• الموقع : كتابات في الميزان .
        • القسم الرئيسي : المقالات .
              • القسم الفرعي : المقالات .
                    • الموضوع : النظافة وقصصها من الألف إلى الياء.. الوقت الصعب! .
                          • الكاتب : محمد جعفر الكيشوان الموسوي .

النظافة وقصصها من الألف إلى الياء.. الوقت الصعب!

كتب لي أحد المحترمين متذمرا : وهل لا ينقصنا إلاّ النظافة في هذا الزمن الصعب الله يخليك؟ الجواب على ذلك من شِقين. أولهما : ومتى كان وقتنا غير صعب سيدي الكريم؟!

وثانيهما : لا تسقط النظافة والطهارة في الأوقات الصعبة أيها المحترم. لو كانت النظافة عُرفا ـ كما ندعو إليه في هذا المقال ـ لما كنت ساخطا (وإن بأدب وإحترام) على ما كتبنا عن النظافة في بلد الحضارات الضاربة جذورها في أعماق الأرض. ان التذمر من حديث النظافة وإعتبارها من كماليات  الحياة أو من الأُبَّهَة والترف هو من الموروث السيء المُقَبَح عقلا ومنطقا، ذلك أن للنظافة علاقة مباشرة مع كل ما ينتمي إلى العقل والأخلاق. ذكرنا في الجزء الخامس انه في العصر اليوناني القديم قد إشيعت عبارة "النظافة من التقوى". فهل التقوى من العقل أو من الجهل! وهل التقوى من الأخلاق الحميدة أو المذمومة. للأسف الشديد أننا ننظر إلى النظافة بكل سطحية وانها ليست إلاّ عبارة عن إزالة بعض الغبار العالق على بعض السطوح وانتهى الأمر. كما اننا نعتبر الحديث عن النظافة بطرا وضياعا للوقت. الغريب ان تذمر ذلك السيد المحترم جاءني بعد ان كتبنا خمسة أجزاء وضربنا الأمثال وقصصنا مختلف القصص وأثبتنا ان النظافة تعني التقدم والمسير إلى الأمام أسوة بالأمم والشعوب، وكأن هذا المحترم يعيد عليّ القول مرة أخرى "تغني بالكوز". أنا لا أغني يا سيدي الكريم لا بالكوز ولا بدونه. سوف لن نمل من الكتابة وتسجيل الملاحظات من أجل بناء مجتمع متقدم متسلح بالعلم والمعرفة ومتزينا بالحكمة والأدب يعتني بالنظافة والطهارة من الأوساخ والأدران. ان التمسك بالموروث السيء يؤسس بلا أدنى ريب لأسوأ منه وأمرّ وأدهى. أعلم جيدا ان ذلك يحتاج لوقت طويل ومثابرة على العمل بكل جد وإخلاص، ولكني أعلم أيضا أننا قد أضعنا وقتا طويلا في التقاعس والإهمال واللامبالاة. لقد كتبنا قبل عقد من الزمن ان على المصلحين أن يتبنوا هذا النشأ الجديد ولا ينشغلوا عنه بسواه، أن يتعهدوا للصغار ومنذ الولادة بالتربية والنشأة الحميدة التي من شأنها أن تمهد الطريق لرجال الغد وهم على درجة كبيرة من الوعي والإيمان وحتى التفقه في الدين، وعدم أكل أموال الناس بالباطل. فنظافة اللقمة هي غسلها بالماء والمنظفات واما طهارتها فهي ان تكون من حلال خالص أي أنها قد غسلت بالمطهرات فأزيل عنها  السحت والشبهة والغصب. الآن وقد أضعنا من عمرنا الأيام دونما فائدة تذكر على الإطلاق، وبجردة حساب بسيطة يتبين لنا ان الخسارة كانت كبيرة وكبيرة جدا، قد مرّت الأعوام وأكداس النفايات مع أكداس الجهالات تملأ الشوارع والمحلات والعقول والأدمغة. مرّت الأعوام ولا زلنا نتكلم او نكتب عن المحافظة على النظافة دون ان يسمعنا من يهمه الأمر لأنه لا يهتم إلاّ بمن يشيد به وان كان لا ينفع المجتمع بشيء يوما. لقد اثبتنا وبالتجربة والدليل أننا نبدع في إضاعة الوقت وهدره وإهانته وعدم احترامه وعلى طول الخط وفي جميع الإتجاهات. كم فرصة ذهبية نادرة خسرناها لإهمالنا وتقاعسنا ثم أصبحنا نادمين على ما فرطنا من وقت ثمين وفرصة سانحة قالوا فيها الحكماء أنها تمر مرّ السحاب. هو ذات الوقت الذي لا زلنا نكتب فيه عن ردم المزابل ومحوها ان تعذر نقلها من الطرقات (على الأقل) فإن بقية الأمم تسابق الزمن من أجل الحصول على تقنيات علمية حديثة ومتطورة بالغة الأهمية ومتعددة الفوائد، في الطب والهندسة والطاقة والبناء وبمهارات شابة يقف العقل منبهرا أمامها. أين نحن من هذا؟!

