمة هو اشد قسوة من الحجارة على وصف القرآن الكريم. عن علي عليه السلام ان رسول الله ص مرَّ على قوم قد نصبوا دجاجة حيّة وهم يرمونها فقال مَن هؤلاء لعنهم الله. وعن الصادق عليه السلام قال: أقذر الذنوب ثلاثة قتل البهيمة وحبس مهر المرأة ومنع الأجير أجره. إنها دعوة إلى الرحمة والتراحم، أن ترحم من هو أضعف منك وعدم إستغلاله وبخسه حقه وان يشعر أنه من المحترمين في حضرتك، فلست بأحسن حالا منه دوما، يوم لك ويوم عليك فتذكر غدك وما يًصنع بك. وهذا زين العابدين علي بن الحسين عليه السلام كما تذكر الأخبار والروايات أنه حج على ناقة خمس وعشرين حجة ما قرعها بسوط قط، يرفع السوط ليقرعها ثم يقول: أه، لولا القصاص لضربتك. هل في ذلك عبرة لنا يا ترى أم أننا لا زلنا نكتب ونقرأ ونسمع أخبار  أخبارالأولياء والصالحين. قبل أيام بعث لي أحد الأصدقاء مقطع فيديو ظهر فيه أحد زوار المولى أبي عبد الله الحسين في تاسوعاء بين الحرمين. سئل الزائر عن شعوره وهو يرتدي الكمامة فقال أن ذلك واجب شرعي طالما المراجع أكدت على إتباع التعليمات الصحية فقيل له أحسنت وبارك الله فيك، ثم سئل ثانية: ما الذي تريد أن تقوله للآخرين؟ قال ذلك الزائر المحترم: أوصي النّاس بالتراحم! أن يرحموا بعضهم بعضا، ما نفع زيارة الإمام عليه السلام والقلب ليس فيه مكان للرحمة. دعوة ذلك الزائر المبارك للتراحم تعني أن نقف طويلا  لمراجعة ما في قلوبنا وأن نحضر سجلا ونسجل ونحصي ونحذف ونضيف تماما كما ننقح كتابا ألّفناه وهو في طريقة إلى دار الطباعة ويسرنا أن يخرج للعلن بحلة رائعة، كذلك نحن نسير في الطريق الى النشر وكل واحد منا عبارة عن كتاب هو ألفه وكتب صفحاته، إمّا أن تكون صفحات بيضاء فعندها تبيض الوجوه أو تكون صفحات سوداء فتسود الوجوه. عافانا وإيّاكم المولى الكبير المتعال سبحانه.

ما فائدة صلاتنا مع الغش وأكل حقوق الناس ظلما وجورا وعدوانا. رجل يصلي لكنه يكذب وآخر يصوم لكنه يسرق وثالث "يقرأ القرآن والقرآن يلعنه" ما نفع الصلاة إن كانت لا تُرفع وما قيمة الدعاء إن كان لا يُسمع وما طعم الصيام إن كان للرجيم والتنحيف أو التنشيف قبل التضخيم كما يقول مدربو رياضة كمال الأجسام أولإزالة الكرش كما يقول واضعو برامج الكيتو، ولا يُراد به التقرب إلى الله والشعور بالفقراء وأهل الحاجة، وما فرحة الصائم عند الإفطار إلاّ شعوره بحلاوة الصوم الذي كان لله وقد أعانه الله على إتمامه، وليس فرحته بحلاوة الطعام كما يفهمها البسطاء. فكم من صائم ليس له إلاّ الجوع والعطش "ربَّ صائم حظه من صيامه الجوع والعطش وربَّ قائم ليس له من قيامه إلاّ السهر". مَن كانت صلاته لا تنهى عن الفحشاء والمنكر فهو والمرأة العاقر سيان، كلاهما لا ينتج شيئا. بالمناسبة لا بأس أن نسجل بعض الملاحظات حول صلاة بعض المصلين الذين لا تنهاهم صلاتهم عن الفحشاء والمنكر، وكما اشرنا في مناسبات سابقة، أن العيب في المصلي وليس في الصلاة ذاتها فهي لا تأمر بالكذب والسرقة والرياء والخداع ومكر السوء، بل الصلاة تامر بالرحمة وأول ما نبتدأ به صلاتنا هو : بسم الله الرحمان الرحيم. لكن بطبيعة الحال ان التعامل مع الصادق ليس كمن يكذب ويغش ويحتال. سوف لن ينتفع الآخرون بصلاة عديم الأخلاق سيء التعامل كثير الكذب.

أنا والجزار المسلم..

