• الموقع : كتابات في الميزان .
        • القسم الرئيسي : المقالات .
              • القسم الفرعي : المقالات .
                    • الموضوع : أنسنة القرآن أو ( أنسنة النصّ القرآني ) ( ١ ) .
                          • الكاتب : يحيى غالي ياسين .

أنسنة القرآن أو ( أنسنة النصّ القرآني ) ( ١ )

قبل البدء لا بدّ من توضيح العنوان ؛ معنيان يتبادران للذهن منه - من العنوان - ، أحدهما قريب والثاني أبعد منه نسبياً وهما :

١. أن القرآن في الأصل غير مُعدّ للإنسان ، وبالتالي يحتاج الى معالجة معيّنة لآياته وسوره لكي يكون موائماً للتعامل البشري على نحو الفهم او التطبيق ..

٢. أن القرآن هو كتاب خاص بحياة الإنسان ، وأُعد بشكل يكون فيه مهتمّاً بكافة شؤون البشرية ويشمل جميع جوانبها ، على المستوى الفردي والإجتماعي .. ولكن المشكلة تكمن في مستوى وشكل التعاطي مع القرآن الكريم وطريقة الاستفادة منه ، لنقل المشكلة في المتفاعل وليس بالقابل والمتفاعَل ..

ولا شك ولا ريب أننا نريد المعنى الثاني ، لأن بطلان الأول لا يحتاج الى اثبات ولا توضيح أصلاً .. وبنفس الوقت نكون عن معنى أنسنة النصّ القرآني وفق معجم مصطلحات الحداثة أبعد ، والذي يعني عندهم : رفع الجانب الغيبي عن القرآن وتجريده عن قداسته والتعامل معه كجهد إنساني وبشري متفرّد .. !

نعم ، تعامَلنا مع القرآن الكريم - نحن المسلمون - بنسخته الإسلامية ولم نتعامل معه بنسخته الإنسانية العابرة لحدود وأُطر العقيدة ، والمتعدية للمساحة الزمنية والمكانية لنزول القرآن ، والمستقرّة في دائرة الإنسانية بما هي إنسانية بغض النظر عن شكل ومستوى حضارتها وديانتها واهتماماتها .. !

فكما أن في القرآن الكريم مطالب وإرشادات وأحكام تهمّ حياة المسلم والمسلمين .. فإن فيه ايضاً ما يهمّ البشرية ما يمكن أن يكون أكثر وأوسع ، مما يجعل وضع قيد العقيدة الإسلامية كشرط للإستفادة من آيات القرآن قيداً احتكارياً ظالماً لهذا الكتاب الحياتي العظيم للبشرية ..

وهذا ما يؤدي بنا ونحن في طريق تعميم وأنسنة القرآن الكريم الى تقسيمه على أقسام ثلاثة :

الأول : فلسفة آيات القرآن الكريم : بمعنى المنطلقات العامّة لآيات القرآن والقواعد الجوهرية التي صدرت عنها ، من قبيل الدراية بطبيعة الإنسان وإمكانياته وأبعاده النفسية والعقلية والجسمية ، وعلاقته بما يدور حوله من طبيعة .. الخ ، أضف الى ذلك خلفية وجوده على الأرض وفلسفتها ..

الثاني : مقاصد آيات القرآن : فهناك مقاصد وغايات للقرآن الكريم ، قد تتحلل الى مقاصد جزئية تضمها آية او أكثر ، ثم تتجمع وتتركب في مقصد جامع كبير يتضمن الصورة النهائية التي يريدها القرآن للإنسان والحياة الكاملة للبشرية ..

الثالث : هو هذه النسخة الإسلامية الموجودة بيننا والمتركبة من كلمات وآيات وسور ، تشكلت على شكل مفردات وتراكيب وأساليب لغوية ، وحملت معاني ومقاصد متنوعة ..

فعندما نتعامل مع القسم الثالث فقط ونجرده من القسمين الآخرين ، ونهتم به كتلاوة وضبط للكلمات ، واتّباع أوامره الخاصة بالمسلم ، من صلاة وصوم وزكاة وعلاقات إسلامية بين المسلمين او بينهم وبين غيرهم .. الخ بحيث يكون المدار مداراً اسلامياً .. نكون قد احتكرنا القرآن الكريم لنا ولم نقدّمه ككتاب جاء الى الإنسانية جميعا .. !

بينما .. عندما نقدم القرآن الكريم ومعه فلسفة آياته من جهة ومقاصدها من جهة أخرى ، نكون قد قدّمناه كاملاً ، وحجّته تصبح دامغة ، وأسباب التعامل معه تكون موجِبة للآخر ..

ويمكن أن نفهم هذا الأمر من قول أمير المؤمنين ع في وصيته الخالدة : ( اللهَ اللهَ فِي الْقُرْآنِ، لاَ يَسْبِقْكُمْ بِالْعَمَلِ بِهِ غَيْرُكُمْ ) ، اذا فهمنا من ( غيركم ) هنا بمعنى ( غير المسلمين ) ، نكون قد فهمنا أن القرآن قابل للعمل به بغير صبغته واجواءه الإسلامية ..

