• الموقع : كتابات في الميزان .
        • القسم الرئيسي : المقالات .
              • القسم الفرعي : المقالات .
                    • الموضوع : قراءة في سورة يوسف (عليه السلام) ( 23 والاخيرة ) واشرقت شمس الصباح .
                          • الكاتب : السيد عبد الستار الجابري .

قراءة في سورة يوسف (عليه السلام) ( 23 والاخيرة ) واشرقت شمس الصباح

 كان ابتعاد بنيامين عن ابيه الحلقة الاخيرة في سلسلة حزن يعقوب (عليه السلام)، اذ تسارعت الاحداث بعد ذلك لتتسبب في جملة من المتغيرات في مجتمع ال يعقوب (عليه السلام).
عاد الاخوة الى ابيهم وهم في حيرة مما سيواجهون به ذلك الاب الحزين الذي لم يفارق اسم يوسف (عليه السلام) شفتيه طيلة عقود من السنين، فكيف بهم وقد اخذ بنيامين من بين ايديهم وكيف سيقنعون اباهم ان ما حدث لبنيامين لم يكن بتقصير منهم، ولما وصلوا حدثوا اباهم بما جرى وطلبوا اليه ان كان لا يثق بما يقولوه ان يسأل القرية التي كانوا فيها والعير التي اقبلوا معها لانهم كانوا شهوداً على الحادث، ولكن يعقوب (عليه السلام) اظهر عدم القبول منهم، وبالجمع بين عصمة يعقوب (عليه السلام) وعلمه الذي علمه الله اياه وبين رفض ما ادعاه ابناؤه من البرائة، نستطيع القول ان رفضه (عليه السلام) لكلام ابنائه لم يتعلق ببرائة ساحتهم من الكيد لبنيامين بل كان منصباً على رفضه تأييدهم لسرقة بنيامين للصاع واتهامهم ليوسف (عليه السلام) بالسرقة من دون ان يبين لهم ذلك.
وعلى اثر ذلك اتخذ يعقوب (عليه السلام) موقفاً يعتبر  خطوة متقدمة على صعيد التعاطي مع مقتضيات المرحلة.
الموقف الجديد الذي اتخذه يعقوب (عليه السلام) هو الاعتزال عن اولاده مع تخييم الحزن العظيم على قلبه الشريف حتى فقد بصره:
﴿وَتَوَلَّىٰ عَنْهُمْ وَقَالَ يَا أَسَفَىٰ عَلَىٰ يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ﴾ 
ولم يتعاط الابناء مع حزن ابيهم تعاطياً ايجابياً فبدلاً من المواساة ومحاولة تخفيف الآلام عنه اخذوا يلومونه على تعلقه بيوسف (عليه السلام): 
﴿قَالُوا تَاللَّهِ تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّىٰ تَكُونَ حَرَضًا أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ﴾ 
لم ينته الموقف عند هذا الحد بين يعقوب (عليه السلام) وبنيه حتى بين لهم انه يشعر معهم بالوحدة والغربة، وان انسه بالله تعالى وان يعلم من الله تعالى حقائق وامور خفية عنهم ولا يسعهم ادراكها:
﴿قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾ 
لم تمض الايام حتى انتهى ما لديهم من خزين جاءوا به من مصر في سفرتهم الاخيرة واصبح متعيناً عليهم ان يعودوا الى مصر للإمتيار من جديد، فأوصاهم يعقوب (عليه السلام) هذه المرة بوصية تختلف عن وصاياه السابقة اذ امرهم ان يتحسسوا اخبار يوسف (عليه السلام) واخيه 
﴿يَابَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلَا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ ۖ إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ﴾ 
والتحسس في اللغة هو طلب الخبر قال في الصحاح "وتحسست من الشيء اي تخبرت خبره" وطلب الخبر هذا على نحو الحصول على الخبر اليقيني "ويقال ايضا حسست بالخبر واحسست به اي ايقنت به" 
فالمتأمل يجد ان يعقوب (عليه السلام) يأمر اولاده بالتقين من خبر يوسف (عليه السلام) واخيه، وهي وصية لم تسبق منه في سفرتيهم السابقتين، والامر قد يكون طبيعياً لو امرهم بالبحث عن اخبار بنيامين لانهم يعلمون انه في مصر اما كيف الحال مع يوسف (عليه السلام)، ولكن وقائع الاحداث كشفت عن قوله (عليه السلام) لعل الله ان يأتي بهم جميعاً اي اولاده الثلاثة يوسف وبنيامين واخوهم الاكبر انه (صلوات الله عليه) مطلع من الله تعالى على الاحداث المستقبلية .
وجرت الاحداث كما انبأ يعقوب (عليه السلام) اذ ذهب اخوة يوسف (عليه السلام) اليه وفي هذه المرة، لم يكن اللقاء كسابقيه اذ اجلسهم يوسف (عليه السلام) للمعاتبة وبين لهم الخلل الكبير الذي اوقعوا انفسهم فيه، وكيف ان الله بالغ امره، انهم كانوا ينفسون عليه حب ابيه له وتصديه لزعامة ال يعقوب (عليه السلام) واليوم هو عزيز مصر والحاكم الثاني في الامبراطورية الممتدة بما لا يسعه خيال اولاد يعقوب (عليه السلام)، وكان جزاء ظلمهم يوسف (عليه السلام) ان اظهر لهم الود والحب والاخاء شاكراً لله فضله ونعمته ولطفه:
﴿فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُزْجَاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا ۖ إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ ، قَالَ هَلْ عَلِمْتُمْ مَا فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جَاهِلُونَ ، قَالُوا أَإِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ ۖ قَالَ أَنَا يُوسُفُ وَهَٰذَا أَخِي ۖ قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا ۖ إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ ، قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا وَإِنْ كُنَّا لَخَاطِئِينَ ، قَالَ لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ ۖ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ ۖ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ﴾