هو ذات الوقت الصعب سيدي الكريم، ففي مجتمعات أخرى وربما أشد صعوبة وأقسى من وضعنا من حيث معاناة الناس من الحصول على لقمة العيش بسبب ظروف اقتصادية قاهرة نرى ان ذلك لن يحول دون الأعتناء بالبيئة ونظافتها وجمالها. يخرج أولئك الناس كبيرهم وصغيرهم لإحياء يوم التشجير فيغرسون الأشجار في الشوارع العامة والطرقات وأمام البيوت. كثيرة هي المجتمعات التي رغم محنتها وعسرها وكدر عيشها فإنها تولي النظافة والحرص على البيئة مكانة خاصة لا تتهاون ولا تغفل عنها. لا أحد من أولئك المحترمين يعتبر ان غرس الأشجار من البطر أو الأُبّهَة لأن الناس بالكاد تحصل على رغيف عيشها. لقد حثَّ نبيُّ الإسلام الحبيب المصطفى صلى الله عليه وآله الطاهرين وأصحابه المنتجبين على العمل واتقانه والمداومة عليه مهما كانت الظروف والأحوال. كان بأبي هو وأمي يحث أبناء أمته على عدم التقاعس والإهمال في إتمام الأعمال على أحسن وجه حتى وان قامت الساعة فقد قال ص : " إن قامت الساعة وبيد أحدكم فسيلة فإن استطاع ان لا يقوم حتى يغرسها فليفعل". ان هول قيام الساعة لا يمنع من ان نغرس فسيلة تثمر فيما بعد، وإن كان هذا الـ (فيما بعد) بعيد المنال ولكن ليس هناك ما يبرر الإنصراف عنه وإهماله إلاّ اللهم العجز والكسل وهذان ما كان الحبيب المختار ص دائم الإستعاذة منهما. لقد كان يحث على الغرس في كل الأحوال والظروف وكان ص يقول :"ما من مسلم يغرس غرسا، أو يزرع زرعا، فيأكل منه طير أو إنسان أو بهيمة إلاّ كان به صدقة". أتذكر قصة طريفة ومعبرة عن هذا المعنى:

كسرى والشيخ الكبير..

يحكى أن كسرى خرج يوما يتصيد فوجد شيخا كبيرا يغرس شجر الزيتون فوقف عليه وقال له: يا هذا أنت شيخ هرم والزيتون لا يثمر إلا بعد ثلاثين سنة فلم تغرسه فقال: أيها الملك زرع لنا من قبلنا فأكلنا فنحن نزرع لمن بعدنا فيأكل فقال له كسرى: زه وكانت عادة ملوك الفرس إذا قال الملك منهم هذه اللفظة أعطى ألف دينار فأعطاها الرجل فقال له: أيها الملك شجر الزيتون لا يثمر إلا في نحو ثلاثين سنة وهذه الزيتونة قد أثمرت في وقت غراسها فقال كسرى: زه فأعطى ألف دينار فقال له أيها الملك شجر الزيتون لا يثمر إلا في العام مرة وهذه قد أثمرت في وقت واحد مرتين فقال له زه فأعطى ألف دينار أخرى وساق جواده مسرعا وقال: إن أطلنا الوقوف عنده نفد ما في خزائننا.

