• الموقع : كتابات في الميزان .
        • القسم الرئيسي : المقالات .
              • القسم الفرعي : المقالات .
                    • الموضوع : الحركة الرسالية الإسلامية وتحديات العالم الرقمي ( ١ ) .
                          • الكاتب : يحيى غالي ياسين .

الحركة الرسالية الإسلامية وتحديات العالم الرقمي ( ١ )

صدرت بحوث كثيرة وفي مجالات متعددة تتناول أثر وانعكاس الثورة الرقمية والتقنية المعاصرة على المجالات الحياتية المتنوعة ، وذلك لأن عالمنا المعاصر يصح ان نسميه بالعالم الرقمي digital world ، فشهدنا في ظلّ التقنيات الحديثة تحولّات حياتية كبيرة ، وبها تغيّرت الكثير من ملامح العصر وأعطته شخصية مميزة ، ولا زال هذا التحوّل مستمراً ولا ندري الى أي مدى يصل وأين ومتى سيتوقف ..!!

وربما نتصور أن التغيير حصل في المظهر لا بالجوهر ، وأنه يقتصر فقط على وسائل الحياة وبعض طرق المعيشة ولا يتعدّى الى العمق المعرفي للبشرية ، وهذا تصوّر ساذج بالحقيقة ، لأن هذه الثورة التكنولوجية والمعلوماتية قد صنعت لنفسها ثقافة خاصة بل هي في طور تشكيل وتكوين حضارة جديدة ، ولا أحسب نفسي مبالغاً في ذلك ، وبالتالي فإنها ستصحر عن حقائق ومفاهيم معينة وستغطّي وتشوّه حقائقاً أخرى ..

ولهذا فنحن مضطرون الى التفاعل والتعاطي مع هذا العالم الجديد ووعيه بالشكل اللازم والمطلوب ، والتأخر عنه يعتبر خطأً حضارياً ومنهجياً كبيراً قد لا يمكن معالجته فيما بعد كما حصل في طفرات حضارية سابقة تأخرت عنها الأمة فأصابها ما أصابها ..!!

ولعل الجانب الرسالي الحركي هو اكثر جانب معني بذلك من بين الجوانب الإسلامية والدينية عموماً ، لالتصاقه بحياة الأمة ومتابعته لحركتها ومواكبته لتغيّراتها المختلفة .. سنحاول في هذا البحث مناقشة هذه التحديات - الرقمية - الجديدة التي تواجه الحركة الإسلامية في الحاضر والمستقبل المنظور ..

( ٢ )

المجتمع هو مجال وساحة عمل الرسالي ، وإصلاحه يمثل الهدف الأسمى ، وكلما فهم العاملون المجتمع ووضعوا أيديهم على محرّكاته الأساسية .. كلما أصبح عملهم أكثر نجاحاً وأعلى انتاجاً وأسرع وصولاً للأهداف ..

وما إن جاءت الثورة الرقمية - بما تتضمن من تكنولوجيا للمعلومات والاتصالات .. الخ - حتى بدأت بإحداث تغيير في اعدادات المجتمعات التي استوطنتها ، وباشرت بإعادة ضبط المصنع لها كما يقال ..! ، بدءاً من الفرد مروراً بالعلاقات العائلية ثم العلاقات الاجتماعية المختلفة .. فتولدت لنا أنساق جديدة للحياة ، في التعليم والبيع والشراء والقراءة والتدوين وحتى طريقة الاهتمام والتعاطي مع الأحداث بشتى أشكالها وانواعها كالسياسية والأمنية ..

