• الموقع : كتابات في الميزان .
        • القسم الرئيسي : المقالات .
              • القسم الفرعي : شبهات وردود .
                    • الموضوع : عاشوراء الحسين عاشوراء الشيعة .

عاشوراء الحسين عاشوراء الشيعة

 لقد جاء هذا البحث رداً على مقال مترجم إلى العربية، نشرته مجلة نصوص معاصرة في عددها التاسع، تحت عنوان (عاشوراء الحسين وعاشوراء الشيعة تعدد الأهداف والوسائل) حاول الكاتب فيه أن يظهر بأن عاشوراء الإمام الحسين تختلف أهدافه عن أهداف عاشوراء الشيعة، كما وتختلف وسائلهم عن وسائله، وقد حاول الباحث لؤي المنصوري تسليط الضوء على هذا المقال، مبدياً مواضع الخلل والخلط الواقعة فيه، من خلال عرض الأدلة الروائية والتاريخية.

((عاشوراء الحسين وعاشوراء الشيعة تعدد الأهداف والوسائل)) عنوان أبعد من الغرابة بمسافات، وأصخب من الصخب بأطوار وأكوان، فمتى أصبح التشيع والشيعة شيئاً والحسين عليه السلام  شيئاً آخر؟! ومتى افترق بينهما الطريق وابتعد؟! ومتى سار الشيعة باتجاه ومنحًى غير المسيرة الحسينية والصرخة الزينبية، والإباء المنحدر من أبي الفضل العباس عليه السلام ؟!

أم متى قالت الشيعة شيئاً غير ما قاله علي الأكبر عليه السلام  حينما ردّ في جواب أبيه ـ الذي رأى فيما يراه النائم الركب يسير والمنايا تسير معهم ـ فقال الأكبر: ((ألسنا على الحق؟ فقال الحسين عليه السلام : بلى ـ يا بني ـ والذي إليه مرجع العباد! فقال الأكبر: يا أبه، إذن لا نبالي بالموت))[1].

نعم، لا نبالي بالموت وقع علينا أم وقعنا عليه، ما دام مسيرنا حسينياً، وصرختنا زينبيةً، ونهضتنا ـ وليست ثورتنا ـ علويةً فاطميةً.

والشيعة في زمن الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وإلى اليوم كلهم حسينيون بكّاؤون، تعلّموا البكاء من النبي الخاتم، الذي أقام أول عزاء وبكاء ـ في شريعة الإسلام ـ على الحسين عليه السلام ؛ إذ ورد بروايات متواترة عند الشيعة والسنة على السواء، أنّه صلى الله عليه وآله بكاه في مرضعه، وصغره، وطفولته، وجاءه جبرئيل بتربة حمراء من تراب كربلاء، وأعطى التراب إلى أم مسلمة رضوان الله تعالى عليها، وأعلمها أنّها متى ما صارت حمراء؛ فاعلمي أن الحسين عليه السلام  قد قُتل![2].

كأن الكاتب لم يقرأ ما دوّنه المؤرّخون، من أنّ التشيع ظهر بعد استشهاد الحسين عليه السلام [3]، ولسنا بصدد مناقشة صحة هذه الدعوى، إلاَّ أنها تعكس على كل حال ما لتأثير هذه النهضة العظيمة على تاريخ التشيع وازدهاره، وظهوره وانتشاره.

إنّ واقعة الطف صبغت التشيع والشيعة بصبغة ولون جديد، ألفَتَ أنظار المؤرّخين والمترجمين، وأنّ كياناً شيعياً مميزاً ظهر بثوب جديد بعد تلكم المذبحة الأليمة، هذا كلّه ظهر على الشيعة والمجتمع التابع للحسين عليه السلام ، فكيف يُدّعى بعد هذا أنّ عاشوراء الحسين غير عاشوراء الشيعة؟!

كما أن كربلاء الحسين عليه السلام  والشهادة أحياها الشيعة ببكائهم ونوحهم على الحسين عليه السلام ، والتشيع انتشر بهذه النهضة العظيمة والمأساة الأليمة، ألا وهي مذبحة أبناء النبي صلى الله عليه وآله في كربلاء، وهذه الأمانة الثقيلة تحمّلها الشيعة في الماضي والحاضر، وأوّل مَن حملها وأحياها الإمام زين العابدين عليه السلام  وزينب عليها السلام  وبنات الرسالة في الكوفة وفي الشام، حينما أقاموا العزاء والبكاء على شهداء كربلاء، وأبدلوا أفراح الأمويين مأتماً ببكائهم وندبهم ((حتّى ضج الناس بالبكاء والنحيب، وخشي يزيد أن تكون فتنة، فأمر المؤذن فقطع عليه الكلام))[4]، فذات البكاء على الحسين عليه السلام  يؤرّق يزيد ومَن هو على شاكلته ونهجه.

والسيدة زينب عليها السلام  بعد رجوعها من الشام إلى المدينة أخذت تقيم مآتم الحزن والبكاء على أخيها أبي عبد الله وشهداء كربلاء، وتُذكّر الناس بما وقع عليهم من قتل، وسبي، وهتك لحرمة النبي صلى الله عليه وآله، وعلى فرض إرادتها إقامة نهضة أو تأجيج غيرة أو حمية، إلاَّ أنها مع ذلك كانت تندب الشهداء وتنعاهم؛ الأمر الذي أدّى إلى انزعاج الوالي ومكاتبة يزيد بذلك، حتّى أُخرجت من المدينة المنورة.

وأما الإمام زين العابدين عليه السلام ، فقد بقي ثلاثين سنة يندب أباه وشهداء كربلاء، مع أنّه شارك مع عمته زينب عليها السلام  في النهضة وأدّى ما عليه، فالمفروض به ـ على ضوء كلام الكاتب ـ عدم البكاء، بل والنهي عنه، فعَلامَ البكاء والمآتم والحزن؟! بل وعلام: ((علي بن الحسين عليهما السلام  بكى على أبيه مدّة حياته، وما وضع بين يديه طعام إلاَّ بكى، ولا أوتي بشراب إلاَّ بكى، حتّى قال له بعض مواليه: جعلت فداك يا بن رسول الله، إني أخاف أن تكون من الهالكين، قال عليه السلام : إنّما أشكو بثّي وحزني إلى الله وأعلم من الله ما لا تعلمون، إني لم أذكر مصرع بني فاطمة إلاَّ خنقتني لذلك العبرة))؟! [5].

وسنتعرض إلى ذلك فيما يأتي من الكلام، إلاَّ أنّ الذي أردناه وعرضنا إليه هنا، هو أن الشيعة هم الذين أحيوا كربلاء بالبكاء والنحيب والعويل، وأبقوا جذوتها مشتعلة إلى زمننا هذا، ولم تبقَ في فراغ أو خلاء، لكي يأتي من يُميّز بين عاشوراء الحسين وعاشوراء الشيعة.

ولا أدري! كيف سمح صاحب المجلة ـ قبل الكاتب ـ عنونة المقال بهذه السفاسف والأراجيف، التي لا يُراد منها إلاَّ المغالطة والمخالطة والإيهام لا أكثر؟!

