• الموقع : كتابات في الميزان .
        • القسم الرئيسي : المقالات .
              • القسم الفرعي : المقالات .
                    • الموضوع : الدعاء بظهر الغيب بدل الغيبة ـ الجزء الثاني .
                          • الكاتب : محمد جعفر الكيشوان الموسوي .

الدعاء بظهر الغيب بدل الغيبة ـ الجزء الثاني

في كلّ ثقافات شعوب الدنيا، وفي كلّ دساتير أهل الأرض، وفي كلّ أدبيات الأمم السالفة وفي جميع الأديان السماوية تعتبر الغيبة بمثابة الخِنجر المسموم والطعنة الغادرة التي لا يسددها إلاّ الجبناء والمرضى. تعد الغيبة من إحدى أسباب تردي المجتمع وتقهقره لو كثّر المدمنون عليها والسمّاعون لها. من نافلة القول أن بعض المحترمين لا يميّز بين الغيبة والنقد كما أن منهم مَن لا يميّز بين الغيبة والتسقيط والتشهيراو التجريح. خطر ببالي الآن تصرف غريب من أحد المصلين :

الشيخ العالم الفاضل والمصلي خلفه..

دأب شيخنا واستاذنا الفاضل وإمام الجماعة الذي كنا نصلي خلفه كل ليلة، على التعرض للموعظة بإختصار بين صلاة المغرب والعشاء. في ليلة من ليالي الشهر الفضيل تحدث رحمه الله عن الغيبة وآثارها في تحطيم الفرد قبل تحطيم المجتمع. إنتهت الصلاة وفرغنا من

التعقيبات فإنصرف المصلون كلهم إلاّ الشيخ وأنا ومصلِّ آخر بقي في مكان صلاته. كنت أنتظر الشيخ لأني أصاحبه في الطريق إلى البيت وإستمتع بالإستماع لأحاديثه الشيّقة ومواعظه الحسنة فمن حسن حظي أن يعظني مثل ذلك الشيخ الجليل. في تلك الليلة تأخر الشيخ الذي إعتاد على صلاة الوتيرة بعد صلاة العشاء الأخير، تقدمت نحوه وجلست خلفه قريبا منه فإلتفت إليّ وإستدناني ففعلت. نهض ذلك المصلي من مكانه بسرعة وكأنه يريد ان يدرك الشيخ قبل مغادرته مصلاه ووقف أمام الشيخ وسلّم عليه وقال له : ياشيخنا لقد إستمعت إلى موعظتك الليلة عن الغيبة وقبحها وآثارها فقررت أن أصارحك وجها بوجه وأقول لك أني أكرهك ولا أطيق رؤية وجهك فأنت كثير الكلام كما أنك تقرأ السور الطويلة فتتعب المصلين حولك ولا تصلي بأضعفهم وإلى آخر الإفتراءات التي قدف بها الشيخ الجليل. تضايقت كثيرا من سماع ذلك التعدي والصلافة لكني رأيت وجه الشيخ لم يتغير لونه كما أنه رحمه الله لم يفقد تبسمه المعتاد وأصغى بكل أدب لذلك الرجل الوقح، وعندما إنتهى من كلامه قال له الشيخ : سأبدأ من حيث إنتهيت يا محترم. امّا الصلاة فإني أصلي دوما بأضعفكم الذي هو أنا، أنا شيخ كبير ومريض وأنتم ما شاء الله شباب وجلكم يمارس التمارين الرياضية وأنت بالذات من العدائين وتمارس رياضة الركض حتى في الشتاء البارد وعند تساقط الامطار وفي قيظ الصيف وتحت أشعة الشمس. فمن هو الأضعف يا محترم؟. ثم واصل الشيخ (وهنا الشاهد من القصة) : أمّا انك فضلتَ أن لا تغتابني وتصارحني وجها بوجه فقد جرحتني وآلمتني وقلت فيّ ماقلته وليتك إغتبتني لكان أهون من ذلك، أنت أمام هذا الرجل قد سقطتني وقذفتني بباطل القول وسيء الكلام ولم يبق إلاّ أن تسبني وتشتمني.. أصلحك الله وعافاك. أعرف الشيخ جيدا فقد رافقته سنين طويلة وكانت له سابق معرفة بوالدي في النجف، أعرف أنه لا يقول لأحد أصلحك الله مجاملة أو بلسانه فقط. بل هي دعوة صاقة من أعماق قلبه العامر بطاعة الله والإيمان به، فلا أشك بأن الله قد إستجاب للشيخ في الحال فصلح حال ذلك الرجل وطلب من الشيخ المسامحة والمعذرة فكان له ما أراد ثم أصبح بعدها من أخلص الناس للشيخ الكريم تغمده الله برحمته.

تعليق..