كنت أشتري اللحم من جزار في إحدى البلدان الإسلامية يدّعي انه يصلي الفرائض اليومية في المسجد لكنه في كلّ مرّة يغشني ويبدل اللحمة التي دفعت ثمنها بأخرى فاسدة لا تأكلها حتى القط التي تتسكع بالقرب من هذا الغشاش. مجرد أن أغفل عنه برهة فإنه يقوم بحركة كروبايتيكية خاطفة فيرمي تحت الطاولة التي يقف أمامها قطعة اللحم التي إشتريتها ويضع مكانها في الكيس بخفة ساحر اللحمة التي اعدها سلفا لعملية الغش والإحتيال. جزار مثل هذا ما حال القطط التي تقصده بحثا عن لقمة العيش (ولو بشقفة)؟ ما نفع صلاة هذا الجزار سواء كانت جماعة أو فرادى؟ في المسجد صلى أم في الدكان؟ صلاة هذا الجزار لا حلاوة فيها ولا طعم ولا رائحة فهي منزوعة الدسم، مصلي يغش الناس والصلاة تنهى عن ذلك، ونبيّ الرحمة ص يقول: "مَن غشنا فليس منا" فهو يكذب والصلاة تنهى عن المنكر، مصلي يأتي بكل ما تنهى عنه الصلاة ولا يأتي إلاّ بحركات الصلاة فيبدو وكأنه يصلي. الأخبار عامرة هذه الأيام بأصحاب النصب والإحتيال وربما كان اخطرها ما سمعناه مؤخرا من أن البعض ينتحل صفة طبيب فيكتب للناس علاجات لا يعرف عنها شيئا. الكلام في هذا طويل وانما تعرضنا لجزء منه على هذه العجالة. الرحمة إذن هي لب الأخلاق الفاضلة الحميدة كما أن الظلم ظلمات كما يقال، وهو عكس الرحمة واللين. الذين يظنون ان الرحمة ضعف وجبن وإستسلام قد خاب ظنهم وحجتهم داحضة إن كانت هناك حجة واقعا.

 الفاضل الملا محمد باقر المجلسي والملا محمد صالح المازندراني..

يُذكر أن الفاضل الملا محمد باقر المجلس عاهد الملا محمد صالح المازندراني على أن الميّت منهما قبل صاحبه يأتي لصاحبه في عالم المنام ويعلمه بما مرّ عليه.

توفي الملا محمد باقر قبل الملا محمد صالح، الذي رآه بعد عام في واقعة (في المنام) في إحدى الليالي.

سأله أولاً: لماذا لم تُظهر نفسك في منامي رغم المعاهدة بيننا؟

قال: كانت الوحشة والإبتلاء قد شغلني لدرجة لم يتيسر لي ذلك، وقد حصل لي الآن في الجملة انس وفراغ وها قد أتيتك.

سأله بعد ذلك عما مرّ عليه، فقال: أوقفوني في مقام الخطاب الإلهي فجاءني الخطاب: بم جئت؟ قلت: إلهي أنت اعلم.

سألوني مرّة أخرى عن عدد حسناتي؟ فقلت: لقد صرفت عمري في تأليف وتصنيف كتب الأحاديث والأخبار، وكتبت في جميع الأحاديث وفي التفسير كتباً.

جاءني الخطاب: ولكن هذه كانت مصدرة بأسماء السلاطين، وقد كنت تسر وتبتهج من توصيفها وتحدث الناس عنها، وكنت تتضايق من ذمّ الناس فنفس ذلك الإطراء والتوصيف والمدح ورضا السلاطين هو اجرك منها.

قلت: لقد صرفت الأوقات الخمسة بالإمامة وجمع الناس لإقامة الصلاة.

جاءني الخطاب: كنت تسر من كثرة وإجتماع المأمومين، ويكدرك قلتهم، ومثل هذا العمل لا يليق بنا.

وكلّ ما قلت أورد عليه النقص ورد حتى سقطت جميع حسناتي عن درجة القبول ويئست من نفسي، إذ جاءني الخطاب: عندك عمل واحد مقبول لدينا:

كنت َفي أحد الأيام ماراً من إحدى أزقة إصفهان وكان اول الوقت وكنت تحمل سفرجلة بيدك، وكانت إمراة تمرّ من ذلك الزقاق وخلفها طفل يركض فرأى السفرجلة في يدك، فقال: أماه أريد سفرجلاً، فأعطيت سفرجلتك للطفل من أجل رضانا وأدخلت السرور على قلبه، لقد عفونا عنك وسامحناك بهذا العمل، وغفرنا لك.

تعليق..

