• الموقع : كتابات في الميزان .
        • القسم الرئيسي : المقالات .
              • القسم الفرعي : المقالات .
                    • الموضوع : كيف يتعامل العراقيون مع شبكات التواصل الاجتماعي .
                          • الكاتب : د . عبد علي سفيح الطائي .

كيف يتعامل العراقيون مع شبكات التواصل الاجتماعي

 التواصل في اصطلاح علم الاجتماع هو عملية تبادل الأفكار والآراء والمعلومات والمشاعر عبر وسائط متنوعة لفظية كالكلام والكتابة والأصوات والصور والايماءات، أو بواسطة رموز مفهومة لدى الطرف الآخر.
اما كلمة اجتماعي، تشير الى العالم حولنا وتفاعلات الناس وتعايشهم بمعنى أن الانسان لا يمكن أن يعيش منعزلا عن الآخرين، وما عقوبة السجن الا هي عزل المذنب عن الناس. 
فكرة هذا المقال جائت نتيجة دعوة أحد الأساتذة الفضلاء المشرف والمنظم لأحدى منصات التواصل الاجتماعي التي اتشرف بالأشتراك فيها، دعوته لمناقشة طريقة مثلى لادارة وتنظيم هذه المنصة التي تمثل بعض النخب العراقية.
منذ فترة ليست بقصيرة اشتركت بعدة منصات اجتماعية ولنخب متعددة وكنت استلم في اليوم الواحد على الهاتف المحمول أكثر من ألف رسالة وفيديو وصورة، وكنت أضع وقت للمسح أكثر بكثير من وقت القراءة، ووجدت أن هناك 90 بالمائة من النشرات هي نفسها متداولة في جميع المنصات، ومعظم المنصات تتكون تقريبا من نفس الأعضاء والذين يشاركون يوميا بالنشر لا يزيد في أحسن الأحوال عن 12 بالمائة من مجموع المنتمين للمجموعة، فأخذت القرار بسحب نفسي من معظمها مع الاحتفاظ بأربعة منها، ورغم ذلك قد تكون واحدة كافية لمعرفة ماهو ممكن أن يكون ضروري. 
ولتوضيح الصورة أكثر، آخذ على سبيل المثال احدى المنصات الاجتماعية العراقية وهي مجموعة من الأكاديميين العراقيين وفي أحدى المحافظات العراقية. هذا الموقع هو عبارة عن جمع من أساتذة الجامعات العراقية في الداخل والخارج، وخاصة من جامعة تلك المحافظة، والتي تظم قامات علمية مرموقة في كافة الاختصاصات. كان الهدف من وراء هذا التجمع هو توثيق القيم الجامعية والارتقاء بها والمشاركة بتعديل المسارات التي اعوجت في الجامعات خلال الحقب الماضية. التف حشد من خيار الأساتذة في الداخل والخارج وما يقارب 90 أستاذ وباحث وتشرفت أن أكون واحدا منهم. 
وضع المؤسسون لهذا الجمع القدير شروطا للنشر، ولكن مرارا نبهوا بأدب وتلطف وبالصبر في كثير من الأحيان على الاحترام والالتزام بالأهداف أو النظام الداخلي للمنصة الأكاديمية التي على ضوئها تأسس هذا التجمع العلمي، وبح صوتهم مثلما بح صوت المرجعية الدينية في النجف الأشرف دعوتها للقادة السياسيين أن يأخذوا بالاعتبار المصلحة العامة وتحقيق العدالة الاجتماعية.
 نبه الأخوة المؤسسين لهذ التجمع لكثرة الحديث ونشر مواضيع خارجة عن المألوف، وكذلك بسبب ما ينشر من بوسترات وكوبي بيست وكثير منها خارج اهتمام التعليم والروح التربوية الأكاديمية، اضافة الى ما ينشر من التهاني والتبريكات والتصبيحات والدعوات والصلواة والجمعة المباركة.
بعد معايشة هذه الظاهرة والنظر فيها وتحليلها بعيدا عن الانفعالات الشخصية بل كباحث يلتقط الظواهر من الميدان، تكونت لدي جملة من الملاحظات الأولية والتي تستحق البحث والتعمق في أغوارها.