فالأبحاث تشير - مثلاً - الى أن العالم الرقمي الجديد قد عزز الذات الفردية ، وساعد الأشخاص على تجاوز الانتماء الهرمي البيروقراطي التقليدي داخل العائلة او المجتمع ، فبسهولة أصبح للشاب او الفتاة امكانية تجاوز عقدة الأب او الأخ الكبير او ضوابط البيئة الاجتماعية ومحددات المحيط الذي يعيشون فيه .. وبكل مرونة بات كسب صديق رقمي لا تحتاج صداقته كثيراً من الوقت والتكلفة كما في الصداقة التقليدية .. أضف الى ذلك فإن الفضاء الالكتروني تجاوز بعض الأخلاقيات الاجتماعية الحاكمة من قبل ، فلم يعد اختلاف الجنس له ميزة كبيرة ، ولا المستوى العلمي والثقافي ، ولا حتى الاعتبارات الاجتماعية الأخرى - صحيحها وسقيمها - ..!

هذا التغيّر والتحوّل في النسيج الإجتماعي يصاحبه بالنسبة للحركات الرسالية تعطيل لكثير من نظمها المتبعة سابقاً ، وحرق للكثير من أوراقها الرابحة ، وهدر لطاقات وخبرات ومهارات كبيرة ومتراكمة كانت مستخدمة في المجتمعات التقليدية وأعطت ثمارها ونتائجها الطيّبة ..

فإذا كان في السابق يعتمد تقويم وتثقيف العائلة على التركيز في إعداد الأب او الأم ( الأم مدرسة إن أعددتها .. أعدت شعباً طيب الأعراق ) فالآن أصبحنا بحاجة الى استهداف مباشر لكل فرد من أفراد العائلة والتعامل معه وفق سنّه وشريحته واهتماماته .. يقول الكاتب ألفن توفلر ( كاتب ومفكر أمريكي وعالم في مجال المستقبليات ) في كتابه الموجة الثالثة : ( لقد جلبت لنا الحضارة نمطاً عائلياً جديداً ، وغيّرت طرق العمل ، والحب والمعيشة ... وفي خلفية كل ذلك تبدّل وعي الإنسان ) .

وفي عصرنا الرقمي باتت المقابلة وجهاً الى وجه الطريقة الأصعب ، باعتبار وجود وسائل تواصل أسهل وأسرع ، فخسرنا التأثير الساحر للمواجهة المباشرة ، لأننا مهما عملنا فإن التواصل عبر العالم الافتراضي لا يصل الى نجاعة وتأثير الفضاء الواقعي ..!

وهذا كله يعتبر تحدّياً كبيراً تواجهه الحركات الإسلامية العاملة ينبغي لها التكيّف والتعامل معه بشكل منسجم ودقيق ، وبالسرعة الفائقة ايضا بسبب سرعة الصيرورة المستمرة للمجتمعات التي حكمتها الثورة الرقمية هذه ، فما أن تكتشف بديلاً مناسباً حتى تتفاجأ بأنك تحتاج الى استبدال البديل .. وهكذا .

اذن بهذا المختصر نكون قد سجلنا التحدّي الأول للحركات الرسالية والاصلاحية ، ويتمثل كما قلنا بالتغير السريع والمستمر لطبيعة النسيج المجتمعي والعلاقات الرقمية المتنوعة التي حلّت محل القديمة والتقليدية والتي باتت حاكمة بين أفراده وسائر تعاملاته ، فعوامل التنمية البشرية أصبحت تعتمد اذن بشكل أساسي على ما يتحقق من تنمية رقمية ..

( ٣ )

التحدي الآخر الذي يمكننا تسجيله والتركيز عليه هو الذكاء الاصطناعي Artificial intelligence ، والذي يتميز به هذا العالم التقني الجديد بأجهزته المختلفة ومعلوماته الوفيرة وسرعة معالجته للبيانات والوصول الى النتائج .. الخ

انعكس هذا الأمر سلباً على المنطقة الفاصلة بين المثقفين الحقيقيين وأشباه المثقفين ، والمختصين والهاوين والمتطفلين ، وبين المخلصين وأصحاب النوايا السيئة .. وهكذا ، فقوّضها تقويضاً سلبياً في مدياته العليا وان كان ايجابياً في بعض جوانبه على المستوى الأولي لما يخلق من ثقافة عامة ومتنوعة وخدمات جليلة للمستخدمين ..