ولقد أشار القرآن الكريم في عدد من آياته الى العلاقة بينه وبين الإنسان بما هو إنسان وحسب التعبير القرآني ب ( الناس ) ، وهي علاقة قابلة للتفاعل والتعاطي خارج حدود الدين والعقيدة ، كما في الآية الكريمة من سورة الزمر ٢٧ : { وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَٰذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ }

( ٢ )

قراءة القرآن قراءة إنسانية ، مع تفكيك وتحليل عباراته بالشكل الذي نفهم منه المنطلقات والمبادىء العامة لنصوصه الكريمة ومنطلقاته الأساسية التي اعتمد عليها ثم معرفة مقاصده وما يريد أن يؤول إليه الإنسان ، واستخراج القواعد الفكرية والعملية للبشرية في جميع شؤونها بما ينسجم مع فلسفة القرآن ومنطلقاته من جهة وأهدافه وما يريد أن يصل إليه من جهة أخرى .. هو ما نعنيه من أنسنة النصّ القرآني هنا ..

وفي الوقت الذي نؤمن به أن التعامل مع القرآن الكريم تحت ظل الإسلام هو التعامل الأكمل فهماً وتطبيقاً لهذا الكتاب العظيم .. الا أنّ هذا لا يمنع من الخروج عن هذه الدائرة - عندما يُراد تصديره وتعميمه - في حال عدم التمكن منها ، والتعامل مع الكتاب الشريف بالدائرة الإنسانية الأوسع والتي تسمح للمتعامل معها أن يكون خارج العقيدة والدين الرئيسي للكتاب المجيد ..

عالج القرآن الكريم الكثير من الأوضاع الإنسانية كأفراد ومجتمعات ، ووضع أهم النقاط التي تهمّها خلال مسيرتها في هذه الحياة ، وبالتأكيد أن استقصاء كل الجوانب القرآنية الإنسانية تحتاج الى جهود جبّارة من قبل متخصصين في كل مجال على حده ، الا أننا يمكن أن نضع بعض الإشارات لبعض الجوانب من أجل توضيح الفكرة من هذا المقال ..

ففي الجوانب الاجتماعية مثلاً ، أغناها القرآن الكريم وصفاً وتقعيداً ، فأعطى الكثير من السنن الإجتماعية التاريخية التي تحكم المجتمعات البشرية والتي تنزل منزلة القانون الذي لا يختلف ولا يتخلف وتكون نتائجه متساوية كلما تساوت مقدماته ، قال تعالى { قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ } ( ال عمران ١٣٧ ) ، ومن هذه السنن مثلاً يوضح القرآن سبباً مهماً من أسباب انهيار وهلاك المجتمعات والدول ، قال تعالى { وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا } الأسراء ١٦

وفي الجانب الاقتصادي ايضاً ، ففي القرآن أهم أركان الاقتصاد البشري ، سواء ما كان متعلقاً بمصادر الثروة أم بانواع الملكية أم بنظام الرعاية والتكافل الاجتماعي { إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ ۖ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ ۚ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ ۗ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ } البقرة ٧١ ، أو بنظام الضرائب ، كالزكوات والأخماس .. الخ ، وكذلك يتدخل في بيان شؤون بعض المعاملات التجارية ، كالبيع والقرض والربا { الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ۚ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا ۗ وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا ۚ } البقرة ٢٧٥ ، والتطفيف بالميزان { وَإِلَىٰ مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا ۗ قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَٰهٍ غَيْرُهُ ۖ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ ۖ فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا ۚ ذَٰلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ } الاعراف ٨٥ وغيرها .. وهذه كلها عبارة عن قوانين بشرية لها آثارها الوضعية وليس لها علاقة بعقيدة المجتمع أو هويته الدينية ، ونتائجها السلبية او الايجابية لا تنتظر ثواب وعقاب الأخرة ..

وهكذا في الكثير من شؤون الفرد والأسرة والجماعة والمجتمع .. لا يسع المجال هنا الإشارة اليها جميعها ..

القصد من هذا المقال هو أن القرآن كتاب حياة الإنسانية في هذا الوجود ، لا ينحصر التعاطي معه داخل الإطار الإسلامي فقط - وإن كان هو التعاطي الأكمل - ، ففيه من القواعد والأصول والفروع التي تغطي أهم مجالات البشرية وتستطيع أن تنتفع منها بغض النظر عن هويتها الدينية ، وهذا ما ينبغي العمل عليه خاصة اذا استطعنا أن نقدم النصوص القرآنية بشكلها الإنساني العام ومعها فلسفاتها ومقاصدها العامّة ..

قال تعالى { وَأَنْ أَتْلُوَ الْقُرْآنَ ۖ فَمَنِ اهْتَدَىٰ فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ ۖ وَمَنْ ضَلَّ فَقُلْ إِنَّمَا أَنَا مِنَ الْمُنْذِرِينَ } النمل ٩٢




  • المصدر : http://www.kitabat.info/subject.php?id=154490
  • تاريخ إضافة الموضوع : 2021 / 04 / 20
  • تاريخ الطباعة : 2024 / 03 / 28