الإعتناء بالنظافة له تأثير خفيّ على نفسية الإنسان ومزاجه فهو عامل مساعد في محاربة التوتر والتشنج والشعور بالإرهاق عند إجتياز تلال النفايات وشم روائحها الكريهة التي تنفر منها النفوس وتضجر. النظافة ليست من الكماليات التي نهتم بها وقت الرفاه ونلغيها وقت الشدة. وما حديث غرس الفسيلة إلاّ لشحذ الهمم ومواصلة العمل فلا عذر للمهمل إلاّ الإهمال ولا سبب للمقصّر إلاّ التقصير، كما ان مسؤولية النظافة كمسؤولية التشجير والغرس تقع على عاتق الجميع فهي مسؤولية جماعية وليست فردية. ليس في ذلك إستثناء بسبب العمر أو الجنس أو التحصيل العلمي او المنزلة الإجتماعية فنحن أتباع محمد بن عبد الله ص الذي قال :"كلكم رَاعٍ، وكلكم مسؤول عن رَعِيَّتِهِ".

 ذلك الشيخ الذي إلتقاه كسرى كان شيخا كبيرا في السن فلم يستثني نفسه من غرس شجرة الزيتون وان كان لا يدرك ثمرها، لكن الأبناء والأحفاد والجيران وعموم الشعب سيدرك الثمر ويهنأ به لأنه أتى من بعد مشقة وعناء وكد وتعب. لم يعد لدينا متسعا من الوقت لهدره وإضاعته في النقاشات الفارغة والمجادلات العقيمة التي لا تلد إلاّ فكرا معاقا غير قادر على المبادرة في إصلاح العطب وترميم البناء الذي تسبب في إضراره الأشقياء المفسدون في الأرض.

تعليق..

لا زالت الأتربة تغطي شوارعنا بدل الأشجار الخضراء الجميلة. فاللون الترابي اصبح لونا مائزا في بيئتنا. في المنطقة التي تحيط بمطار النجف الأشرف أعجبتني النظافة ومنظر الأشجار الخضراء والورود الملونة الزاهية وروائحها الزكية التي أزالت عني بعض متاعب السفر الطويل. لكن بعد مئات الأمتار عادت مناظر النفايات والقاذورات تتصدر الواجهة. قلت لمن كان معي : لماذا هذه الشوارع غير نظيفة وغير مشجرة؟! قال : لأنها بعيدة عن المطار. قلت : وما الحكمة من ذلك سيدي؟ قال : لا يُحْسَنُ ان نستقبل الضيوف بتلك المناظر (يقصد الأوساخ والنفايات). قلت : هذا فعلا من أعجب العجب يا سيدي. عجبا لمن لا يهتم بنظافة بيته إلاّ عندما يزوره زائر. عموما ذلك الضيف المحترم سيكتشف بعد برهة من الزمن إن كانت تلك النظافة عرفا إجتماعيا تحترمه الناس وتطبقه أو أن ذلك مجرد خدعة تماما كالذي يصلي في المسجد مع الأصدقاء لكنه في الخلوة او في بيته لا يعرف إتجاه القبلة.

نظافة اللسان وطهارته..

