• الموقع : كتابات في الميزان .
        • القسم الرئيسي : المقالات .
              • القسم الفرعي : المقالات .
                    • الموضوع : تطور النزعة الانسانية في التشريع الاسلامي بحث في فلسفة التشريع .
                          • الكاتب : ا . د . وليد سعيد البياتي .

تطور النزعة الانسانية في التشريع الاسلامي بحث في فلسفة التشريع

  شكلت الاتجاهاتُ الانسانية في النظام التشريعي الإلهي نوعا من التحدي الاجتماعي لقيم قبلية اعتبرت الانسان عبدا لحاجيات المجتمع، بل ان الموقف الاجتماعي السلبي من المفاهيم الانسانية التي طرحتها الرسالات السماوية قد اخرجت الانسان من وضعه كعنصر فاعل في حركة التاريخ، ليصبح مجرد كيان متلقي للتأثيرات الخارجية، وبالتالي فأن المجتمعات التي تبنت هذه الرؤية السلبية قد شاركت في ضياع أو تباطؤ حركة المشروع الحضاري الذي نادت به الرسالات السماوية والتي تجلت في الرسالة الخاتم.

من جانب آخر فان الرؤية المعرفية التي طرحتها الشريعة الإسلامية في تعاملها مع الانسان استطاعت تحرير الفكر الانساني من النزعات العقلية المجردة (المذهب العقلي)، او التجريبية (النزعة التجريبية) والتي تخضع لعوامل (الصح والخطأ)، وايضا من النظرية الثنائية (ثنائية العلاقة بين الذات والموضوع أو بين مفهومي العقل والتجربة كمصادر للمعرفة التشريعية). من هنا فان الموقف الاسلامي من المعرفة التشريعية وتطورها يمثل اتجاها شموليا منفتحا على الغيب ومتعلقا بالله (المثل العليا).

المذهب الاجتماعي في نظرية التشريع:

     ينطلق المذهب الاجتماعي في النظرية التشريعية الاسلامية من مقومات إنسانية، تطرح مفهوم قيمة الانسان كوجود في الوجود الاكبر، وذلك نتيجة لمعايير ربطت العقل النسبي بالمصدر المطلق للتشريع، وبالتالي صار الانسان جزءا من المشروع الإلهي في تحقق غائية الوجود، فالمعرفة الانسانية بكيفية الوجود وبقيمة الانسان بهذا الوجود تكون قاصرة لدى الفرد ما لم يتعلم مفاهيم هذه القيم عبر مدركات محددة ترسم الشريعة ملامحها، وتحدد معاييرها، فالانسان لايمتلك لحظة خروجه للحياة من الرحم الاول (الام) إلى الرحم الثانية (الارض) أية فكرة عن قيم العالم المحيط به غير تلك الغريزة (الفطرة) التي فطر الله الناس عليها، أما التنامي المعرفي لدية فيتشكل عبر التراكم الزمني ولكنه ليس تناميا ذاتيا بشكل مطلق بقدر ما هو تنامي يتفاعل فيه الذاتي مع المتلقي خارجي، وهذا التلقي متأتي من النظام التشريعي لله عزوجل: " والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لاتعلمون شيئا وجعل لكم السمع والابصار والافئدة لعلكم تشكرون ". النحل/78.

من هنا فان المذهب الاجتماعي في النظرية التشريعية يصبح مذهبا معرفيا، وهو يتناسق مع حاجات الانسان في تحقيق غائيات المثل العليا عبر علاقاته الاجتماعية، ولما كانت علاقة الانسان بالخالق تتشكل باتجاهين (واعية وغير واعية)، فان العلاقات غير الواعية ستنتج مجتمعا سلبيا يعوق حركة التقدم، ويؤدي إلى احداث تراجع في النمو الحضاري، بينما العلاقات الواعية تكون نتاجا لمدركات حقيقية ترتبط بالمنهج الرسالي وهي تؤدي إلى تحقيق مجتمع يتبنى قيما ايجابية، ويكون عاملا في التنامي الايجابي لحركة التاريخ. 

إن الاتجاهات الاجتماعية في النظرية التشريعية تقوم على مفاهيم العلاقات التضامنية بين الافراد في تطوير البناء الاجتماعي مما يعكس تفاعلا واقعيا ينحو نحو تشكيل وعي جمعي بين الكيانات الاجتماعية. ولما كانت مناهج دراستنا لكل من فلسفة التاريخ وفلسفة التشريع تقوم على أسس ابستمولوجية، فان النظريات التشريعية والاجتماعية تتداخل في حالة من التفاعل البيني، فالأسس التشريعية تخدم البناء الاجتماعي، والمجتمعات تحافظ على اصالة الاصول التشريعية عبر التطبيق المنهجي والعقلاني.

