• الموقع : كتابات في الميزان .
        • القسم الرئيسي : المقالات .
              • القسم الفرعي : المقالات .
                    • الموضوع : التسلط آفة إجتماعية مقيتة ـ الجزء الثاني .
                          • الكاتب : محمد جعفر الكيشوان الموسوي .

التسلط آفة إجتماعية مقيتة ـ الجزء الثاني

 نؤكد في كثير من المناسبات ونكرر التوكيد هنا على أن محاسبة النفس ومراقبتها هي بمثابة الوقاية والعلاج في آن واحد للتخلص من الأفكار السقيمة والعادات الذميمة والسلوك المنحرف المعوج، كما انها (محاسبة النفس) تعتبر المفتاح الذي يفتح مغاليق أبواب الرقيّ والإزدهار. الرقيّ الحقيقي هو القرب من الحق سبحانه وتعالى ونيل رضاه وتجنب سخطه والعمل بما أمر به وترك ما نهى عنه. والإزدهار الحقيقي هو ان نظهر بمظهر"وَعِبَادُ الرَّحْمَٰنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا". أجل سيدي الكريم.. يمشون هوناً  وتواضعا ولا يمشون تكبرا وتجبرا وغرورا. وأن نكون على بينة من امرنا ونعتني بالنفس وندربها بالتمارين الروحية  ـ كما ندرب عضلات الجسم بتمارين القوة واللياقة البدنية ـ، ونحملها على التقوى ومخافة الله ومن ثم الإجتهاد في طلب العلم والتزين بالأدب وحسن المعاشرة ومدارة الناس. أليس هذا هو الإزدهار والتقدم بأوسع معانيه وأجمل صوره؟! أم أن الإزدهار هو ربطة عنق وعطر فرنسي  وحذاء إيطالي وإذا أردنا أن نصبغه بصباغ الدين  نضيف إليه  بعض التوابل  والمنكهات مثل مسبحة يُسر مرصعة بالفضة وخاتم عقيق يماني في بنصر اليد اليمنى ونقلبه عند القنوت إستحبابا وكفى!!!

كيف لمتسلط متكبر متجبر طاغٍ أن يكون راقيا ومشرقا ويُرتجى منه الخير والمعروف!

 لا بأس بالتوقف قليلا عند هذه الملاحظة سيدي الكريم فليس بعيدا عن جوهر الموضوع وصلبه، لا زلنا نتكلم أو نكتب عن الأفكار المريضة والمظاهر الزائفة.. ونتساءل : أليس بين ظهرانينا مَن أساء إلى التدين بإسم التدين؟! ومَن كان سببا في نفور الشباب من مجالس الوعظ والإرشاد لغلظةٍ فيه وعبوس أو لزيف تدينه وغروره وتكبره!! كنت حاضرا في إحدى مجالس عزاء سيد الشهداء أيام عاشوراء فدخل الخطيب بعد إنتهاء قراءة القرآن وزيارة المولى أبي عبد الله صلوات الله عليه، وكان المجلس مزدحما بالحضور لكن الخطيب المحترم لم يجلس في المكان المناسب له وهو ( الجلوس حيث إنتهى به المجلس) وإنما تقدم إلى صدر المجلس مزاحما الجالسين وبقي لحظات واقفا أمامهم، يعني بذلك أن تنحو عني وأجلسوني مكانكم فأنا الخطيب  والمتحدث وأنا ربّان هذه السفينة فبغيري سوف لا تبحر وتغرقون في بحر الجهل. هذا مثال آخر للتسلط يجب التوقف عنده وبحثه بجديّة وإنصاف من أجل الرقي الذي عنيناه آنفا. فترك الأمر كما هو عليه يزيدنا تخلفا وتراجعا. أليس التخلف هو عدم المسارعة إلى مغفرة الله وجنّة عرضها السماوات والأرض "؟! أوليس التسلط هو التخلف بعينه! أليس التراجع إلى الوراء هو سوء الحال و في مقدمته عدم الإلتزام بالمنهج الرباني القويم !!

