بعد نجاة النبي ابراهيم (عليه السلام) من نار النمرود سرت دعوته في بابل وكنعان ومصر ـ بعد ان هاجر اليها فترة من الزمن ـ وكانت بابل ومصر اهم امبراطوريتين في تلك الحقبة الزمنية حيث دلت جملة من الروايات ان نمرود هو احد الشخصيات التي حكمت اصقاعا واسعة من الارض.
لقت دعوة النبي ابراهيم (عليه السلام) قبولا وترحيبا في الاوساط الاجتماعية ولم تستطع الحكومات الجائرة ولا المعابد وكهنتها القضاء على دعوته، بل اصبحت الدعوة الى الله تسير بخط مواز للدعوة الى عبادة الاوثان بعد ان مضت حقبا زمنية طويلة كانت عبادة الاوثان الديانة الوحيدة العامة على الارض ضاربة بجذورها بين ابناء المجتمع البشري وازدادت ترسخا في مجتمعات الضلال، وقد يستثنى افراد قلائل من ابناء المجتمع البشري كانوا على دين نوح (عليه السلام).
بابل وكنعان ومصر وبلاد فارس كانت حواضر عظيمة تعج بحركة العمران والزراعة، وكان المجتمع فيها مجتمعاً متمدناً بحسب القيم المدنية لذلك الوقت، وعلى خلاف ذلك تمتد الصحراء البعيدة حيث شضف العيش وصعوبة الحياة وقساوة البراري والقفار التي تركت اثارها واضحة في خشونة اهلها، حيث كان اعتمادهم الاساس على سواعدهم في حماية انفسهم من اخطار البشر والحيوانات المفترسة، اقوام لم يعرفوا الاستقرار في ارض الا ما ندر، يجولون في الصحراء طلبا للماء والكلأ لري مواشيهم وعلفها.
تلك الجهة من الارض التي ربما لم يدر في خلد اهلها يوما ان رمال صحرائهم القاحلة وصخور جبالهم الجرداء ستتبرك يوما بان يحل فيها حامل لواء التوحيد وريث دعوة نوح (عليه السلام)، ولكن ابى الله الا ان يروي تلك الارض من قطر غيث النبوة لتكون بعد قرون من الزمن مشعلاً تنطلق منه دعوة التوحيد لتملأ الارض على يد حفيده المصطفى (صلى الله عليه واله).
كان للنبي ابراهيم (عليه السلام) زوجة اسمها هاجر (عليها السلام)، وما ادراك ما هاجر ،هاجر ربيبية البلاط المصري، وللإنسان ان يتخيل مالذي تكون عليه ربيبات القصور اللائي خضن في رخاء العيش وطبيعة الحياة المادية الهانئة حيث المال والثروة والسلطان، بعد رحلة النبي ابراهيم (عليه السلام) الى مصر للدعوة الى الله تعالى اهدى ملك مصر هاجر لتكون جارية لسارة زوج النبي ابراهيم (عليه السلام) فعادت مع سيدتها الجديدة الى بلاد الكنعانيين وغادرت حياة القصور الفارهة، هاجر من النساء اللائي اثبتن للدنيا ان رشحات النور تجد محلها في القلوب الطاهرة، فكانت نعم الامة لسيدتها سارة التي لم ترزق بولد للنبي ابراهيم (عليه السلام) فوهبتها له عسى الله ان يمن عليه بالذرية فوهبه الله اسماعيل (عليه السلام) .
شاء الله ان يبتلي النبي ابراهيم (عليه السلام) مرة اخرى ويبتلي معه هاجر (عليها السلام) فأمره بالسير الى الارض المقدسة، فجاء جبريل (عليه السلام) رفيقا في الدرب الذي سيقطعه عبر الفيافي والقفار، وكان كلما وصل النبي ابراهيم (عليه السلام) الى بلدة يسال ان كان هذا المكان المقصود فيجيبه بالنفي، واستمر ركب المباركين في الارض يطوي الارض حتى وصل الى موضع اخبرهم جبريل فيه ان هذا هو المكان المقصود، انها مكة، كل الذي نعلمه ان النبي ابراهيم (عليه السلام) كان نبيا وكان ممن اصطفاهم الله تعالى فمثله لا يسعنا نحن البشر العاديين ان نشخص كيف تلقى مسالة نزول ركبه في هذا المكان القفر، ولكن الذي نجزم به ولا شك لنا فيه انه كان مسلما تسليما، واما هاجر (عليها السلام) فكأن الايام التي عاشتها معه قد سرى فيها التسليم المطلق الى قلبها من قلب النبي ابراهيم (عليه السلام) العامر بالتسليم لامر الله .
مكة واد قاحل ليس فيه منبع للماء تحيطه جبال صخرية جرداء، هواؤها حار لاهب في الصيف، اين هذا من قصور الشام او اعتدال الجو في بابل او كنعان، ولكن حيث اراد الله لم يسع شيخ الأنبياء الا التسليم لإرادته، لتبدا مرحلة اخرى من مراحل الابتلاء على هذه البقعة المقدسة من الارض.
لم يقف الامر عند هذه الحال، فلم تمض سوى ايام قلائل حتى اخبر النبي ابراهيم (عليه السلام) هاجر انه سيعود الى ارض كنعان ـ بلاد الشام ـ الى زوجه سارة، فسالته الى من يكل امرهم، وهي غريبة في هذه الارض القفر القاحلة، التي لا يظهر على مد البصر في جميع اطرافها اي معنى من معان الحياة فلا زرع ولا عشب ولا رعاة ولا اي شيء اخر يوحي بان هناك قابلية لإدامة الحياة في هذه المنطقة، فاخبرها انه اوكل امرهم الى الله تعالى وان حط رحالهم هنا بأمر منه وان الله هو الذي امره بالعودة الى الشام، فسلمت امرها الى الله تعالى ورضيت بقضائه.
|