اخترت هذا التجمع كعينة بحثية متجانسة من ناحية الانتماء الطبقي والعلمي والمذهبي والجغرافي المناطقي. مثل هذه العينة للدراسة تكون مثالية لا غبار عليها. وفي البحوث السيسيولوجية يقول العالم الاجتماعي ايميل ديركاهيم (ت 1917)، نقطة البداية هي الأساس في الحصول على نتائج قريبة للحقيقة لأن النهاية منطوية في البداية. 
سئلت نفسي سؤال وهو: لماذا هذا التجانس الكبير في العينة، ويقابله تباين كبير في الخطاب والرؤى؟. وعندما فحصت وحللت ما ينشر من الخطاب، وجدت أن معظمهم يعثر على شيء سواء مقال أو فيديو ثم يقوم بنشره لأجل المشاركة وليس لأجل الحوار. يبحث ويعثر ويختار وينتقي ثم ينشره بدون حوار.
عينة متجانسة مع قواسم مشتركة مع تباين كبير في النشر. اذن هذا التباين هو نتيجة لظاهرة عميقة. يقول الفيلسوف الألماني فريدريك نيتشة (ت 1900)، كل ما نراه هو قناع لشيء يخفي وراءه. اذا ما نزعنا هذا القناع سوف نجد قناع آخر خلف القناع الأول، وهكذا بالتوالي. أي مايقصده  الفيلسوف نيتشة هو صعوبة ايجاد الحقيقة، ويؤيده على ذلك الفيلسوف الفرنسي ميشيل فوك (ت 1984)و، لكن الفيلسوف الماركسي كارل ماركس(ت 1883) قال، نعم الحقيقة تختفي وراء الظاهر الذي هو قناع، الا اننا ممكن أن نصل لها رياضيا. 
هذا التباين الشكلي غير الحقيقي يخفي من وراءه رسالة يجب فك رموزها. هذا التباين يعبر عن شيء يشترك فيه معظم هذا الجمع الأكاديمي القدير وهو المعاناة.
بعد هذه المقدمة ونرجوا أن تكون واضحة وسهلة، ندخل في الموضوع الأساسي وهو سلوك وانماط الفكر العراقي بتعامله مع شبكات أو منصات التواصل الاجتماعي.
هذا الموضوع يخص بالذات علم النفس الاجتماعي، وممكن أن يحل لغز عدة اسئلة منها:
ماهو سبب ادمان بعض العراقيين لوسائل الاتصال الاجتماعي؟
ماهي المحتويات الأكثر مشاركة ، وما هي المنصات المفضلة للأجيال المختلفة؟
وهل ممكن للشبكات الاجتماعية أن يكون لها أثار ضارة على الروح المعنوية؟
ممكن نقسم الدافع الذي يدفع العراقيين للمشاركة في منظمات التواصل الاجتماعي هي:
1.دافع الايثار: يستخدم الفرد الشبكة كصندوق بريد لاسيلام الرسائل، أو راديو للبث فقط دون الاستلام، أو تلفزيون لعرضهم الصور الثابتة والمتحركة.
2.دافع الكشف: يهدف الفرد منه الحصول على ردود فعل والشعور بالموافقة.
3.الانتقائي: وهذه تخص الذين يهتمون بالسياسة والاعلام ينتقون الأخبار بكل عناية ودراية لنهايات سياسية.
4.أو دافع المعارضة: يستخدم المنصة لبيان عدم رضاه وعدم الاتفاق لما ينشر، ويتميز الشباب عادة في هذه الصفة لأنهم عادة يسيرون عكس التيار. 
قلت في المقدمة، أن وسائل التواصل الاجتماعي ممكن تفسيرها بعلم النفس الاجتماعي. يفسر استاذ علم النفس الاجتماعي اليوت آرونسن (1)، بأنها محاولة مشاركة الآخرين لأجل البحث عن الاعتراف. أنا أنشر، اذن أنا موجود، أنا انتج شيئا اذن أنا مفيد. معرفة بأن الآخرين سوف يقراؤن المقال أو يشاهدوا الصور، يمنحنا قوة عاطفية والاحساس بالوجود كبيرة. اما تعليقاتهم تعطي وزنا أكبر في البحث عن التعرف الرقمي.