فبات الرجوع الى موسوعات الكترونية خاصة بالمعلومات مثل محرك كوكل او ويكيبيديا وغيرها ، او الاعتماد على حسابات ومواقع خاصة بصنّاع محتوى محترفين هو الطريقة الشائعة الآن وفي المستقبل القريب ما لم تتم السيطرة عليه من خلال توعية المستخدم او اخضاع الشركات المشغلة للبرامج المتنوعة والمزوّدة للخدمة الى اتفاقيات ومعاهدات معينة تقنن هذا الأمر .

فالذكاء الاصطناعي أعطى فرصة كبيرة وسهلة لبث معلومات لا ينبغي ان يطلع عليها عامة الناس ، فرفع الخصوصية عنها واصبح من الصعب توجيهها الى شرائح مستهدفة معينة ، فضلاً عن نشر بيانات اخرى خاطئة أو ثقافات فاسدة او ايدولوجيات موجهة .. لأنه بالتالي عبارة عن ذكاء مستعار سهل الترويض والتطويع ممن يتقن اللعبة ويجيد فن التعامل الرقمي .

ولا تتوقع أن الأغراض والمحتويات السيئة تأتي بأشكال بسيطة وساذجة ، وانما قد تكون على هيئة جامعات مفتوحة او مراكز بحثية رصينة او تطبيقات وبرامج ضخمة .. فبسببها أصبح لنا محاكم مختصة بالجرائم الالكترونية ، وانتشرت أمراض ناتجة عن الإدمان الالكتروني ، وانتجت لنا شهادات عليا لا يستحقها حاملوها ، غير نظام التفاهة الذي غزا أطناب الأرض والذي رافق وصول عالم الانترنت وملحقاته ..

ولا يقتصر هذا الأمر على الجانب الفكري والمعرفي ، وانما استطاع العالم الرقمي على تحريك وتوجيه الشارع من خلال جيوش الكترونية أو ذباب الكتروني كما يسمى ، استطاعت على اسقاط حكومات وبشكل لا تستطيع جيوش فعلية على الأرض انجازه او احزاب عريقة صناعته ولا حتى كفاح شعوب ان يصل الى نتائجه ..!

فلا تستغرب ان قلت أننا بحاجة اليوم الى جهاد الكتروني ومرابطة في الثغور الرقمية أكثر من جهاد الدم والسيف على الحدود والمضارب الجغرافية .. فأبطال المعركة اليوم هم الهكر ومن لديهم مواقع قوية على الانترنت وحسابات مدعومة ولها متابعون كثر على مواقع التواصل الاجتماعي ..

العمل الرسالي أمام هذا التحدي أصبح عملاً اصطناعياً أكثر منه بشرياً تقليديا ، فتوفير المادة الرقمية مع التطبيقات الحاسوبية اللازمة لايصالها في الفضاء الافتراضي مع ضرورة رفع مستوى المهارة والاحترافية في جذب اكبر اعداد ممكنة من المستخدمين والتأثير بهم ومزاحمة كل محتوى وتطبيق سيء .. كل هذا وغيره لعله أصبح واجباً كفائياً بلغة الفقه ان لم يكن عينياً على من يجيد ذلك ويستطيع أن يحدث فارقاً معينا ..

فتأسيس مراكز مختصة بنشر الثقافة الاسلامية ورصد الهجمات الالكترونية الموجهة ضد الاسلام والمسلمين ومكافحتها وردّها هو الحل الأفضل اليوم ، فنحتاج الى مركز خاص بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مثلاً ، وآخر مختص بالعقائد وثالث بالفقه والأخلاق والتاريخ .. الخ . وأخرى تقوم بصناعة محتوى آمن بديل عما هو موجود ، لماذا لا ننتج ألعاب أطفال وصناعة أفلام كارتون وتصوير مقاطع يحبها الشباب .. لماذا لا تكون المبادرة بأيدينا .. !