إلاَّ أن كل هذا توطئة منهم لطرح موضوع السياسة والبكاء والمقابلة بينهما في ملحمة الحسين المقدّسة، وكأن القارئ يلحظ تنافساً شديداً، وحرباً شعواء، وجيوشاً محتشدة، وخنادق حاضرة، بين حسين السياسة وحسين البكاء، وتصارعاً بين ما رامته الملحمة المقدّسة من تكديس وتلبيس وإعطاء أطروحة سياسية نرددها في الأندية ونلوكها في الأفواه، ونتداولها في الأمسيات، وبين ما قام به الشيعة، حيث عكسوا الأمر وأضاعوا الجانب، فولولوا وصوتوا، وصاحوا وناحوا، وندبوا وحزنوا وعبسوا، فقلبوا الضحكة السياسية مناحةً وتعزيةً، والأمسيات المسلّية أحزاناً عاتية وليالي مظلمة،  فضاع الحسين عليه السلام  وضاعت نهضته في هذه المآتم والنياحة والبكاء واللطم؛ حتّى أدى بأصحاب الغيرة وأهل الحمية أن يثوروا كما ثار الحسين على يزيد، لكن ليس كتلك النهضة والثورة، بل نهضة للنهضة وقيام للقيام؛ لإرجاع الحسين إلى الشيعة بعد أن ضيّعوه، وإعادته إلى وجدانهم بعد أن فقدوه؛ لأن الأمويين قتلوه والشيعة ضيّعوه، وما بين الأمويين والشيعة يستنهض الكاتب مَن ينهض، كي يُحيي الحسين من القتلة الجديدة والذبحة الحصيبة على يد الشيعة، فيا لله وللنهضة! ويا لله وللحسين! ويا لله وللكاتب ومن على شاكلته! الغوث الغوث!

ما هذه الترهات والأحابيل؟! ما هذه النزعات والنزغات؟! إن المرء ليعجب حينما يسمع مثل هذا الكلام يُردّد ولا يُرد! ويُدوّن ولا يُمحى أو يُطيّن!

استشهاد الحسين عليه السلام  مأساة من مآسي الأمة الإسلامية، أو كما يقول ابن حزم: إحدى العظائم في الإسلام، وهو في نفس الوقت مفخرة ومنار للشيعة؛ إذ لم يحفل بذكرى قتله غيرهم، ولم يتفجّع أو يتوجّع أحد سواهم، بالأمس قُتل الحسين عليه السلام  على أيدي الأمويين، وجاء الخلف من بعدهم ليغطّوا هذه الفاجعة بكلمات مرموقة وأنغام مبهرجة، لا تعرف للإنسان قيمة ولا للزمان حركة، فعموا وصموا ثم لاذوا بغطاء لا يستر من برد ولا يمنع من حر، وبقيت الشيعة وحدها تعالج وتداوي الجراحات التي ألمَّت بالحسين عليه السلام  وأهل بيته، فقُتلوا وشُردوا، وسُجنوا وعُذّبوا، وقاسوا الحر والبرد، والفقر والفاقة، والجوع والعطش، ويُتْمَ الوحدة والعزلة.. بسبب انتمائهم للحسين عليه السلام ، واستحضارهم آلام عاشوراء؛ حيث إن آلامها ومآسيها تخيف غيرهم، فيهجر النوم أعينهم، ويفقدهم لذاتهم.. بينما عاش غير الشيعة في أروقة البلاط، تحفهم الولدان والنسوان، والموائد الخضراء، والدعة والراحة؛ لأنّهم ابتعدوا عن المبادئ، بل عرضوها قبال دراهم رخاص تدفع من قِبَل أرباب البلاط، فكيف بعد هذا يُجعل عاشوراء الشيعة قبال عاشوراء الحسين؟!

نعم، قد يفرض إحياء لعاشوراء يوافق عاشوراء الحسين عليه السلام  ويمثّلها، يُقام في كوكب آخر أو مجرّة قريبة منّا، أو لعلّ طوائف من الجنّ هي المقيمة لعاشوراء الحسين، فِلمَ لم يقتدِ الشيعة بهم ويتعلّموا إقامتها منهم، لأنّهم المثال المحتذى والمقتدى؟!

تاريخ البكاء على الحسين عليه السلام

البكاء على سيد الشهداء لم يكن جديداً أو حادثاً بعد استشهاده في أرض كربلاء، وإنّما بكاه جدّه المصطفى صلى الله عليه وآله، وأقام مأتماً عليه في يوم مولده، ومأتماً آخر في بيت أم سلمة، ومأتماً في بيت عائشة، ناعياً بذلك ابنه قبل استشهاده بعشرات السنين، وتتنزّل ملائكة من السماء لم تنزل الأرض قط؛ لتُقدِّم العزاء للمصطفى صلى الله عليه وآله بولده وريحانته، ثُمّ وفي يوم استشهاد الحسين يرى جملة من الصحابة في المنام أن رسول الله تريب الرأس واللحية، وهو يندب الحسين ويلتقط دمه.

فالمأتم والبكاء والنُدبة والنحيب مأثور ومحبوب ومطلوب، قد حثّ عليه النبي صلى الله عليه وآله وأئمة أهل البيت عليهم السلام ، وهم مَن أقاموه قبل الشيعة، وسنّوه ورغّبوا فيه؛ لأنّ الحسين عليه السلام  هو ثار الله وابن ثأره، وهو قتيل الله، انتهكت بقتله حرمة الإسلام، لا يوم كيومه، ولا مصيبة كمصيبته[6]، فندبةُ ذبيح الله وثاره والبكاء عليه من أعظم القربات إلى الله تعالى، محبوب عند الله وملائكته وأنبيائه وعباده الصالحين.

ثم حاول الكاتب استخدام مغالطة سمجة، حينما ذكر أنّ أحاديث البكاء ـ والتي أقرّ بأنّها كثيرة ـ لها سبب وداع أدّى إلى صدورها من المعصومين عليهم السلام ، وهو معارضة فعل الأمويين؛ حيث إنهم اتخذوا من يوم عاشوراء يوم عيد وفرح وسرور، ونُضيف للكاتب أيضاً أنّهم جعلوه من الأيام العظيمة، كما أخرج البخاري ومسلم جملة من الروايات الأموية حول ذلك؛ فلذلك جاءت أخبار الحثّ على البكاء لمعارضة ذلك الأمر، والتأكيد على أنّ ذلك اليوم يوم حزن ومصيبة وبكاء، وليس يوم فرح وسرور.

وعليه؛ بما أنّ عهد الأمويين قد انتهى، ولم يبقَ من الفرح والسرور أثر، فينتفي غرض الأخبار والهدف الذي جاءت من أجله، بعدما حققت مقصودها كما هو المفروض[7]، فبكاء الشيعة الآن يشبه الخروج عن النصّ، أو اللعب بعد انتهاء المباراة.