عندما كنت طفلا صغيرا كنت أحيانا أتلفظ بكلمات أسمعها من أترابي في المدرسة الإبتدائية ولا أعرف معناها فأظنها كلمات لائقة لا عيب ولا بأس من نطقها أمام كائن من يكون. صادف اني قد قلت واحدة منها على مسمع من والدي رحمه الله ورحم امواتكم، فناداني شبه غضبان : جعفر أتسمعني؟ قلت : نعم سيدي ومولاي. قال : ما ذا قلتَ آنفا؟ قلت : كذا وكذا. فقال لي : إستغفر الله وإذهب وطهّر فمك (أشطف حلگك) بالماء فقد تنجس فمك. فقلت : يا والدي لم يخرج الدم من أسناني أو من لثتي؟! فقال لي : تلك نجاسة عينية وهذه نجاسة أخلاقية ومعنوية. ان تطهيرك لفمك سوف يحول دون تكرار ذلك لانك ستتذكر أن تلك الكلمات غير نظيفة. كان ردعا وتوبيخا وارشادا على قدر عقلي حينها. ذكرنا أعلاه ان الأوساخ والقذارات من المقبحات العقلية كما أنها ليست من الفطرة بمكان فليس هناك من يتقرب من الوسخ ويحب مجالسته ويشم منه رائحة كريهة ويرى على ملابسه الأوساخ والقاذورات. فطرة بني البشر تنجذب نحو النظيف وتنفر عن الوسخ. المؤمن دوما في طهارة ظاهرية وباطنية، لسانه لا يذكر به عورات الآخرين ولا مكان في قلبه للغل والحقد والكراهية والحسد وتمني زوال نعمة الغير. وملابسه أيضا طاهرة فصلاته لا تصح بملابس نجسة. الإسلام دين النظافة والطهارة وهو دين الفطرة فنحن أولى بالنظافة والمحافظة عليها والتحدث عنها مشافهة أو كتابة. الواقع هو عكس ذلك تماما فكما كتب لي ذلك المحترم متذمرا من حديثي عن النظافة فربما هناك من يرى أن الموضوع لا يستحق هذا التذكير الذي سوف لن يعتنيَ به أحد. الجواب هو : لا يهم ذلك بتاتا فحالنا كحال ذلك الشيخ الكبير الذي غرس شجرة الزيتون أملا بأن يوما ما سيقطف الناس الثمار ناضجة. عاصرت أحد العلماء الأعلام وقد توفي قبل عام رحمة الله عليه. كان شيخا كبيرا ويذهب الى مسافة طويلة جدا من أجل ان يدرّس شخصا واحدا. قلت له ذات مرة : جناب الشيخ، إن الذي تدرّسه هو في مقتبل العمر وبإستطاعته هو المجيء إلى جنابكم؟ فقال لي : ذلك الشاب المحترم ليس لديه الوقت الكافي لأن لديه إرتباطات أخرى، ثم قال الشيخ :" الأجر على قدر المشقة يا محمد جعفر". قلت : أضعف الله لك الأجر يا شيخ. ذلك الشيخ رحمة الله عليه هو مثال حيّ لزرع الفسيلة حتى وان قامت الساعة. فأين نحن من هذا؟!

أتظن سيدي الكريم ان النظافة لا تعني الثقافة والعقل السليم والذوق الرفيع. كلا.. فالنظافة تعني الكثير الذي ذكرنا  بعضه بإيجاز شديد هنا.

الوقوف في الطابور..