الخطورة هي وجود فقط خط رفيع يفصل التمثيل عن التغيير. أي نقع بالنرجسية وكل نرجس يحتاج الى مرآة ليعجب نفسه مثلما كان نارسس يفكر في انعكاس صورته في مياه النبع(2)
لكي تكون مبدعا عليك أن تكون مركزا يدور حولك الآخرين وصعوبة افلاتهم من مركز الجاذبية. منذ ظهور منصات التواصل الاجتماعي، لم يكن الترويج لنفسك أسهل من أي وقت مضى. هذه المنصات تستخدم كمؤشرات عرض أهم موضوع وهو انفسنا أي الأنا، والكل يتعطش للاعتراف دون الخوض في التحليل العميق للأنا الذاتية الا اننا نتعمق في تحليل الأنا للآخرين.
النشر المفرط على شبكات الاتصال الاجتماعي يكشف الهشاشة النرجسية للناشر. يتقلب الانسان عادة ذكريات الماضي الجميل ( وكل ماضي جميل مهما كانت ظروفه)، يذكرها ويجتر بها عن طريق الكتب أو الصور أو االحكايات، يذكر الماضي لأنه يرى الحاضر أو اللحظة التي يعيش فيها ليست أجمل من الماضي. 
هذا ما يحصل للعراقيين اليوم، أنهم ينظرون الى ماضيهم ولا يحب أن يفارقه لأنه لن يعمل الحداد عليه، ويرى حاله أسوا من حال الماضي سواء المعنوي، او الروحي، او النفسي، أو المادي. مثل هذه الحالة النفسية تسرق من الأنسان أحلامه، والأموات هم فقط الذين لا حلم لهم.
هناك عامل آخر وراء الاستخدام المفرط لشبكات الاتصال الاجتماعي وهو ما يعاني منه العراقي من عدم الجرأة. يمكننا أن نرى الشبكات الاجتماعية كنوع من الكرة الدائرية المقنعة تدور في كل الاتجاهات. نرى كثير منهم ينقل الصور والأخبار والفيديوهات مؤكدين القول، ناقل الكفر ليس بكافر. عندما يلبس الفرد القناع فانه يجرأ على الكلام وخروج خزائنه المكبوتة والمقموعة. أي ممكن القول، بأننا عالقون في نوع من الاستبداد غير المرئي. 
معظم هذه المواقع لاتنزع القدسية من الرموز الدينية والقبلية الا انها تنزعها من الرموز السياسية لماذا؟. سؤال جدير بالاهتمام. حسب اعتقادي، العراقي يستخدم الرموز السياسية كهدف لرمي سهام تقصيره وفشله على الآخرين. يصعب على العراقي الاعتراف بتقصيره فهو يبحث عن مذنب ويلقي عليه كل اسباب تعاسته. أي بالعامية نقول يبحث عن شماعه يلقي عليها ثيابه الوسخة. وأنا أتصور أن المفكر الدكتور علي الوردي كان ضحية اللاوعي عندما قال أن مشكلة العراقي هي القيم البدوية التي غزت الريف والحواضر. أي رمى مساويء العراقيين على خارج العراق. وهذا ما يحدث اليوم وكأن سبب تعاستنا صدام وامريكا وايران والكويت والسعودية، ولا يوم اعترفنا بأن المشكلة هي غاطسة في ذاتنا الجريحة على حد قول الكاتب العراقي سليم مطر.
قلت في المقدمة، رغم تباين النشر في شبكة الاتصال الاجتماعي الا أن هناك قاسم مشترك وهو المعاناة. أقصد هنا بالمعاناة هو اليأس من البحث عن شيء يفقده العراقيون ولم يجدوا الجواب الشافي للسؤال الذي يطرحوه يوميا وآلاف المرات. يشغل الكل كثيرا المآل الذي صرنا عليه كعراقيين، لماذا نجد بأن الاتجاهات الحضرية والابداعات الفكرية تراجعت؟.