وإن أحسنا الظن بكاتب هذا الكلام، فلا نحمله إلاَّ على الجهل وعدم الاطلاع على الأخبار، ولعلّه قرأ في ذلك خبراً أو خبرين، وإلاّ فمَن ينظر في مجموع الأخبار ويطّلع عليها، لا يمكنه التفوّه بهذا الكلام وتسويد صفحات المقال به؛ إذ إنها تدلّ وبوضوح على أن البكاء على الحسين عليه السلام  ليس مظهراً وقتياً قبال فرح وسرور الأمويين؛ لأن النبي صلى الله عليه وآله نعى وبكى ابنه الحسين وهو في المهد صبياً، وأقام له عدّة مآتم، وقد نقل العامّة والخاصّة على السواء الأخبار المتواترة في ذلك، ففي حديث أسماء بنت عميس، قالت لعلي بن الحسين عليه السلام : ((قبّلت جدتك فاطمة بالحسن والحسين، فلما ولد الحسين .. فجاءني النبي فقال: يا أسماء، هاتي ابني. فدفعته إليه في خرقة بيضاء، فأذّن في أذنه اليمنى، وأقام في اليسرى، ثم وضعه في حجره وبكى، قالت أسماء: فقلت: فداك أبي وأمي، ممَّ بكاؤك؟ قال: على ابني هذا. قلت: إنه وُلِد الساعة؟! قال: يا أسماء، تقتله الفئة الباغية، لا أنالهم الله شفاعتي))[8] وأخرج الحاكم في المستدرك بسنده عن أم الفضل بنت الحارث، أنها قالت في مولد الحسين عليه السلام : ((فدخلت يوماً إلى رسول الله، فوضعه في حجره. ثم حانت مني التفاتة، فإذا عينا رسول الله تهريقان من الدموع. قالت: فقلت: يا نبي الله، بأبي أنت وأمي ما بك؟ قال: أتاني جبرائيل فأخبرني أن أمتي ستقتل ابني هذا))[9].

وذكر ابن أعثم في فتوحه، عن المسور بن مخرمة قوله: ((ولقد أتى النبي ملك من ملائكة الصفيح الأعلى، لم ينزل إلى الأرض مُذ خُلقت الدنيا؛ وإنما استأذن ذلك الملك ربّه ونزل شوقاً منه إلى النبي، فلما نزل إلى الأرض أوحى الله عزّ وجلّ إليه: أيها الملك، أخبر محمداً بأن رجلاً من أمتي اسمه يزيد، يقتل فرخه الطاهر ابن الطاهرة البتول نظيرة البتول ابنة عمران. فنزل وقد نشر أجنحته حتى وقف بين يديه، فقال: السلام عليك يا حبيب الله، اعلم أن رجلاً من أمتك يُقال له: يزيد ـ زاده الله عذاباً ـ يقتل فرخك الطاهر ابن الطاهرة... قال: فلما أتت على الحسين من مولده سنتان كاملتان، خرج النبي صلى الله عليه وآله في سفر له، فلما كان في بعض الطريق وقف فاسترجع ودمعت عيناه، فسئل عن ذلك، فقال: هذا جبرئيل يخبرني عن أرض بشاطئ الفرات يقال لها: كربلاء، يُقتل بها ولدي الحسين بن فاطمة. فقيل: مَن يقتله يا رسول الله؟ فقال: رجل يقال له: يزيد... ثم رجع النبي صلى الله عليه وآله من سفره ذلك مغموماً، ثم صعد المنبر، فخطب ووعظ والحسين بين يديه مع الحسن، فلما فرغ من خطبته وضع يده اليمنى على رأس الحسن واليسرى على رأس الحسين، ثم رفع رأسه إلى السماء، فقال: اللهم، محمّد عبدك ونبيك، وهذان أطايب عترتي وخيار ذريتي وأرومتي، ومَن أُخلّفهم في أمتي... وضجّ الناس في المسجد بالبكاء..))[10].

وفي مأتم آخر، النبي صلى الله عليه وآله ينشج نشيجاً عالياً وفي حجره الحسين عليه السلام  بعد أن أخبره جبرئيل بمقتله بشط الفرات[11].

ويُقيم مأتماً في محفل الصحابة في المسجد، وتغرورق عيناه بالدموع، وينعى النبي صلى الله عليه وآله ابنه الحسين ويبكيه في داره، وحينما يسأله الإمام علي عليه السلام  عن ذلك ويقول: ((ما شأن عينيك تفيضان؟ قال: بل قام من عندي جبرئيل عليه السلام  قبل، وحدثني أن الحسين يقتل بشط الفرات. قال: فقال لي: هل لك أن أُشمَّك من تربته؟ قال: قلت: نعم. فمد يده فقبض قبضة من تراب فأعطانيها، فلم أملك عينيَّ أن فاضتا))[12].

وهناك مآتم كثيرة ذكرت في المصادر الحديثية، أقامها النبي صلى الله عليه وآله على ابنه الحسين عليه السلام  قبل وجود الدولة الأموية ـ التي قاتلت الحسين  عليه السلام  ـ بنصف قرن أو يزيد، فلا يمكن أن يدّعي مُدّع بأنّ البكاء والنوح واللطم على الحسين ردّة فعل شيعية؛ لأنّ الأمويين اتخذوا عاشوراء يوم فرح وسرور، كما يذكر صاحب المقال بقوله: ((كان الأمويون يعدّون يوم عاشوراء عيداً لهم، فيحتفل الناس به بالثوب الجديد.. وفي المقابل جاءت ردّة فعل أتباع التشيع على هذه الظاهرة المناهضة لمذهبهم وحسينهم، فدعوا الناس إلى بثّ الحزن والأسى في يوم عاشوراء والبكاء والإبكاء))[13].

وهذا كلام جزاف، لم يلتفت قائله إلى المآتم التي أقامها النبي صلى الله عليه وآله على ابنه الحسين قبل وجود الأمويين، وقبل النهضة الحسينية.

ثم إنه قد أقام أيضاً علي بن أبي طالب عليه السلام  مأتماً على ابنه الحسين بعد رجوعه من صفين، وهو يلتقط من تربة كربلاء شيئاً نادباً صائحاً لفرخ آل محمّد صلى الله عليه وآله، ومعولاً عليه، بعد إخباره بأنّ خليفة الأمويين سيذبح ابنه في هذه الأرض[14].

وندب الحسن عليه السلام  أخاه الحسين وهو يتجرّع غصص الموت وحسرات الألم، بعدما أخذ السم في جسده الشريف مأخذه، فيذهل عن ألمه وما حلّ به، ويلتفت إلى ألم الحسين عليه السلام  وجراحات كربلاء، فيبكي لا لنفسه، بل لأخيه[15].

وفي حركة كربلاء يقيم الحسين عليه السلام  مأتماً لابن عمّه مسلم بن عقيل سفيره الأوّل إلى الكوفة حينما بلغه مقتله، ويُقيم مأتماً لعبد الله بن يقطر وقيس بن مسهر الصيداوي سفيريه الآخرين إلى أهل الكوفة، وهو سائر نحو الجهاد والقتال ومنابذة الحكم الفاسد الذي استولى على الأمة[16].