( ٤ )

يشخّص الكاتب نبيل علي في كتابه - تحديات عصر المعلومات - تحدّياً دقيقاً وخطيراً بنفس الوقت ، حيث يقول :

( أن تقنية المعلومات استهلكت مواردنا الخام من بيانات ومعلومات كعرب ، تماماً كما استهلكت تقنية الصناعة مواردنا الخام من بترول وخلافه ) متسائلاً في نفس الوقت ( هل ستقضي تقنية المعلومات علي التنوع الحضاري ) ..!!

وهذا الكلام مهمّ يدور حول فقدان سلاحين مهمّين للحضارة العربية - بحسب حصره ووصفه - هما : فقدان الهوية المعرفية المميِّزة لهذه الحضارة واذابتها ومسخها تدريجياً بهويات اخرى ، والشيء الثاني هو فقدان أو استهلاك الأوراق الرابحة التي كانت تراهن عليها حضارة العرب في اغراء الآخر بها او جذبه اليها او دخولها ساحة المنافسة .. !

نفس الكلام ونفس جوانب الفقدان والاستهلاك نستطيع تطبيقهما على الإسلام والمسلمين ، وهذا بحدّ ذاته تحدّياً كبيراً للحركات الرسالية الحاملة لهمّ الإسلام ومسؤوليات الأمة ازاء المواجهات الصعبة في شتى المجالات .. فبات الحديث عن العقائد والأخلاق والشخصيات والمعاجز الاسلامية مستهلكاً ، والهوية الإسلامية لا تعبر بها منافذ ونقاط تفتيش العالَم .. وأن أقسى شيء على المقاتل عندما يفقد حضوره في الميدان ، ثم يجرّد عن سلاحه الذي يقاتل به ، ودرعه الذي يحتمي خلفه .. !

فلم يعد الوعي الاسلامي التقليدي - مادةً وطريقة عرضٍ وايصال - قادر ولديه الامكانية بمفرده على مواجهة الجبهات المفتوحة ضده فضلاً عن منافستها والتغلب عليها .. ومنّ يصرّ على ابقاء تلك الوسائل التقليدية او الاقتصار عليها في نشر الوعي الاسلامي ومحاولة تحريك الأمة فهو لا يريد سوى اسقاط فرض يشعر بمسؤوليته اتجاهه - ولن يسقط - وقد ينطبق عليه قول الشاعر :

وقصيدة قد قلتها ليقال من ذا قالها

النماذج المعرفية هي أنجع الحلول الآن ، فعلك وانتاجك ومساهمتك الفاعلة في الحضارة التي تعيشها هي أبلغ كلام للإنسان العصري الذي أصبح يفضّل الصورة على النصّ ، والتكنولوجيا على الفكر والفلسفة ، لا يوجد المجال الكافي في عصر السرعة هذا عند اكثر الناس لكي نقدم لهم براهين منطقية ومسرحيات جدلية على ما نتبنّاه من دين أو نظرية .. !

الغرب غزا العالم بصناعته وتقنياته وتجارته ، بل ونظرياته العلمية ومختبراته التجريبية .. نعيش الغرب كواقع وتجربة أكثر مما نعيشه كفكر ومبادىء وكتب ونشرات ..

الاجهزة الذكية المحمولة باتت أهم مصدر ومدخل للمعرفة ، اعتاد مستعملها ان يتصفح العالم بلحظات ، لم يعد بذلك الصبر والقدرة على تحمل المطوّلات المكتوبة او المحكية ، مكتباتنا الورقية تعطلت ، والالكترونية قرّاءها يقتصرون تقريباً على البحث والاقتباس .. !