عدم انتشار الفضائل وإهمال الدعوة إلى التسلح بالوعي والإيمان يسرّع من عملية التراجع القهقري  والتخلف والإحباط والغوص في بحر الجهل والضياع، ومن ثم لا يسعنا إلاّ أن نحتفل  بتخرج دفعة تلو الأخرى من المتسلطين الذين سوف يتولون أمور العباد فيكثروا في الأرض الفساد ويشيع الظلم ويطغى القهر وتتفشى أنواع الفيروسات الفكرية ويتنافس المنظرون للفكر المسموم على الفوز بألقاب الشهرة والنجومية، والضحية هم أولئك البسطاء الذين يغرهم المظهر ويجذبهم المنطق فتكون النتيجة هي الإنقياد الأعمى لذلك المتسلط وإطاعة أوامره وتنفيذها مع الإمتنان. لقد وصلت الوقاحة والغرور بفرعون إلى درجة أنه  قال للسحرة موبخاً إيّاهم :"قَالَ فِرْعَوْنُ آمَنتُم بِهِ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ"! لقد تمكن فرعون الطاغية من إستعباد من حوله فلا رأي لهم سوى السمع والطاعة وإلاّ فالعصا لمن عصى. لقد إرتضوا أن يكونوا بهذه المنزلة المَهينة والذل والهوان فزادهم الله ذلاً وهواناً فأصبحوا هم وفرعونهم من المغرقين والنجاة لموسى ومَن آمن به وإتبعه. لقد تكلمنا عن البيئة الحاضنة للمتسلط وكيف أنها هي موطن الخطر الأكبر في تفقيس مجاميع المتسلطين وضخهم بين الناس زمراً زمرا، ومع الوقت يتلون المجتمع بهذا اللون الأسود القاتم، ويتخلق بهذا الخلق الذميم ما لا يعده العادون ولا تحصيه الأرقام ووو... لا نبالغ إطلاقا إن قلنا أن في مجتمعنا اليوم مصانع يديرها مهندسون مختصون لتصنيع الشخصيات المتسلطة التي تشيع ثقافة التفرعن والتسلط. لو تأملنا مليا لوجدنا أن مجتمعنا قد إزدحم بأعداد المتسلطين الذين يزداد خطرهم يوما بعد آخر. أخطر الأمراض الفتاكهة هي الأمراض الفكرية التي تلوث المجتمع وتترك آثار دمارها بأشد من آثار الأسلحة الجرثومية المحرمة. السلاح الجرثومي والبايولوجي والإنشطاري كلها أسحلة محرّمة دوليا ووفق القانون الدولي، لكن سلاح محاربة الفضائل والفكر الرصين فهو مباح لا يحظره سوى الوعي ثم الوعي. بالوعي والتسلح بالعلم وإتباع تعاليم السماء ننجوا من شر هذا التلوث والسم القاتل.

المجالس في عاشوراء..

مقبلون على شهر محرم الحرام حيث تقام عندنا المجالس الحسينية المباركة التي هي مدارس لنشر الفكر والوعي والدعوة إلى إتباع نهج الله القويم والهداية لصراطه المستقيم. هل مجالسنا فعلاً لا زالت مدارس؟! سؤال لا نريد الإجابة عليه.

 لقد نفر جلّ الشباب من تلك المجالس وآثر الجلوس في الشوارع والطرقات على شكل مجاميع يتبادلون النكات والطرائف وبعدها يدخلون المجلس لتناول (التمن والقيمة). الخطيب المحترم يمر بهؤلاء كل ليلة وصاحب تلك المؤسسة والحاج والشيخ والسيد والمسؤول وانا وأنت سيدي الكريم نمر بهم كل ليلة ونسمع أحاديثهم وربما إبتسمنا لهم مجاملة (في غير محلها)، ولكننا لا نهتم لأمرهم ولا نفكر في وضعهم ومستقبلهم الذي هو مستقبلنا جميعا. عدم الشعور بالمسؤولية ناتج  وبلا ادنى ريب من عدم محاسبة النفس. لأن المحاسبة تكون عن سوء فعلته (أنا) أوعن خير لم افعله (انا). هنا تحلو الأنا حينما نضعها موضعا يليق بها وهو المحاسبة، لا تلك الأنا الفرعونية المقيتة.