وتُقيم السيدة زينب أيضاً مأتماً على أخيها الحسين عليه السلام  في يوم العاشر من محرّم على جسده الطاهر، وبمرأى ومسمع من الجيش الأموي، وتُقيمه ليلة الحادي عشر من محرم، ثُمّ تنتقل بالمأتم إلى الكوفة أمام عبيد الله بن زياد.

وكذلك يُقيم الإمام السجاد عليه السلام  المأتم في الكوفة، ومن ثم في دمشق عند نغل ابن ميسون وفرعون بني أمية، وقبل ذلك في السكك والطرقات التي مرّ بها الركب الحسيني، إذ الرؤوس والنساء والأيتام هي مأتم ومآتم، تسير بسيرها وتتحرّك معها.

ثم نلاحظ بعد ذلك كله تأكيد الأئمة عليهم السلام  على المأتم الحسيني وضرورة إقامته، بل يقيمونه بأنفسهم وفي بيوتهم، ويؤكّدون على ضرورة اجتماع الشيعة وذكر الحسين عليه السلام  والنوح والبكاء عليه، واصفين ذلكم الاجتماع: بأنّه مما يحبه الله سبحانه وتعالى، وأن الملائكة تحضره وتشهده، وأن السماء حاضرة فيه بكيانها وكبريائها العلوي. وتستمر السيرة والمسيرة على هذا المنوال، إلى جنب الأخبار والأحاديث الكثيرة الحاثة على البكاء وشقّ الجيوب والجزع لمصاب أبي عبد الله عليه السلام ، حتّى ورد بأنّ الجزع حرام ما عدا الجزع على الحسين عليه السلام [17].

ويذكر ابن قولويه في كامل الزيارات جملة من الأخبار الواردة عن الإمام الصادق عليه السلام ، وإقامته لمأتم العزاء على جدّه الحسين عليه السلام ، وثواب البكاء في ذلك[18].

وفي علل الشرائع يذكر الإمام الصادق عليه السلام  السبب الذي جعل يوم عاشوراء يوم حزن وبكاء دون غيره، يقول عبد الله بن الفضل الهاشمي: ((قلت لأبي عبد الله عليه السلام : يا بن رسول الله، كيف أصبح يوم عاشوراء يوم مصيبة وغمّ وجزع وبكاء، دون اليوم الذي قبض فيه رسول الله صلى الله عليه وآله، واليوم الذي ماتت فيه فاطمة، واليوم الذي قتل فيه أمير المؤمنين، واليوم الذي قتل فيه الحسن عليه السلام  بالسم؟

قال: إنّ يوم قتل الحسين عليه السلام  أعظم مصيبة من جميع سائر الأيام، وذلك أن أصحاب الكساء الذين كانوا أكرم خلق الله كانوا خمسة.. فلما قتل الحسين لم يكن بقي من أصحاب الكساء أحد للناس فيه بعده عزاء وسلوة؛ فكان ذهابه كذهاب جميعهم، كما كان بقاؤه كبقاء جميعهم؛ فلذلك صار يومه أعظم الأيام مصيبة))[19].

فالإمام عليه السلام  يعلل أن استشهاد الحسين عليه السلام  هو بنفسه مصيبة تستدعي الحزن والبكاء؛ لأنّه البقية الباقية من أهل الكساء، وبقتله ماتوا جميعاً، من دون تعليل البكاء والحزن بفرح بني أمية وسرورهم في يوم عاشوراء، كما زعم الكاتب، فالحزن والبكاء والنوح على الحسين عليه السلام  في ذاته مطلوب، سواء كان هناك مَن يفرح لقتل الحسين عليه السلام  أم لم يكن، وسواء كان أموياً أم عباسياً، فالبكاء والحزن ليس شعاراً مرحلياً ابتدعه الشيعة ردّاً على فرح الأمويين، وإنّما هو شعار كربلاء لذاتها ونفسها؛ لأنّ فيها قُتل سيد شباب أهل الجنّة، ومُثّل بجسده الشريف الطاهر.

وكذلك الإمام الرضا عليه السلام  يخاطب الريان بن شبيب بقوله: ((يا بن شبيب، إن كنت باكياً لشيء فابكِ للحسين عليه السلام ، فإنّه ذُبح كما يُذبح الكبش، وقتل معه من أهل بيته ثمانية عشر رجلاً ما لهم من الأرض شبيهون، ولقد بكت السماوات السبع والأرضون السبع لقتله.

يا بن شبيب، إن بكيت على الحسين عليه السلام  حتّى تصير دموعك على خديك غفر الله لك كل ذنب أذنبته صغيراً كان أو كبيراً، قليلاً كان أو كثيراً..

يا بن شبيب، إن سَرَّك أن تكون معنا في الدرجات العُلى من الجنان، فاحزن لحزننا، وافرح لفرحنا..)) [20].

ويدخل دعبل الخزاعي على الإمام الرضا عليه السلام ، فيطلب منه أن ينشده في الحسين عليه السلام : ((أنشدني شيئاً مما أحدثت. فأنشدته:

مدارس آيات خلت من تلاوة...

حتّى انتهيت إلى قولي:

إذا وتروا مدوا إلى واتريهم

 

أكفاً عن الأوتار منقبضات

فبكى الإمام حتّى أغمي عليه، وأومأ إليَّ خادم كان على رأسه: أن اسكت. فسكتُّ ساعة، ثم قال لي: أعد. فأعدت، حتّى انتهيت إلى هذا البيت أيضاً، فأصابه مثل الذي أصابه المرّة الأولى، وأومأ الخادم إليَّ: أن اسكت. فسكت، ومكثت ساعة أخرى.. ثم قال لي: أعد، فأعدت حتّى انتهيت إلى آخرها. فقال لي: أحسنت. ثلاث مرات))[21].
فهذه المآتم التي أقامها النبي صلى الله عليه وآله والأئمة عليهم السلام  لم تكن ردّة فعل قبال فرح وسرور الأمويين في يوم عاشوراء؛ إما لعدم وجودهم كما في زمن النبي والإمام علي عليهما السلام ، أو لانتهاء زمنهم كما في عهد الصادق والرضا عليهما السلام .

يضاف إلى ذلك ما تضمّنته الروايات من التأكيد على إقامة المآتم والبكاء والنوح في يوم عاشوراء، وإظهار الحزن والتفجّع واستذكار ما جرى على أهل البيت عليهم السلام  فيه، وما لاقوه من ظلم وقتل وسبي، والروايات في هذا المعنى متضافرة في المصادر الحديثية، وهي تحثّ على الحزن والبكاء في عاشوراء، والمواساة فيه لأهل البيت عليهم السلام ، وليس الأمر ردّة فعل مؤقّتة قبال مَن أظهر الفرح والسرور في مثل هذا اليوم.