كان لقاء يوسف (عليه السلام) بإخوته مرحلة الاعداد ما قبل الاخيرة لهم، حيث انهارت حصون عنادهم وحسدهم وبغيهم وظلمهم، لينتقلوا من معسكر الاعداء الى معسكر الاولياء المحبين، فيوسف المقتدر عزيز مصر المحبوب من شعب مصر لما اتصف به من الرحمة والإحسان لم يعد يزاحمهم في تزعم اسرة ال يعقوب، لان هذه الاسرة الكريمة لا تعدوا سوى بضعة عشرات، بينما يدير يوسف (عليه السلام) دولة مترامية الاطراف من الدول الكبرى على صعيد الاقتصاد والقدرة العسكرية والجانب الحضاري الذي لم يحلم به بنو يعقوب يوماً، وبإنضمام بني يعقوب (عليه السلام) ساحة الولاء ليوسف (عليه السلام) اذن الله تعالى بانتهاء فترة البعد بين يوسف وابيه (عليهما السلام)، فأمر اخوته بأن يذهبوا الى ابيهم بقيمصه ويضعوه على وجهه ليرتد اليه بصره، وهذا جانب اخر من علم الغيب الذي اختص الله به بعض خلقه فكيف يمكن لقطعة من القماش ان تشفي مصاباً في عينه، هذه هي اسرار الخلق وعالم التكوين الذي لا يحيط به الا من اختاره الله تعالى من بين عباده.
﴿اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هَٰذَا فَأَلْقُوهُ عَلَىٰ وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيرًا وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ﴾ 
وبدأت تباشير اللقاء يتضوع عبق اريجها لينتشر شذاها من ارض مصر الى ارض كنعان وما ان فصلت العير التي فيها ابناء يعقوب في مفترق الطرق حتى هبت نسائم ريح يوسف (عليه السلام) لتصل الى مشام يعقوب (عليه السلام) على بعد مئات الكيلومترات، ليضيف يعقوب (عليه السلام) الى ابنائه واحفاده مصداقاً اخر من مصاديق علمه الغيبي:
﴿وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ قَالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ ۖ لَوْلَا أَنْ تُفَنِّدُونِ﴾ 
ولست ادري كيف حال يعقوب (عليه السلام) عندما القي على وجهه الكريم قميص يوسف (عليه السلام) فان القلم يعجز عن وصف حال عواطف الانسان العادي فهذا شعور خاص لا يدركه حق الادراك الا من عاشه، فكيف يمكن ان يوصف احساس نبي فوق مستوى البشر:
﴿فَلَمَّا أَنْ جَاءَ الْبَشِيرُ أَلْقَاهُ عَلَىٰ وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيرًا ۖ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾ 
وفي ارض كنعان تمت المرحلة الاخيرة من توبة ابناء يعقوب (عليه السلام) اذ تقدموا معترين لإبيهم مما كان منهم وطلبوا منه ان يطلب من الله ان يغفر لهم ما ارتكبوه من ظلم واثم.
وتحركت قافلة ال يعقوب (عليه السلام) تقطع الفيافي والقفار نحو يوسف الصديق (عليه السلام) في بلاد سلطانه وحكمه ودولته ليتحقق الوعد الالهي الذي مر في طيف رؤيا يوسف (عليه السلام) ليتجسد على الارض بعد مرارة فراق ومعاناة وظلم واضطهاد من القريب، ويد الغيب ترعى يوسف (عليه السلام) وتسدده وتؤيده مع ما فيه من كريم الخصال ونقاء القلب وحكمة النبوة وفيض العلم الالهي انها قصة الله والانسان.
ولا ادري كيف وصل الركب وكيف يوصف حال المتنظريَن يعقوب ويوسف (عليهما السلام)، وكيف كان لقائهما واي حال كانا عليها.
﴿فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَىٰ يُوسُفَ آوَىٰ إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَقَالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ ، وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا ۖ وَقَالَ يَا أَبَتِ هَٰذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا ۖ وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي ۚ إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ ۚ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ ، رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ ۚ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ۖ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ﴾ 
وهكذا تنتهي قصة الفراق الطويل والبعد والعناء، بعد ان تكللت بالدموع والاهات، والخوف والرجاء، والوان المصاعب والابتلاءات لترتسم في الافق البعيد كلمات يطرزها شعاع الامل بالغد المشرق: 
﴿وَكَذَٰلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ ۚ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَنْ نَشَاءُ ۖ وَلَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ ، وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ﴾ 
انه حديث الله والانسان اختصرته ايات سورة يوسف (عليه السلام) لتكون مشعل هداية في مسيرة العبد نحو الرب.                                                                                                              




  • المصدر : http://www.kitabat.info/subject.php?id=155094
  • تاريخ إضافة الموضوع : 2021 / 05 / 03
  • تاريخ الطباعة : 2024 / 04 / 19