 كنت مع أحد الأصدقاء في زيارة لبلد مجاور للعراق وقد لفت نظري وقوف الناس في الطابور بشكل متحضر وهو ينتظرون صعود الحافلة. كنت أقول لصديقي : أنظر إلى الشوارع كم هي نظيفة، أنظر إلى أوراق الأشجار إنها خضراء، اجل خضراء وليست كالتي عندنا صفراء من شدة العطش الذي ليس هو بسبب شحة المياه. بل نتيجة الإهمال وعدم الإلتزام بقوانين الحياة الكريمة وإحترامها بسقي الأشجار. لا أدري ما معنى أن نزرع ثم لا نسقي الزرع ونترك الأشجار والنخيل عطشى فبدل أن تكون باسقة  شامخة ممشوقة فإنها تصبح منحنية كظهري الذي أثقلته الذنوب والمعاصي. وأنا أقف في الطابور في ذلك البلد المجاور، أخرجت منديلا ورقيا من جيبي ومسحت به وجهي وتعمدت رميه في الشارع بشكل إستفزازي لأرى ردود أفعال الناس حولي، فكانت النتيجة كما توقعتها : رفض وإستنكار لرمي القاذورات في الشارع. هرع إليّ شاب وهو يقول لي : لا نسمح لك رمي مخلفاتك بهذا الشكل يا سيد. قلت : آسف فلن أكرر ذلك مستقبلا. قال : هذا لا يكفي. قلت : وماذا أفعل يا سيدي؟ قال : إلتقط ما رميته في الشارع وأرمه في تلك السلّة وأشار بأصبعه الى حاوية صغيرة. قلت : حاضر وفعلت ما أراده مني. بقي يراقبني لعلمه ان الذي يرمي الأوساخ هكذا امام اعين الناس، ماذا عساه يفعل إن لم يره أحد! شعرت حينها أني كطفل صغير لا يجيد التصرف لوحده دون مراقبة واعتناء من لدن وليّ أمره، أو كأني إنسان مخبول أو أحمق يسيء حتى عندما يريد ان يحسن. هذا هو حال من يرمي أوساخه في الأماكن العامة والخاصة كذلك. عدت من الزيارة فقصصت قصتي على جاري عسى ان يكف عن رمي اوساخه امام بيتنا كل عشية فقال لي : هذا يحدث عندهم فقط في  العلن وفي الشوارع العامة أمام الملأ ولكنهم في السر وفي الأزقة (الدرابين، العگود) يرمون أوساخهم من الشبابيك. لا اظن ان حديث جاري يحتاج إلى تعليق ويكفي ان أذكر ماذا يفعل جاري عندما تهدأ النفوس في تلك (الدرابين) وتنام!!!

النظافة وجار السوء لا يجتمعان..

بعث لي احد الأكادميين الصالحين المتألقين مقالا عن جار السوء ذكر فيه :" ... يلقي القمامة على مدخل بيتك..". هذه واحدة من أهم سيئات جار السوء التي ينبغي ان لا يغفل عنها من كان يبحث عن الجار قبل الدار. إن الحسد وتمني زوال النعمة واحيانا كثيرة التسبب مباشرة في زوال النعمة هي أيضا من الأوساخ التي يرمي بها المريض نفسيا واجتماعيا كل ذي نعمة، والنعمة لا تعني الرزق فقط بل تعني العافية ودوامها وتمامها وكمالها كما تعني التوفيق لكل خير بقول او فعل كما تعني السعي في قضاء حوائج العباد وغيرها الكثير الذي لا يسمح المقام هنا لذكرها. أقول لقد أحسن الدكتور المتألق المبارك عندما إهتم بنظافة الجار واعتبرها من المقدمات البالغة الأهمية لإختيار الدار. فالجار الوسخ هو جار سوء من الطراز الأول ولي معي جاري القديم في زقاق أهل العلم في النجف الأشرف مواقف ليست طيبة بالمرّة.

جاري المزعج أيام زمان..

لقد أستفذ وسع والدي مع ذلك الرجل المحترم الذي كان يرمي أكداس النفايات امام بيتنا كل ليلة. كان ينتظر حتى مرور آخر خروف يرعاه صاحبه بحثا عن قشور البطيخ. يفتح باب داره بكل هدوء كاللص الذي يريد ان يفعل فعلته ويهرب. بسرعة خاطفة يفرغ (السطل الكبير) امام بيتنا دون ان يحدث صوتا او جلبة تشكف سره. كانت غرفتي المتواضعة تطل على تلك الأكداس من النفايات فعمدت إلى إلغاء ذلك الشباك الذي لم أر منه خيرا يوما،