لغة الأرقام تخبرنا عن أن المتصفحات الالكترونية هي سيدة الموقف في المعرفة العصرية ، فتشير بعض مراكز البحث الى أن الدقيقة الواحدة ( لعام ٢٠١٨ و ٢٠١٩ ) تشهد إجراء :

3.7 مليون عملية بحث على غوغل .

18 مليون رسالة نصية .

4.3 مليون مشاهدة فيديو على يوتيوب .

973 ألف تسجيل دخول في فيسبوك .

375 ألف عملية تنزيل تطبيقات ( غوغل بلاي وأبل ستور) .

174 ألف تصفح على إنستغرام .

481 ألف تغريدة .

187 مليون بريد الكتروني .

38 مليون رسالة واتساب .

862 مليون دولار تسوق عبر الإنترنت

266 ساعة مشاهدة على خدمة نتفليكس الرقمية .​​

فهذه المداخل والأروقة المعرفية التي يشهدها العصر .. فبأي تحدي نعيش ..!

( 5 )

بعد أن أُعطيت الحرية الواسعة لشركات صناعة وتطوير مكونات العالم الرقمي ، من اجهزة حاسوبية واجهزة ذكية ، الثابتة والمحمولة ، ونظم وشبكات وبرامج اتصالات ، وما تضمنته من تخزين ومعالجة وتدفق عالي للمعلومات .. الى الدرجة التي تعملقت بها هذه الشركات المصنّعة والمشغلة والمطورة لهذا العالم الرقمي تقنياً ومالياً وحتى سياسياً ومجتمعيا .. في قبال ضعف الرقابة الرسمية أو شبه الرسمية عليها .. أدى ذلك الى استغلال تلك التقنيات بهجمات وحروب الكترونية دولية موجهة وغير مرئية ، بحيث أصبحت تهدد الأمن القومي والسلم الأهلي للدول ، تستطيع اختراق الملفات الحساسة والخطرة للحكومات والشخصيات .. الخ ، وقادرة على قرصنة وابتزاز بنوك مالية ومؤسسات حيوية وانظمة عسكرية .. مما دعى المجتمع الدولي الى التفكير اضطراراً وبشكل جدي الى ما يسمى بالأمن السيبراني Cybersecurity .

والأمن السيبراني هو نوع من أنواع أمن المعلومات الحاسوبية ، يهدف الى حماية الأنظمة وتحصين الشبكات والبرامج من الهجمات الرقمية ، كسرقة المحتويات او افسادها والعبث بها ..

وهذا الأمر يبين لنا حجم الخطورة الكامنة في العالم الرقمي الى المستوى الذي أصبح فيه عامل قلق ورعب لأمن دول كبرى لها أنظمتها ومؤسساتها القوية والرصينة ، وبنفس الوقت يدعو الحركات الرسالية الإسلامية الى الحذر من جهة والتهيؤ لهكذا نوع من ساحات عمل ومواجهة .. !

لا أتكلم هنا عن خيال علمي ، ولا عن واقع افتراضي ، بل نحن الان نعيش اجواء هكذا هجمات ، مشكلة الانتخابات الاخيرة في العراق ان الاحزاب الاسلامية اتهمتها بأنها تعرضت الى هجمة الكترونية تلاعبت بالنتائج لطرف دون اخر وحاولت تغيير شكل الخارطة السياسية في العراق ، وقبل فترة رأينا في الإعلام كيف تعرضت محطات الوقود في ايران الى هجوم سيبراني .. ! وتعود إحدى أبرز الهجمات الإلكترونية التي أصابت إيران إلى سبتمبر 2010 ، حين ضرب فيروس "ستاكسنت" منشآت مرتبطة ببرنامجها النووي ، ما أدى إلى سلسلة أعطال في أجهزة الطرد المركزي لتخصيب اليورانيوم .

العمل أمام المسلمين كبير وساحات العمل واسعة ونوع المواجهة دقيق والتحديات جمّة ، وهي معركة وجود ، فأما أن نكون أو .. !!