ليس معنى تجنب الغيبة هو ان نذهب إلى التسقيط والتشهير والقذف كما هو سائد في أيامنا هذه ومنتشر بشكل ملفت واقعا وحتى من قبل بعض المتدينين للأسف الشديد ثم للأسف الشديد. يا سيدي ما الذي ستكسبه من تسقيط الناس وكشف سترهم. لم تكسب شيئا سوى تحملك أوزار ذلك الذي نطق به لسانك. لا أدعو إلى كتم الأنفاس وعدم إبداء الرأي أو النقد البنّاء. بل أدعو إلى كظم الغيظ وتهذيب اللسان وبيان الأخطاء بكل لياقة وأدب والعمل بصدق وإخلاص على معالجتها والتخلص منها. تتبع عثرات الآخرين وهفواتهم وزلات ألسنتهم ليس كمن يشير إلى بعض الأخطاء والسلبيات ليعالجها قدر علمه واستطاعته وما آتاه الله "لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا". هناك ملاحظة تجدر الإشارة إليها بالمناسبة وهي ان نتجنب مواقع الغيبة ومواطنها وأن لا نكون سببا في تشجيع الآخرين على إستغابتنا. عن مولى الموحدين وأمير المؤمنين عليه السلام أنه قال :" من عرَّض نفسه للتُهمة فلا يلومنَّ مَن هذا ليس معناه أن من وضع نفسه موضع . الخيرة في يدِه"أساءَ به الظنَّ، ومن كتم سرَّه كانت الريبة فإستغابته تكون حلالا زلالا، إنما معناه تجنب ذلك ولا تشجع غيرك بأن تكون مادة للغيبة والتهمة والريبة. كن متزنا في أقوالك وأفعالك وحركاتك وسكناتك فالأنظار متجهة إليك وشاخصة نحوك، منها معجب بشخصك الكريم يتزود من جنابك ما ينقصه وما غفل عنه وما انساه الشيطان أن يذكره، ومنهم متصيّد متتبع لعثراتك يبحث عن مادة سمينة يضّحك بها الناس ليكون نجما لامعا بينهم ولكن بالباطل. يضحك قليلا الساعة ثم يطول بكاؤه غدا..عافانا وعافاكم الله وعافا كل المبتلين بهذه المعاصي. الملاحظة المهمة الثانية هي ان المغتاب الذي يذكر عيوب الناس ونقائصهم من اجل ان يلّطف المجلس ويحصد أكبر عدد من علامات الإعجاب هو في الواقع إنما يظهر عيوبه ونواقصه ونفسه المريضة ونفسيته المحطمة كما انه يحمل يوم القيامة اوزار الذين ذكر عيوبهم ونهش لحومهم. أكرر ما ذكرته في اكثر من مناسبة سابقة : قلت لأحد من كان يغتاب صديقه الذي كان معه قبل قليل : تصوّر سيدي أن صديقك هذا الذي تغتابه الآن يقف بين يديّ الحق سبحانه وقد رفع يديه إلى السماء وقال :"اللهم مَن أرادني فأرده ومَن كادني فكده" ماذا سيكون مصيرك سيدي، لقد تعقّد الأمر عليك وأصبح أكثر خطورة، فقد احالك صديقك إلى الحاكم بين عباده يوم الدين!! أرتعد

وإصفّر وجه ذلك الآدمي وأستغفر ربه وذهب مسرعا إلى صاحبه يلتمس منه العفو ومن الله تعالى المغفرة والتوبة.

العلاج بالأضداد..

الدعاء بظهر الغيب هو بمثابة إمالة الكتف إلى الجهة المعاكسة التي ذكرناها في الجزء الأول من هذا المقال. إستبدل الغيبة بالدعاء فما أجمل ذلك وأحلاه وأنفعه. للغيبة تبعات وآثار سيئة على نفسك وأهلك وعيالك ومجتمعك والناس اجمعين وانت سوف تكون مسؤولا امام الحق سبحانه عن ذلك كله. هل تقوى على الوقوف بهكذا موقف غدا وربما يصيبك ما لا يسرك عاجلا؟! ولماذا؟ ولأجل مَن؟ وإن كان عند رصيدا من الحسنات وفعل الخيرات فسوف تحرق رصيدك وتخسر كل شيء، تماما كما يحترق كارت الموبايل وتحترق معه الذاكرة والأرقام المخزونة. لماذا لا نستبدل سيدي الكريم أنا وأنت التبعات والآثار السيئة بالحسنات والآثار الحسنة. الغيبة تحطمنا ولا نغنم شيئا. الدعاء بظهر الغيب يطهّر نفوسنا ويذهب غيظ قلوبنا.

الغيبة جزاؤها وخيم والدعاء بظهر الغيب أجره عظيم. تدعو لأخيك بظهر الغيب فتقول لك الملائكة : لك مثله، أو لك مِثلَيْه. الغيبة عادة سيئة قبيحة والدعاء بظهر الغيب لأخيك دين وإيمان وأخلاق ونبل وشجاعة وشهامة ومروءة.