الشيء الذي يفقده العراقيون هو الهوية العراقية الأصيلة التي لا يحدها اللغة، او الدين، أو القومية، او المنطقة. العراقيون يظهرون في نشراتهم على شبكات التواصل الاجتماعي، وفي خطابهم العروبة والمذهبية والمناطقية، وجمال وبلاغة اللغة، الا انهم غير قادرين على اظهار هويتهم الحقيقية التي تحتاج الى رموز تتعدى الوجود الديني والمذهبي والاثني والجغرافي. من هنا تأتي معاناتهم وقلة أو عدم رغبتهم بالحوار. لأن الحوار لا يتم بشكل صحيح عندما تكون مرجعيته مناطقية أو اثنية أو دينية.، فيفضل العراقي العزف عن الحوار في مواقع التواصل الاجتماعي لأنه يعلم مسبقا عدم جديته، لتحوله الى نقاش، ومن ثم الى جدال، ومن بعده الى خصام وينتهي في العداوة، لذلك يكتفي العراقي في النشر المتواصل ويحول منصات التواصل الى صناديق بريد.
دعونا نختم هذا المقال بمحاولتنا كشف النرجسية التي غرقت في اعماقنا في ضوء النهار بالاستعانة بنظرية الفيلسوف وعالم الاجتماع الفرنسي بورديو. يقول بورديو، الدافع الرئيسي الذي يدفع الفرد في حياته هو حب التمييز( سواء العلمي، الطبقي، الثقافي، الاثني،)، وحبه للهيمنة (3). وقبل بورديو، الفيلسوف نيتشة قال الدافع الأساسي الذي يدفع الانسان في الحياة هو حب امتلاك القوة. 
نرى من جانبنا أن العراقيين يشاركون بافراط في شبكات التواصل الاجتماعي، وتتكاثر ويزداد عددها مثلما يزداد عدد سكان العراق مليون فرد سنويا،وهذا التزايد في العدد يصاحبه حالة الانشطار مثل القنابل العنقودية، نجد بعد ليلة وضحاها انشطرت الشبكة الى شبكتين وبمتوالية العددية اذا لم تكن الهندسية. وراء كل ذلك سببين: 
الأول هو الترويج الذاتي: هذا الترويج للنشر وراءه هدف وهو اثارة الاهتمام لتحقيق غاية معينة وهي اما سياسية او اجتماعية . اما الغاية الأعمق وراء النهايات السياسية والاجتماعية وهي البحث عن الاعتراف. هذا التركيز على الذات يمكن أن يكشف أيضا عن نقص الثقة بالنفس وقل تقديرنا لذاتنا. العراقيون عاشوا ظروف صعبة جدا لو مرت هذه الظروف على أية أمة لفقدت ذاتها وقيمها من زمن طويل. هذه الظروف هي التي جعلت من العراقي ينتظر الرجل المخلص مثلما ينتظر بعض الناس المهدي المنتظر. 
الثاني وهو: التميز الاجتماعي: من خلال تقديم أنفسنا للأمام،  نريد أن نبرز تمييزنا عن الآخرين على حد قول الفيلسوف بورديو. نرى مثلا شخصا عراقيا كان او غير عراقي، يبرز صورته في مكتبه أو مع مسؤول كبير ، أو يعرض صوره في رحلة للقول بأن مالديه مايكفي من المال للذهاب واكتشاف العالم الآخر.
ممكن اختم قولي بأن وسائل التواصل الاجتماعي هي وسائل حديثة يستخدمها العراقيون مثلما يستخدمها باقي الأمم، الا أن لكل أمة وشعب بصمته الخاصة التي يضعها على هذه الوسيلة الحديثة التي لازالت غريبة علي كما نزل القرآن غريب على الأعراب.
المصادر
1. Elliot Aronson : Social psycologie, paris 2012.
2.  Freud, pour introduire le Narcissime. OCFP XII ;paris 2005.
3. Pierre Bourdieu : la sociologie comme revolution symbolique.paris 2014.
 .
 




  • المصدر : http://www.kitabat.info/subject.php?id=150188
  • تاريخ إضافة الموضوع : 2020 / 11 / 21
  • تاريخ الطباعة : 2024 / 03 / 29