نعم، قد بُلينا في هذا الزمن بناشئةٍ ولدها الدهر بعد أجيال، تنتحل المحبة والولاء لأهل البيت عليهم السلام ، والحرص على مبادئهم وأهدافهم، تريد أن تطفئ نور الله بالأفواه والأقلام، ويأبى الله إلاَّ أن يُتمّ نوره، ولم تكتفِ بما فعلته السلفية بهدم قبورهم في البقيع، وما جنوه من هدم العسكريين في سامراء، بل عمدت لتشويه مأتم الحسين والبكاء والحزن في يوم مقتله، تروم اقتلاع ذكراه واقتلاع حبّه من قلب مَن وسمهم كاتب المقال بشيعة غيره، حتّى لا يبقى لهم ذكر بعد قتلهم ومحو آثارهم.

تاريخ المأتم الحسيني بعد واقعة الطف            

إن تاريخ إقامة المأتم الحسيني سبق واقعة الطف كما أسلفنا؛ حيث أقام النبي صلى الله عليه وآله والإمام علي عليه السلام  المأتم على الحسين قبل استشهاده بعشرات السنين، وما نريد ذكره الآن بيان تاريخ المأتم بعد واقعة الطف، فأوّل مأتم أُقيم بعد الحادثة جرى في الكوفة في قصر عبيد الله بن زياد، حينما خطب الإمام السجاد خطبته العصماء، فأبكى الحاضرين جميعاً وهو ينعى أباه[22].

والمأتم الثاني أُقيم في بيت يزيد بن معاوية في الشام، يقول الطبري: ((فخرجن ـ أي السبايا ـ حتّى دخلن دار يزيد، فلم يبقَ من آل معاوية امرأة إلاَّ استقبلتهن تبكي وتنوح على الحسين، فأقاموا عليه المناحة ثلاثاً))[23].

وحينما قفل ركب السبايا ورجعوا إلى المدينة، وقفوا عند بابها وطلبوا من الناعي نعي الحسين عليه السلام  قبل دخولهم، كما روى بشر بن حذلم قائلاً: ((لما قربنا من المدينة، حط علي بن الحسين رحله، وضرب فسطاطه وأنزل نساءه، وقال: يا بشر، رحم الله أباك لقد كان شاعراً، فهل تقدر على شيء منه؟ قال: بلى يا بن رسول الله. فقال عليه السلام : ادخل وانعَ أبا عبد الله.

قال بشر: فركبت فرسي وركضت حتّى دخلت المدينة، فلما بلغت مسجد النبي (صلى الله عليه وآله) رفعت صوتي بالبكاء، وأنشأت أقول:

يا أهل يثرب لا مقام لكم بها

 

قتل الحسين فأدمعي مدرار

الجسم منه بكربلاء مضرج

 

والرأس منه على القناة يدار

فلم يبقَ في المدينة مخدرة ولا محجبة إلاَّ برزن من خدورهن، وهن بين باكية ونائحة ولاطمة...))[24].

وأقام التوّابون المأتم عند قبر الحسين عليه السلام  قبل ذهابهم إلى المعركة: ((ثم ساروا فانتهوا إلى قبر الحسين، فلمّا وصلوا صاحوا صيحة واحدة، فما رُئي أكثر باكياً من ذلك اليوم، فترحّموا عليه وتابوا عنده من خذلانه وترك القتال معه، وأقاموا عنده يوماً وليلة يبكون ويتضرّعون ويترحّمون عليه وعلى أصحابه))[25].

واستمرّت المآتم تُقام على الحسين عليه السلام  في العهد الأموي والعباسي على السواء، تارة معلنة مشهورة، وأخرى في الخوف والسر؛ نتيجة الظلم والإرهاب الذي يُحيط بهذه المآتم، يحدّثنا ابن كثير عن حوادث سنة382هـ قائلاً: ((في عاشر محرمها أمر الوزير أبو الحسن علي بن محمّد الكوكبي ـ ويعرف بابن المعلّم، وكان استحوذ على السلطان ـ أهل الكرخ وباب الطاق من الرافضة، بأن لا يفعلوا شيئاً من تلك البدع التي كانوا يتعاطونها في عاشوراء: من تعليق المسوح، وتغليق الأسواق، والنياحة على الحسين، فلم يفعلوا شيئاً من ذلك، ولله الحمد))[26].

ويستمرّ في حمده لله ـ حسب زعمه ـ في منع البكاء على الحسين عليه السلام  وذكراه الأليمة، فيقول حاكياً عن أفعال أجداده النواصب: ((وقد أسرف الرافضة في دولة بني بويه في حدود الأربعمائة وما حولها، فكانت الدبادب تُضرب ببغداد ونحوها من البلاد في يوم عاشوراء، ويُذرّ الرماد والتبن في الطرقات والأسواق، وتعلّق المسوح على الدكاكين، ويُظهر الناس الحزن والبكاء، وكثير منهم لا يشرب الماء ليلتئذ؛ موافقةً للحسين؛ لأنّه قُتل عطشاناً، ثم تخرج النساء حاسرات عن وجوههن ينحن ويلطمن وجوههن وصدورهن، حافيات في الأسواق، إلى غير ذلك من البدع الشيعية... وإنما يريدون بهذا وأشباهه أن يُشنّعوا على دولة بني أمية، لأنّه قُتل في دولتهم.

وقد عاكس الرافضة والشيعة يوم عاشوراء النواصب من أهل الشام، فكانوا إلى يوم عاشوراء يطبخون الحبوب ويغتسلون ويتطيّبون ويلبسون أفخر ثيابهم، ويتخذون ذلك يوم عيد يصنعون فيه أنواع الأطعمة، ويُظهرون السرور والفرح، يريدون بذلك عناد الرافضة ومعاكستهم))[27].

ويتحدّث أيضاً عن حوادث سنة 421هـ : ((وفيها عملت الرافضة بدعتهم الشنعاء وحادثتهم الصلعاء في يوم عاشوراء من تعليق المسوح، وتغليق الأسواق، والنوح والبكاء في الأزقة، فأقبل أهل السنة إليهم في الحديد، فاقتتلوا قتالاً شديداً))[28].

وثائرة النواصب الذين سماهم أهل السنة، ليست إلاَّ الحمية الشنعاء والبغض المستكنّ في نفوسهم لآل بيت النبي صلى الله عليه وآله، ويستمرّ ابن كثير في نقل فضائح النواصب مفتخراً بها، فيقول: ((فيها [أي سنة 448هـ] أُلزِم الرافضة بترك الأذان بحي على خير العمل... وأمر رئيس الرؤساء الوالي بقتل أبي عبد الله بن الجلاب شيخ الرافضة... وهرب أبو جعفر الطوسي، ونهبت داره))[29].

كل ذلك العمل والقتل سببه التمسّك بأهل البيت عليهم السلام ، وشعاره إظهار الحزن والمأتم في شهر محرم الحرام، وتذكار ما جرى على أبناء النبي صلى الله عليه وآله في كربلاء.