( ٦ )

ولكي لا نبخس الناس اشيائهم ، لا بد من القول أن الجهات الإسلامية بكافة انتماءاتها وتنوعاتها واهتماماتها بادرت وبشكل مبكر الى الولوج في العالم الرقمي والتفاعل مع الثورة التكنولوجية والمعلوماتية منذ انتشارها ، فالمواقع والمنصات الالكترونية الاسلامية كثيرة ، والمكتبات الرقمية استوعبت كل نتاج الثقافة الاسلامية المدوّنة والمؤرشفة والمسجلّة تقريباً ، وأصبحت لكل نسخة اسلامية ( مرئية ومسموعة ومكتوبة .. ) في العالم الواقعي نسخة الكترونية في العالم الافتراضي .. الا ما ندر .

ولكن هذا الأمر كان مقبولاً نسبياً عندما كان سكان ومرتادو العالم الرقمي يقتصر على المؤسسات والمثقفين ومن لديهم قدرة على استعمال التكنلوجيا الرقمية ، وعندما كان أكثر سكان العالم لم تصلهم اجهزة وانظمة وشبكات وتطبيقات العالم الرقمي .. وأما بعد الانتشار العارم للاجهزة الذكية والشبكات الرقمية والبرامج التشغيلية ومواقع التواصل الاجتماعي التي أصبح ينتمي لها أكثر من نصف سكان العالم وبمهارة استعمال عالية ، بحيث أصبح كل فرد عبارة عن موقع الكتروني مستقل وله أصبع في أكثر وأهم المنافذ الالكترونية التي قد تصل الى ملايين البشر بضغطة زر واحدة ..!!

هنا برز التحدي الأكبر ، مواجهة هذا التيار الهائج بما يتضمن من محتوى خطير وموجّه ومغلوط ومسيء .. الخ ، وهنا تطلّب الى إحداث تعبئة ينهض بها المجتمع المسلم ، واحتجنا الى تحشيد اسلامي بشري ، وعدم الاقتصار والاتكال على المؤسسات الاسلامية والحركات الرسالية والشخصيات المهتمّة فقط ..!!

فكما أن العدّة مطلوبة ، وتتمثل هنا بالتسلح الرقمي ، ونقصد به : أن تكون لكل فرد منا قنوات ومواقع رقمية متنوعة ومتعددة بتنوع اجهزتها وتطبيقاتها مع القدرة على استثمارها وادارتها .. كذلك فإن العدد مطلوب ، سواء كان عدد المستخدمين او تعدد الاستخدامات ، فأحدنا يستطيع أن يقوم بما يقوم به عشرة أشخاص وأكثر .. وهذا ما يعمل به الآخر ، فكل ناشط الكتروني لديهم قد يدير عشرات الصفحات والقنوات والمواقع على الانترنت في آن واحد ..!! فضلاً عن مشاركة الآخرين في مواقعهم ومجموعاتهم وصفحاتهم ..

فقد أعلنت وزيرة الدفاع الألمانية أورسولا فون دير لاين يوم 6 أبريل/نيسان 2017 عن تكوين جيش إلكتروني كوحدة مستقلة داخل الجيش الألماني إلى جانب القوات البرية والبحرية والجوية ، حيث يمارس مهام دفاعية وهجومية على شبكة الإنترنت . وقالت الوزيرة إن عمل الجيش الإلكتروني لن يقتصر على صد هجمات القرصنة ، بل سيرد عليها أيضا في ساحة المعركة ، وهي الإنترنت . وأضافت " في حال تعرض شبكات الجيش الألماني للهجوم فمن حقنا أيضا أن نرد" .

فالتحدي نوعي وكمّي اذن ، ونحتاج الى مشاركة جماهيرية واسعة وواعية لنغطي ولو جزءاً معيناً من خط المواجهة العريض والمحتدم ..