 حتى عندما كنت صغيرا وأريد أن أستنشق الهواء غير الفاسد (ان وجد) فسرعان ما أحصل على توبيخ من والدي رحمه الله ورحم أموتاكم : مثلك لا ينظر من الشباك. إن نظرت إلى الأسفل فسوف تغتر ويجد العُجْبُ طريقه الى نفسك والعُجب يؤدي الى الكِبَر وهذا يؤدي إلى التكبر في السلوك والتصرف وحينها يصعب العلاج يا ولدي. وإن نظرت إلى الأعلى فستوجعك رقبتك لأنك أتعبتها بما يجعلها متشنجة في النظر إلى الأعلى وهذا ما قد يجعلك تبتعد عن الرضا والقناعة بما خصك الله به... اتذكر اني مازحته يوما فقلت له : الشباك يا أبتِ لإستناق الهواء وليس للنظر إلى الأرض أو السماء، فإبتسم وقال : كلا.. إنه لدخول النور والضياء بدل العتمة والظلماء. قلت : جارنا لا يزال يرمي بأوساخه أمام بيتنا ما العمل يا والدي؟ قال : إن لم ينتهِ لأشكونه إلى الله تعالى وأطلب من الحق سبحانه أن يبدلنا بخير منه، إما ان ننتقل منا هنا وإما ان ييسر الله له وينتقل هو. إقشعر بدني من ذلك وعلمت ان والدي متأذٍ جدا من جارنا السيء الذي يرمي نفاياته وفضلات طعامه أمام باب بيتنا كل عشية. قلت أتكلم معه أنا الطفل الصغير بكل ادب عسى أن أكون موفقا. طرقت الباب ففتحها لي وسبقي بالسلام فحييته واستأذنته بالحديث فوافق. قلت ياعم هذا زقاق أهل العلم والأدب والفضل، وانت ان شاء الله منهم. فعلى جهة اليمين من بيتنا هو بيت العلامة المحقق السيخ باقر شريف القرشي وبجانبه هو بيت العلامة المسدد آية الله العظمى السيد محمد علي الحمامي وخلف بيتنا هو بيت العالم والأديب الشاعر الشيخ عبد الأمير الجمري البحريني، وفي مقدمة الزقاق بيت العلامة المتبحر العارف السيد أحمد المستنبط وهناك على التلة بيت العالم الجليل السيد حسن القبانجي ويجاورنا مباشرة المربي الكبير والسيد الفاضل والعَلَم الجليل عمنا السيد عبود الرفيعي كما تقابلنا حسينية بيت شريف البنائين المحترمين وفي منتصف الزقاق هناك مسجد تقام فيه صلاة الجماعة بإمامة العلامة الأستاذ السيد جعفر المروّج وهو من كبار أساتذة الحوزة العلمية المباركة في النجف الأشرف وقتها ومن ثم في حوزة قم المقدسة وعلى بعد بضعة أمتار هناك بيت حفيد العلامة العارف السيد أبي الحسن الإصفهاني.. واخذت اذكر له أسماء بيوتات ذلك الزقاق الذي كان  بجوار صحن أمير المؤمنين عليه السلام. لم يأبه جاري بكل الذي قلته وإنما إكتفى بالقول : "قُلْ كُلٌّ يَعمَلُ على شاكِلَتِهِ". قلت : لقد صدقت في هذه يا عمّ! أظن أني جاري قد أخطأ في معنى الآية فظن أن معناها هو أنه لا فضل لأهل العلم عليه، فهو أيضا له عمله وشغله لكن ذكره للآية الكريمة وقتها كان في محله فقد ادان نفسه من حيث لا يشعر، فأهل العلم لا يرمون أوساخهم على الناس بل ينشرون علمهم عليهم فـ "زكاة العلم نشره"."وخير الناس من نفع الناس". أمّا ذلك الجار فهو ـ كما قال ـ يعمل على شاكلته في الإساءة إلى المجتمع، كلّ المجتمع.




  • المصدر : http://www.kitabat.info/subject.php?id=153048
  • تاريخ إضافة الموضوع : 2021 / 03 / 13
  • تاريخ الطباعة : 2024 / 03 / 29