وفي مصر يقيم الفاطميون المأتم على الحسين عليه السلام ، ويعطّلون الأسواق وينشرونها بالسواد، وتخرج مواكب العزاء لاطمةً على الصدور في الأزقة والطرقات، حتّى إذا دارت رحى دولتهم وانفضّ مُلكهم، وتسنّم بنو أيوب الخلافة بعدهم، عكسوا فعلهم، وناهضوا الشيعة في شعائرهم، يقول المقريزي: ((إنّه لما كانت الخلفاء الفاطميون بمصر كانت تتعطّل الأسواق في ذلك اليوم، ويُعمل فيه السماط العظيم المسمّى سماط الحزن، وينحرون الإبل، وظلّ الفاطميون يجرون على ذلك في كلّ أيامهم، فلمّا زالت الدولة الفاطمية، اتخذ الملوك من بني أيوب يوم عاشوراء يوم سرور، يوسّعون فيه على عيالهم، ويبسطون في المطاعم، ويتّخذون الأواني الجديدة، ويكتحلون ويدخلون الحمام؛ جرياً على عادة أهل الشام، التي سنّها لهم الحجاج في أيام عبد الملك بن مروان؛ ليرغموا بذلك آناف شيعة علي بن أبي طالب كرم الله وجهه، الذين يتّخذون يوم عاشوراء يوم عزاء وحزن على الحسين بن علي عليه السلام ، أنّه قتل فيه... وقد أدركنا بقايا ممن عمله بنو أمية من اتخاذ عاشوراء يوم سرور وتبسط))[30].

وعبارته الآنفة، من اتخاذ العيد والسرور إرغاماً لأنوف شيعة علي بن أبي طالب؛ لأنهم يقيمون العزاء والمأتم الحسيني، من البكاء والنوح واللطم، مع أن ذلك العزاء امتداد للعزاء الذي أقامه النبي صلى الله عليه وآله والأئمة عليهم السلام .

ويُحدّثنا ابن عمار الحنبلي عن مأتم الشيعة، وكيف تعرّض للمقابلة من النواصب، فيقول: ((تمادت الشيعة في هذه الأعصر في غيّهم بعمل عاشوراء باللطم والعويل، والزينة وشعار الأعياد يوم الغدير؛ فعمدت غالية السنَّة وأحدثوا في مقابلة يوم الغدير يوم الغار، وجعلوه بعد ثمانية أيام من يوم الغدير..

وجعلوا بإزاء يوم عاشوراء بعده بثمانية أيام يوم مصعب بن الزبير، وزاروا قبره يومئذٍ بمسكن، وبكوا عليه ونظَّروه بالحسين...))[31].

وشتّان ما بين الحسين ونهضته وبين مصعب بن الزبير الناصب وفتنته.

وكُلّ هذه المآتم تُقام بمرأى ومسمع من علماء الشيعة وكبارها، وهي تشدّ على أيدي المعزين واللاطمين، وتبذل كُلّ ما لديها من إمكانات في التعازي والمآتم والمواكب؛ إحياءً لنهضة الحسين عليه السلام ، وإعلاءً لشأنه، ورفعاً لرايته، وليست ـ كما يقول الكاتب: ـ شيئاً ابتدعوه أو خالفوا فيه أهداف وأغراض النهضة الحسينية المقدّسة، وإنّما هو إحياء وتعظيم.

كربلاء الحسين والتحريف

نعى الكاتب في مقاله التحريف الذي أوقعه الشيعة على النهضة الحسينية، وضرب مثالاً على ذلك خروج الحسين عليه السلام  وهو عالم بمقتله وعارف بمصيره، وأن السرّ في خروجه لا يُدرك ولا يُعلم، فجعل هذا الأمر من التحريف والتخريف في النهضة الحسينية.

ولا أدري ماذا يصنع الكاتب بعشرات الروايات، التي نقلنا قسماً منها فيما تقدّم، وهي تُخبر بأن النبي صلى الله عليه وآله أقام المأتم عليه منذ ولادته، وأن الملائكة نزلت تُعزّيه وتُسلّيه بمقتل ابنه الحسين عليه السلام ، وإخبارات أمير المؤمنين عليه السلام  بمقتل ابنه الحسين عليه السلام ، وكذلك إخبار الحسين عليه السلام  حينما قال مجيباً ابن عباس: ((يا بن عباس، أما علمت أن منيّتي هناك، وأنّ مصارع أصحابي هناك؟! فقلت: فأنّى لك ذلك؟ قال: بسرٍّ سُرّ لي، وعلم أعطيته))[32]. ومخاطباً زهير بن القين بقوله: ((يا زهير، اعلم أن ها هنا مشهدي، ويحمل هذا من جسدي ـ يعني رأسه ـ زحر بن قيس، فيدخل به على يزيد يرجو نواله، فلا يعطيه شيئاً))[33]. وقال عليه السلام : ((ولكن أعلم علماً أن من هناك مصدري، وهناك مصارع أصحابي، لا ينجو منهم إلاَّ ولدي علي))[34]. وعن حذيفة قال: ((سمعت الحسين بن علي عليهما السلام  يقول: والله، ليجتمعنّ على قتلي طغاة بني أمية، ويقدمهم عمر بن سعد. وذلك في حياة النبي صلى الله عليه وآله))[35].

والأخبار في علمه بمقتله صلوات الله عليه فاقت حدّ التواتر، فلا معنى للاعتراض والتبكيت، فإن كنت في غفلة منها، فكن على ذكر الآن.

نعم، تبقى مسألة كيفية التوفيق بين العلم المسبق والفعل، وهذا سيّال في كافّة الرُسل والأوصياء عليهم السلام ، وبحثه المفصّل ليس محلّه الآن، ويمكن مراجعة ما كتب حول ذلك.

وأما ما أشكل عليه، من أن الحسين عليه السلام  استشهد من أجل الشفاعة أو بكاء الناس عليه، فهذه ليست غايات وأهداف مقصودة بالذات، وإنّما هي عوارض لازمة للهدف الأساس والغاية الأم، وهي أن يتقدّم الحسين عليه السلام  بنفسه على مذبح الشهادة؛ لأجل إعلاء كلمة التوحيد، ومحو ما لحق بها من شوائب وأدران، نتيجة النهج الأموي، فأصبحت سفينته عليه السلام  أوسع وأرحب، مع أنّهم جميعاً عليهم السلام  سفن النجاة؛ حيث ورد: ((مكتوب عن يمين العرش: إنّ الحسين مصباح الهدى وسفينة النجاة))[36]؛ لأنّ الحسين عليه السلام  له خصوصية معينة، كما قال ابنه الرضا عليه السلام : ((إن يوم الحسين أقرح جفوننا، وأسبل دموعنا، وأذل عزيزنا، بأرض كرب وبلاء، أورثتنا الكرب والبلاء إلى يوم الانقضاء، فعلى مثل الحسين فليبكِ الباكون...))[37].

وبمراجعة بسيطة للأخبار الواردة حول الحسين عليه السلام ، من البكاء إلى الزيارة إلى الرثاء، نلحظ اهتمام الأئمة عليهم السلام  به، والتأكيد على شخصه وحركته المباركة؛ مما تُعطي ـ بشكل واضح ـ وجود خصوصية فيه سلام الله عليه، حصل عليها بسبب نهضته وشهادته المقدّسة.