تطور النزعة الانسانية:

لقد وضع الرسولُ الخاتم معيارا لقيمة الانسان مقابل الكم اللامتناهي من مفردات الوجود، فقال صلوات الله عليه وآله مخاطبا البيت الحرام: " مرحبا بالبيت ما أعظمك وأعظم حرمتك على الله، والله للمؤمن أعظم حرمة منك ". أنظر بحار الانوار/64/71.
فحرمة الانسان عند الله تعالى أعظم من حرمة البيت الحرام، وبالتالي فانه يضع للانسان قيمة وجودية تتعالى على قيم الوجودات الاخرى والتي يمثل البيت الحرام اشرفها، إن وضع الانسان في هذا المستوى لم يتأتَ من فراغ، فقد حرر الفكر الاسلامي الانسان من تبعات الماضي، وجعله يلقي نظرة فاحصة على المستقبل، فجاءت الشريعة لتحقق قيمة كونية باعتبار ان المجتمع الاسلامي مجتمع كوني لايخضع لمعايير الزمان والمكان، ولا يختص بأمة دون الامم، فالانسان صانع الحضارة، واحد اهم عناصر حركة التاريخ، وهو الذي جعله الله خليفة في ارضه: " إني جاعل في الارض خليفة ". البقرة/ 30.
من هنا  يصبح الانسان مفهوما مستقبليا في علاقاته الكونية، فالشريعة الاسلامية اتخذت موقفا ايجابيا من انسانية الانسان، وحددت نوعا من التقارب الموضوعي بين الانسان والخالق، فالجريمة مثلا شكلت على الدوام ارتدادا في الفعل الانساني، لكن الشريعة تعاملت معها من منطلقات علاقات الانسان بالخالق، وهي في ذات الوقت غير متناسية لقيمة الانسان ككيان وجودي، فجاء في الكتاب العزيز: " لئن بسطت إلي يدك لتقتلني ما أنا بباسط يدي إليك لأقتلك إني اخاف الله رب العالمين ". المائدة/28.

ذلك قريب من موقف عيسى عليه السلام: " ما لا تحب أن يفعل بك فلا تفعله بأحد وإن لطم خدك الايمن فاعطه الايسر ".أنظر الامالي للصدوق/366.

والتشريع الاسلامي في ايقاعاته على الانسان يمثل شكلا من اشكال التنامي وفق حاجات الانسان وتطور مراحله الحياتية، فالاحكام الشرعية التي ترافق تطور نمو الانسان منذ النطفة إلى التكامل عبر تشكلات الاطوار الجنينية، تختلف من حالة إلى أخرى وفق كل مرحلة عقلية يمر بها، ولهذا نراه يخضع للتكيف الالهي بعد التكامل الجسمي والنفسي، وما يطلق عليه مرحلة البلوغ، وبالتالي لا تشكل الشريعة نوعا من الاجحاف بحق الانسان، إذ : " لايكلف الله نفسا إلا وسعها ". البقرة/286. فالنظام التشريعي نظام تكاملي، يضع الانسان في موقعه الحقيقي في حركة التاريخ.  

لاشك أن مناهج التشريع الاسلامي تتبع شكلا بنيويا، يقوم على تفكيك الحدث ودراسته وتحليله لاعطاء حكم موضوعي، خارج الاستلاب التاريخي لانسانية الانسان، فالحكم التشريعي يتبنى قيما انسانية بل انه ينظر الى الموقف العام لعلاقة الانسان بالحياة عبر نظرة نسميها حاليا فلسفة الاحاطة بالتجربة (الغيشتالت)، فالحكم التشريعي ليس شكلا جامدا لايخضع لمنطق التكيف الاني بل انه يتبع حالات الانسان وقدراته على التكيف والتصرف، ففي احكام السفر هناك (تقصير الصلاة والاعفاء من الصوم)، والمجنون لايقع عليه الحكم، والصغير غير خاضع للتكليف حتى يبلغ، والبالغ المكلف يسقط عنه تكليف الحج اذا لم يكن مستطاعا، وكذلك الصيام يعوض بالصدقة، وغيرها مما لايتسع له مجال بحثنا الضيق، كما ان الاحكام تتفاعل مع حياة الانسان مما لا يوقع عليه ارباكا، أو يسبب له حرجا، بل ان الانسان نفسه ككيان غير مجبر على الدخول في الدين: " لا اكراه في الدين ". البقرة/256. لكنه إذا دخل الاسلام اصبح جزءا من الكيان التشريعي وتنطبق عليه الاحكام وفق حالاتها. بل إن هذا الداخل للاسلام يحتل اهتماما كبيرا من قبل الشارع لاعتبارات إنسانية واخلاقية نتيجة لموقفه بالتحول من عبادة الطاغوت لعبادة الله الواحد الاحد.

بعض الاتجاهات الاخلاقية في البناء التشريعي للانسان:

إن البناء التشريعي لمكانة الانسان في  المجتمع ينطلق من موقف عقلي وأخلاقي على السواء؛ فالشريعة في سعيها لتحقيق غائية الوجود لاتكف عن إنماء الوعي الفردي والجمعي في كل حال، فالانسان كيان مستقل، مسؤول عن اقواله وافعال: " كل امرء بما كسب رهين ". الطور/23.

من جانب آخر فان الشارع المقدس قد حدد ملامح العلاقات الانسانية على اسس اخلاقية واعتبارية تنطلق من قيمة الانسان كعنصر اساسي في الحياة، بل والوجود الكلي، وكأحد صانعي حركة التاريخ، وقد ضمن للانسان (الفرد) حق حماية عرضه وسمعته: " ولا تلمزوا انفسكم ولا تنابزوا بالالقاب ". الحجرات/11. بل حق حماية خصوصياته وذاتيته كمخلوق يتمتع بنوع من التفرد بين بقية الخلق، ونوع من الاختصاص بين بقية البشر: " ولا تجسسوا ولا يغتب بعضكم بعضا ". الحجرات/12.




  • المصدر : http://www.kitabat.info/subject.php?id=155934
  • تاريخ إضافة الموضوع : 2021 / 05 / 23
  • تاريخ الطباعة : 2024 / 04 / 18