لننبذ العادات السيئة ونتمسك بالدين والاخلاق. فالأولى مصدر الشقاء في الدنيا والعقاب في الآخرة. والثانية مصدر العافية في الدنيا والعافية في الآخرة.

لنغيّر العادات السيئة..

بَدَلُ الغيبة ندرّب النفس على الدعاء بظهر الغيب. إن مرّ بنا مَن لا نعرفه سابقا فلندعوا له على الفور.. إن كان يبدو عليه آثار ندعوا الله ان يشافيه ويعافيه مما هو فيه. وإن مرّ بنا إنسان معافى فلندعوا الله تعالى ان يديم عليه لباس العافية والصحة. إن مرّ بنا مَن تبدو عليه سيماء الفقر والعوز فلندعوا الله ان يزيده من فضله ويغنيه من حلاله الطيب ويبارك له فيه و. وإن مرّ بنا غني عليه آثار نعمة الله تعالى فلندعوا الله أن يكون من الشاكرين ولا يجحد نعم الله. وإن مرّ بنا وإن مرّ بنا إلى إنقطاع النفس. الدعاء تربية اخلاقية وروحية يطهّر النفس من الأنا والبغض والتحامل على الآخرين والغل والكراهية واللؤم والبخل والغل والحسد

والكبرياء والتكبر. أساسا أحد اسباب الغيبة هو التكبر والتجبر فيسخر الغني المنّعم المكرّم من الفقير المبتلى، ويسخر القويّ المتسلط من المستضعف المسكين. البون شاسع والفرق بائن بين يسخر من.. ويدعو إلى.. .

الشاب المتالق..

لفت إنتباهي واستحوذ على قلبي لدرجة أن كرمه وحسن تدينه أبكاني. شاب في العشرين من عمره قد إعتنى بنفسه كثيرا فجعل الله له نورا يمشي به في الناس وضاعف له النور فأصبح مشرقا بنور الإيمان. كان كعادته كل صباح يصلي صلاة الصبح عند ضريح امير المؤمنين عليه السلام. رافقته ذات صباح وهو يمشي من البيت إلى الضريح المطهر. في الطريق كان إن وقع نظره على شيخ كبير يمشي خطوات ثم يجلس يستريح، رفع ذلك الشاب يديه وقال : اللهم قوّه على مواصلة الطريق وأعنه على امر دنياه وآخرته. وإن صادف ان رأى إمرأة تمشي وهي محتشمة، رفع يديه وقال : اللهم زد في عفتها وشرفها وإجزها خيرا على حسن إعتنائها بالستر والحجاب، اللهم استر عيوبها، ثم يلتفتُ إليّ ويقول : وعيوبنا يارب! وإن رأى طفلا صغيرا يهرول وهو خائف، يقول : اللهم أحرسه بحراستك وهدّأ روعه واحفظه في نفسه وأقرّ به عيون أهله. وإن رأى وإن رأى حتى إنقطاع النفس. لم أر يوما ذلك الشاب عابسا او شاكيا وضعه الصعب ولا حاسدا ولا مرائيا ولا مغتابا ولا ظالما ولا مفسدا ولا آكلا للسحت ولا متعاطيا للرشوة والمحسوبية ولا متسلطا ولا لئيما ولا انانيا. تلك وغيرها الكثير الكثير هي بركات الدعاء بظهر الغيب لأخينا المؤمن.

ملاحظة أخيرة..

في آخر سطر ذكرتُ عبارة (الدعاء بظهر الغيب لأخينا المؤمن). السؤال : كيف لِمؤمنٍ ان يغتاب اخيه المؤمن؟! كيف لمؤمنٍ أن يظهر عيوب أخيه المؤمن، أجل سيدي الكريم أخيه المؤمن!!! أيّ أخوة تلك وأيّ إيمان ذلك. إنها دعوة للإقلاع ونهائيا عن الغيبة وعدم ذكر عورات الناس والإمتناع عن حضور مجالس الغيبة وسماعها. سماع الغيبة أشبهه بحال مَن يجالس مدخنا للسكائر فيصيبه من ضرر الدخان السام وإن كان غير مدخن بالمرّة. بل يؤكد الأطباء أن جليس المدخنين تصيبه أضرار بالغة لم يحسب لها حسابا. كذلك السمّاع للغيبة

يتحمل الوزر ويدفع الثمن مضاعفا وأكبر ثمن يدفعه هو أنه سيمتهن المهنة يوما ويحب الصنعة مستقبلا لانه شبَّ وشاب على ذلك الفعل السيء القبيح. عافانا الله وإيّاكم أجمعين.




  • المصدر : http://www.kitabat.info/subject.php?id=159581
  • تاريخ إضافة الموضوع : 2021 / 08 / 22
  • تاريخ الطباعة : 2024 / 03 / 28