وأما ما أورده حول الأرقام وعدد الجيش الذي خرج لقتال الحسين عليه السلام ، وأنّ الخطباء يُبالغون في الأعداد. فالأحرى بصاحب المقال النظر إلى الواقعة من جهة العدد الذي بايع مسلم بن عقيل في الكوفة، ثُمّ انقلب كلهم أو معظمهم، وإلى أنّ يزيد هو حاكم الدولة، وباستطاعته تهيئة جيش بعُدّة وعدد غير قليل، وقد ذُكر أنّ عددهم ثلاثون ألفاً أو أكثر أو أقل، ومن هؤلاء الذين قالوا ذلك السيد محسن الأمين صاحب رسالة التنزيه ـ والذي هو كصاحب المقال من المصلحين حسب تعبيره ـ حيث قال: ((قال بعض الرواة: فوالله، ما رأيت مكثوراً قط قد قتل ولده وأهل بيته وأصحابه، أربط جأشاً ولا أمضى جناناً... كان يحمل فيهم، وقد تكملوا ثلاثين ألفاً، فينهزمون من بين يديه كأنهم الجراد المنتشر..))[38]، وذُكر هذا العدد في البحار[39] والعوالم[40]، وهو عدد ليس بقليل أمام مَن حضر مع الحسين عليه السلام  وحارب معه، وهم لا يزيدون على مئة شخص.

ومنه يتضح عدد القتلى الذين قتلهم الإمام الحسين عليه السلام  أو أخوه العباس عليه السلام ، حيث نعى الكاتب على الخطباء أنهم يبالغون في ذكر عدد القتلى من جيش عمر بن سعد على يدي العباس أو الحسين عليه السلام ، وغفل عن عبارة: ((فينهزمون من بين يديه كأنهم الجراد المنتشر))؛ إذ طبيعة الانهزام مع هذه الأعداد المتكاثرة تؤدّي إلى وقوع قتلى كثير؛ لأنّ الهزيمة عمياء لا ترى من أمامها ولا من خلفها، فيموتون بحوافر الخيل أو وطئ بعضهم لبعض، وإذا ما تكرّر الانهزام أكثر من مرّة، تكرّر الأمر وازداد عدد القتلى، وهذا الذي لم يلتفت إليه صاحب المقال، وغفل عنه، ونسي النظر في حوادث المعركة، وما نقلته الأخبار من الحالة الانهزامية التي كانت تلمّ بجيش يزيد.

نغمة المصلحين وطنبور الاستصلاح

كثيراً ما تطالعنا هذه الشانئة والنابتة بين الفينة والأُخرى؛ بعبارات برّاقة وعناوين فضفاضة، ترفع من عقيرتها وتُبرز عجيزتها، معولة بالأسى والحزن، وبالويل والثبور، تذرف الدموع، وتنعى الجموع، وتلعن الحظ العاثر والحال المزري الذي وصل إليه الشيعة في الأزمنة المتأخّرة، وكأن فاجعة قد وقعت ومصيبة قد ألمّت بمبادئ أو عقائد الشريعة والدين.. تُنادي بالإصلاح والتجديد والخروج من خرافات الماضي وجمود التاريخ؛ كيما تحرّك النهضة وتُثير في النفوس اليقظة، وإذا ما أصمّت السمع وأضجّته، وتلهف الإنسان إليها لهف الضمآن في حرّ الهجير، فسعى إليها بكُلّه وذهب إليها بأجمعه، وإذا به يُفاجئ بعدّة سفاسف، لا تُسمن ولا تُغني من جوع.

تنادي بالكفّ عن البكاء عالياً وذرف الدموع نازلاً، وعدم جرح مشاعر النفس ومراعاتها!!

وإذا ما أردت معرفة السبب، قالوا: بأنّه المناسب للحضارة والرقي، والملائم للعصر الحالي، ويتماشى مع المدنية الحديثة، ثم ابتسموا ابتسامة خفيفة بمنظر الفاتح العظيم والمصلح الحصيف.

ينادون بعدم خروج المواكب في الأزقة والطرقات؛ لأنّ أصحاب الهيئات يتنافسون فيما بينهم، ويؤدي عادة إلى التضارب والتقاتل، فتزهق النفوس هدراً ويسفك الدم حراماً، وهو حرام شرعاً، فمقدّمته ـ وهي الخروج إلى الطرقات ـ حرام.

وأضاف الكاتب: أن السلطان الصفوي كان يحرّض الخارجين على التضارب بينهم؛ كيما يستأنس وتنفرج أساريره!

وجواب ذلك: أنّه على فرض صحّة ما نقلتموه، من حدوث التضارب بين المعزين في الأزقّة ـ مع أنه لا واقع له أساساًـ إلاَّ أنه لا يعني تحريم العزاء عموماً وخروج الناس في الطرقات؛ لأنّ الحصول نادر جداً، وبالخصوص في الأزمنة المعاصرة، بعد الضبط والانضباط ووجود حكومات وقوانين تمنع من التعدّي والتجاوز على الآخرين، فعلى فرض حصول هذا الأمر في الأزمنة السالفة، لا يعني أنّ هذا الأمر باقٍ إلى هذا الزمن، ونحن وغيرنا يخرج ويرى المواكب وانتشار الناس، ولا يلحظ شيئاً من التضارب والاصطدام.

على أنّ أساس ما تدّعونه غير صحيح، فقد ذكرنا كلام ابن كثير آنفاً، ولاحظنا فيه أنّ الضرب والتعدي كان من قِبل الحنابلة والنواصب، حين رؤيتهم لمواكب العزاء وهي خارجة من محلّة الكرخ الشيعية، فيهجمون عليها ويُصيبون أصحابها بمختلف أنواع الأذى من الضرب والقتل، وحرق الدور والمنازل في كثير من الأحيان، ولو كان التضارب يحصل بين أصحاب المواكب والخارجين للطم وضرب الصدور، لما توانى ابن كثير عن نقله والتشنيع به على الشيعة وتبرئة إخوانه النواصب من التعدّي والقتل، وهو خير شاهد على أنّ الذين يخرجون في الطرقات لا يضرب بعضهم البعض، ولا يحصل ما نسبه الكاتب إليهم.

ونعى الكاتب أيضاً دعم الحكّام من الدولة الفاطمية واليهودية والصفوية، وتأييدهم لمواكب ومجالس البكاء على الحسين عليه السلام ، قال: ((ويكفي دليلاً على أن سلاطين الجور باتوا هم الرعاة والمؤسّسون لتلك المراسم والمجالس، كما هو الحال بالنسبة لملك الجور الشاه عباس الصفوي))[41].

ومَن يقرأ هذه العبارة ـ والتي لها مفهومان ـ يتصور للوهلة الأولى أن المجلس الحسيني نشأ وترعرع في أحضان الدكتاتور، وأنّ الحكم الجائر الظالم هو الذي صنعه واخترعه، ومن ثمّ أدخله في أدبيات الشيعة، وجعله من معالم النهضة الحسينية حتى، أصبح جزءاً من معتقداتهم، فأكلوا الطعم من حيث لا يشعرون.