هذا الرجل كان عالما فاضلا وقد أفنى عمره في خدمة الشريعة وأمّ الناس في الصلوات الواجبة وجمع الأحاديث والأخبار ومع ذلك فقد تعرض لمحاسبة دقيقة، لأن المحاسب هو الله الذي يعلم ما تخفيه الصدور "فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى". فما حال المقصرين أمثالي يومئذ!؟

أيّ عمل ينجينا وجلّ أعمالنا الجشع والرياء والظلم وأكل أموال اليتامى وإغتصاب الحقوق وأكل الحرام والسحت والتنافس بالباطل والتنابز بالألقاب والوشاية والغيبة والنميمة ورمي المحصنات وهتك ستر الناس وغيرها الكثير. أكرر في كلّ مناسبة: إنَّ وضعنا خراب!!!

إنها إيجابية كبيرة أن نعترف بسلبياتنا ونشخصها لكن ذلك لوحده لا يكفي ولا ينفع، المريض لا يتماثل للشفاء مجرد أن يشخص له الطبيب علته، عليه بتناول الدواء واتباع إرشادات الطبيب إن أراد فعلا الشفاء، كذلك يكون إصلاح خراب وضعنا وسوء حالنا، بالدواء الروحي واتباع منهج الله القويم. فقد آن الأوان أن نتعظ من أخبار مَن قد سبق قبل ان نكون درسا وعظة لمن يأتي بعدنا والعياذ بالله، ما زال هناك وقت للمراجعة والمحاسبة وان نحاسِبَ أنفسنا قبل أن تُحاسب. تمرّ الأيام وحالنا (مكانك راوح) فلا إستعداد ولا (إلى الأمام سِرْ)! مكانك راوح مع نقاشات عقيمة وكأننا أمة الكلام والقيل ولسنا أمة العمل والجد والإخلاص. أمة يظلم بعضها بعضها فلا تراحم ولا شفقة ولا لين ولا رحمة ولا جد في التوبة. أول الجد هو هجر رفاق السوء وإستبدالهم بالصالحين المرشدين الواعظين الذاكرين الله كثيرا في آناء الليل وأطراف النهار.

" فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ ۖ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ ۖ "..

الرحمة ثم الرحمة هي واحدة من أهم صفات رسول الله ص وميزة أخلاقية لا يضاهيه فيها بشر قط. فقد وصفه سبحانه وتعالى في كتابه العزير بـ" وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٍ"، ومهما كان تفسير أو تأويل معنى الخُلُق وإن كان يشير إلى الدين والمروءة  فدين محمد بن عبد الله هو دين الأخلاق "إنَّمَا بُعِثْتُ لأُتَمِّمَ مكارم الأَخْلاَقِ"، وكما قيل: " الدين كلّه خُلُقٌ" والرحمة هي زينة الأخلاق ودرتها، تنزلت الرحمة على قلب رسول الله ص فاصبح نبيها وإمامها وسيدها فمن أرحم من الحبيب المصطفى بعد أرحم الراحمين سبحانه، لقد خاب الحاقدون على نبيّ الرحمة "وضربت عليهم الذلة" وبدا عليهم الإنكسار والإنحدار إلى أسفل سافلين لن ينالوا خيرا. لقد وصف الله تعالى رسوله الأمين في التوارة قبل أن يبعثه فقال:

"محمد عبدي المختار، لا فظ ولا غليظ ولا صخّاب في الأسواق، ولا يجزي بالسيئة السيئة لكن يعفو ويصفح، مولده بمكة، وهجرته بطابة، وملكه في الشام، يأتزر على وسطه هو ومن معه، وعاة للقرآن والعلم، يتوظأ على أطرافه وكذلك نعته في الإنجيل".

قيل له ص وهو في القتال: لو لعنتهم يا رسول الله؟ فقال:

"إنما بعثت رحمة مهداة، ولم أبعث لعّاناً".

ولما رجع ص من حنين جاءت الأعراب يسألونه حتى اضطرّوه إلى شجرة فخطفت رداؤه فوقف رسول الله ص وقال:

" أعطوني ردائي لو كان لي عدد هذه العِضاة  ـ شجر عظيم له شوك ـ نعماً لقسّمتها بينكم ثم لا تجدوني بخيلاً ولا كذوباً ولا جباناً".

اللهم ارحمنا برحمتك واعتق رقابنا من النار بعفوك ياكريم.

نسأل الله العافية




  • المصدر : http://www.kitabat.info/subject.php?id=147929
  • تاريخ إضافة الموضوع : 2020 / 09 / 05
  • تاريخ الطباعة : 2024 / 03 / 28