نعم.. إهمال النفس وعدم محاسبتها يزيد من اعداد المتسلطين في المجتمع فتزداد المعاناة والشكوى ويزيد التذمر وندب الحظ. لقد إتبعنا وللأسف الشديد مبدأ عدم المواجهة وهذا أيضا من نتائج عدم مواجهة النفس. الشجاع الذي يواجه نفسه كل ليلة، كما أشرنا في قصة ذلك العالم الجليل، فإنه سوف يواجه كل فكر منحرف وسلوك معوج بنفس تلك الشجاعة ولا تأخذه في الله وفي قول كلمة الحق لومة لائم قط. ألم يصادفك  أيها المحترم الفاضل مَن يذكر سلبيات البعض ويسردها بكل دقة وتفصيل، ولكن ما إن يمر به ذلك الذي عرّاه وفضحه تراه يقوم له إجلالا وتعظيما قائلا له : تفضل أستاذ، كيف حالكم أستاذ، بارك الله فيكم أستاذ!!

هذه ملاحظات مهمة علينا تناولها بالتفصيل في مجالسنا ومحاضراتنا بدل التحدث عن السياسية الخائبة التي لا تصلح حتى للحديث عنها. أي سياسة تلك التي يتحدثون عنها، إنها شكاوى وتذمر وسب وشتم ولعنات من سبق على من مضى، ودعوات من يكون على من سيكون. سياسة لا نفهم طلاسمها ولا قوانينها، فوضى عارمة بكل المقياييس. إذن لنتحدث في محاضراتنا ومجالسنا بما ينفع الناس وبما يصلح أمر الشباب. ألا يهمكم أمر الشباب وهو يتلون كل يوم بلون ولا يدري كيف الخلاص وما هو المُراد وكيف النجاة وأين يكمن الطوق واي يد ستأخذه إلى بر الأمان!!

استمع أحينا للبعض المحترم وهو يرتقي المنبر ولا يقدم للأمة شيئا ذي بال. قلت لمجموعة من الشباب : لماذا لا تتفضلون إلى داخل المجلس أيها الاحبة؟ قالوا : سئمنا المحاضرات الروتينية والسوالف على المنبر، هذا حبسوه وذلك طلعوه بكفاله، هذا سرق وذلك (گلب بالدخل)، هذا فاهم وذاك فهيم، هذا عالم وذاك أعلم. المنبر أيها السادة لنشر الوعي والإيمان ومحاربة الرذيلة وتقويم الأفكار السقيمة وليس مكانا مناسبا للبت في شهادات العلماء او السياسيين او الأكاديميين. هناك رواقات العلم ومراكز البحث والدراسات وذلك شغلهم وعملهم وإختصاصهم. المنبرليس مكانا لمناقشة الاطروحات والدراسات وإعطائها درجة الأمتياز أو السوبر جيد او لمدح بفلان وقدح فلان. أستمعُ لبعض الخطباء من أمم أخرى أجيد لغتهم فأرى فارقا كبيرا جليا واضحا، فحتى في الجامعات هناك عندهم علماء خطباء مختصون يخاطبون الطالب الجامعي وفي قاعات الجامعات بلغته ومستواه العلمي ومع ذلك فأن مادة المحاضرة هي الدعوة إلى اتباع المنهج الرباني القويم وحسب. إتباع المنهج الرباني القويم هو مادة شاملة لكل جوانب وأركان الحياة. كل خُلق وتصرف وسلوك نعرضه على المنهج  الرباني ودستوره وناموسه فأن طابقه ووافقه أخذنا به وإتنبعناه وعملنا به، وإن عارضه ولم يوافقه نبذناه واجتنبناه وضربناه عرض الحائط. لذلك قلت أن الأزدهار والرقي هو القرب من الله. القريب من الله قريب من كل شيء والبعيد عنه تعالى بعيد عن كل شيء.

 




  • المصدر : http://www.kitabat.info/subject.php?id=158989
  • تاريخ إضافة الموضوع : 2021 / 08 / 06
  • تاريخ الطباعة : 2024 / 04 / 19