إلاّ أنّه إذا حلّلنا الكلام بصورته الصحيحة، وهي أنّ المأتم الحسيني قائم بذاته من زمن النبي صلى الله عليه وآله وإلى يوم الناس هذا، وأنّ المؤسّس له والراعي الأوّل والمشيّد لأركانه هو رسول الله صلى الله عليه وآله، فهو الذي بدأه وسنّ لأُمّته الاقتداء به في ذِكْر الحسين عليه السلام  والبكاء عليه، والتألّم والتفجّع لمصابه، ومن بعده الأئمة المعصومون عليهم السلام ، وتبعهم الشيعة في ذلك؛ للروايات المتكاثرة في استحباب ذكر الحسين عليه السلام  والبكاء عليه، والحزن والتفجّع على ما جرى عليه وعلى أبنائه وإخوته وصحبه، وما جرى على نسائه من السبي والضرب والترويع؛ لأنّه أوّل وآخر يوم سبيت فيه الفاطميات، وفيهن زينب بنت علي عليهما السلام ، والاستمرار بنقلها للأبناء والأحفاد، ودفعوا ثمن ذلك من القتل والحرق، والترويع والسجن، فإذا ما فرض الحسين عليه السلام  نفسه على القلوب واستهواها، وأخذت الألسن تلهج بذكره وتحفظه كما تحفظ أبناءها وأموالها وأكثر، ورأى الحاكم أن يسير مع الجماهير ويراعي رغبتها وحبها وشغفها بالحسين عليه السلام ، فمدّ لهم يد المعونة وهيأ الأسباب المساعدة لإقامة المأتم بأي وسيلة وطريقة.. فالذنب ليس ذنب الشيعة، ولا ترد عليهم المنقصة والحزازة، خصوصاً وأن سفينة الحسين عليه السلام  رحبة واسعة، تحمل بين دفتيها كُل مَن أحبّ الركوب والالتحاق، وحاله حال الفاسق إذا ما تطهّر ودخل المسجد للصلاة، فهل يمنعه المصلّون من الالتحاق بهم؛ بحجّة فسقه وإثمه؟! ليس من حقّ أي مسلم منعه أو الاعتراض عليه، كذلك في موردنا، فالحاكم الجائر إذا ما حضر في مآتم عاشوراء وجلس فيها، وبكى على الحسين عليه السلام  أو شارك في إقامتها، فلا يمنع من ذلك ولا يُردّ ولا يُصدّ؛ لأنّ المآتم لم تُعدّ للمؤمنين فقط، بل هي عامّة لكل من يُريد الحسين عليه السلام .

ولا علاقة لذلك بظلمه، فهما شيئان منفصلان، وأحدهما غير الآخر، فظلمه شيء وحضوره المأتم شيء آخر، لا ربط لأحدهما بالآخر، فضلاً عن أن يمسّ عمل الشيعة في فعلهم المأتم والبكاء على الحسين عليه السلام.

 

 

[1] الأمين، محسن، لواعج الأشجان: ص83.

[2] اُنظر: كتاب سيرتنا وسنّتنا للعلامة الأميني؛ حيث أورد المآتم التي أقامها النبي صلى الله عليه وآله  على ولده الحسين عليه السلام .

[3] ذهب إلى هذا القول مصطفى الشبيبي، الصلة بين التصوف والتشيع: ص23. وعبد العزيز الدوري، دراسات في العقائد والفِرَق: ج1، ص102.

[4] الأمين، محسن، لواعج الأشجان: ص236.

[5] الصدوق، محمد بن علي، الأمالي: ص204، البكاؤون خمسة.

[6] المجلسي، محمد باقر، بحار الأنوار: ج44، ص298.

[7] نصوص معاصرة: العدد التاسع، ص26 ـ 28.

[8] الخوارزمي، مقتل الحسين: ج1، ص78. والطبري، ذخائر العقبى: ص 119.

[9] النيسابوري، الحاكم، المستدرك على الصحيحين: ج3، ص176. الطبراني، المعجم الكبير: ج25، ص27. المفيد، الإرشاد: ج2، ص129.

[10] ابن أعثم، كتاب الفتوح: ج4، ص325.

[11] الطبراني، المعجم الكبير: ج3، ص109، وكذلك: ج23، ص289.

[12] أحمد بن حنبل، مسند أحمد: ج1، ص85. الهيثمي، مجمع الزوائد: ج9، ص187.

[13] نصوص معاصرة، العدد التاسع: ص27.

[14] شرف الدين، عبد الحسين، المجالس الفاخرة: ص54. العسقلاني، ابن حجر، تهذيب التهذيب: ج2، ص301.

[15] اُنظر: الصدوق، محمد بن علي، الأمالي: ص177.

[16] اُنظر: المفيد، محمد بن محمد بن نعمان، الإرشاد: ج2، ص75.

[17] الكليني، محمد بن يعقوب، الكافي: ج8، ص215. الصدوق، محمد بن علي، الأمالي: ص205. الحر العاملي، محمد حسن، وسائل الشيعة: ج14، ص504.

[18] القمي، علي بن إبراهيم، كامل الزيارات: ص202، باب ثواب البكاء على الحسين.

[19] الصدوق، محمد بن علي، علل الشرائع: ص255.

[20] الحر العاملي، محمد حسن، وسائل الشيعة: ج14، ص503.

[21] الأصفهاني، أبو الفرج، الأغاني: ج20، ص162. ابن شهرآشوب، محمد بن علي، مناقب آل أبي طالب: ج2، ص294.

[22] اُنظر: ابن طاووس، علي بن موسى، اللهوف: ص92.

[23] الطبري، تاريخ الطبري: ج4، ص353.

[24] الحلي، ابن نما، مثير الأحزان: ص90 ـ 91.

[25] ابن الأثير، الكامل في التاريخ: ج4، ص178.

[26] ابن كثير، البداية والنهاية: ج11، ص355.

[27] المصدر نفسه: ج8، ص22.

[28] المصدر نفسه: ج12، ص35.

[29] المصدر نفسه: ج12، ص86.

[30] القمي، عباس، الكنى والألقاب: ج1، ص431، عن الخطط للمقريزي.

[31] الحنبلي، ابن العماد، شذرات الذهب: ج3، ص130.

[32] الطبري، ابن جرير، دلائل الإمامة: ص181.

[33] المصدر نفسه: ص181.

[34] المصدر نفسه: ص183.

[35] المصدر نفسه: ص184.

[36] البحراني، السيد هاشم، مدينة المعاجز: ج4، ص52.

[37] الصدوق، محمد بن علي، الأمالي: ص19، والرواية صحيحة السند.

[38] الأمين، محسن، لواعج الأشجان: 184.

[39] المجلسي، محمد باقر، بحار الأنوار: ج44، ص386.

[40] البحراني، السيد هاشم، العوالم: ص237.

[41] نصوص معاصرة: العدد 9، ص22.




  • المصدر : http://www.kitabat.info/subject.php?id=159322
  • تاريخ إضافة الموضوع : 2021 / 08 / 14
  • تاريخ الطباعة : 2024 / 04 / 19