( 7 )

هل يمكن إنشاء مدينة رقمية فاضلة .. ؟

المدن الفاضلة والصالحة ، والدول والجمهوريات الكريمة .. قد حلم بها ، وأسس بعض قواعدها ، وعمل لها الانبياء والاولياء وكثير من الفلاسفة والمصلحون ، بغض النظر عن طبيعة وشكل هذه المدينة وتلك الدولة وسبل الوصول إليها .. !

ونحن نعيش في ظلّ هذه التحوّلات الكبيرة والمتسارعة للعالم الرقمي والذي كما قلنا قد غيّر وجه الحياة وطريقة عيش البشرية ، فهل هذا العالَم الجديد يصبّ في صالح تلك المدن والدول الفاضلة والكريمة ، أم العكس هو الصحيح وأنه قد انقضّ على تلك الأعمال وقضى على تلك الآمال ..؟

دعوني أتناول هذا السؤال من حيثية الدولة المهدوية الموعودة ، لأنها من ثقافتنا ومعتقداتنا والأقرب لأفهامنا ، ولأنها واجب ملقى على عواتقنا بالتالي ..

فلو تصفحنا الأخبار والنصوص التاريخية والشرعية التي اهتمت بهذه الدولة الكريمة ووصفت الكثير من جوانبها وجوانب إرهاصات وجودها ، لرأينا بل قطعنا أن هذا العالم الرقمي جاء أصلاً لخدمة هذه القضية الإلهية المباركة .. !! ولنبرهن على ذلك بنقطتين :

أولاً : قرّب فهمها وصورتها الى الأذهان كثيراً ، فبعض النصوص الواردة كانت تفسر على أنها نصوص رمزية او اعجازية قبل هذه الثورة التكنولوجية والمعلوماتية الكبيرة ، بينما الآن أصبحت نصوصاً لها معان مطابقية وموضوعية ومعتادة أصلا .. فهو يخدم التطور والتقدم العالي الذي نقرأه عن دولة العدل الإلهي في مجالات العلم والأمن والطب والاقتصاد والرفاهية التي سيكون عليها مواطن الدولة الموعودة .. الخ .

ثانياً : الكثير من المتبنيات النظرية للقضية المهدوية وأسسها الفكرية وبعد أن كانت ضرباً من عالم المثال والخيال ، باتت نظريات ومعاهدات ومَطالب وضرورات عالمية ، بل يجري الآن العمل وفق بعضها ومحاولة تطبيع الحياة على اساسها ، فوصف العالم بالقرية الصغيرة بعد ثورة الاتصالات الرقمية التي حصلت هو عين فكرة الدولة العالمية الموحدة ..

ومن أراد استقصاء ومقارنة ومطابقة الخدمات الجليلة التي يمكن أن يقدمها هذا العالم الجديد - وهو في تطور - للدولة المهدوية بحسب وصفها ومعالمها الواصلة إلينا لخرج بنتائج وأشكال كثيرة تؤيد ذلك .

ولكن هذا لا يعني أننا نكتفي بأنّ حلمنا بات قريباً ونعيش حالة الانتظار السلبي ، فما دامت هذه التكنولوجيا تستطيع أن تحقق او تشارك هدف السماء على الأرض فهذا الأمر يحتم علينا العمل على نماذج لمدن رقمية فاضلة ودول صالحة وفق هذا العالم الرقمي الجديد ، لأن ما لا يُدرك كلّه لا يُترك بعضه .

ويحتّم علينا واجب آخر ، هو التهيؤ للظهور الميمون من خلال التسلّح بهذه التقنيات الجديدة ولغة العالم الرقمية الحديثة ، فمن يريد أن يشارك بالدولة الكريمة عليه أن يجيد العمل بها .. فتأمل .




  • المصدر : http://www.kitabat.info/subject.php?id=161823
  • تاريخ إضافة الموضوع : 2021 / 11 / 11
  • تاريخ الطباعة : 2024 / 03 / 28