جاءت كلمة قضاء في ميزان القرآن الكريم بصيغ فعلية ثلاثة في الماضي "وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ" (البقرة 210)، و الحاضر او المضارع "إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ" (يونس 93)، و الامر "ثُمَّ لَا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلَا تُنْظِرُونِ" (يونس 71)، و "فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ" (طه 72). وفي اللغة هنالك فعلا مبنيا للمجهول "ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضَىٰ أَجَلٌ مُسَمًّى" (الانعام 60) واخر للمعلوم "وَإِذَا قَضَىٰ أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ" (البقرة 117). وجاءت مشتقات كلمة القضاء في صيغة اسم فاعل "يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ" (الحاقة 27)، وصيغة اسم المفعول "وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَىٰ رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا" (مريم 71). والقضاء الصادر من اللّٰه تعالى كما في قوله سبحانه "سُبْحَانَهُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ" (مريم 35)، و "وَاللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ" (غافر 20)، و "فَإِذَا جَاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ" (يونس 47)، و "فَإِذَا جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ قُضِيَ بِالْحَقِّ" (غافر 78)، و "وَلَكِنْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا" (الأنفال 42). و قضاء وامر وقدر الله نافذ "إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ" (يس 82)، و "يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ" (النور 45)، و "اإِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ" (الحج 14).
يطلق القدر في ميزان القرآن الكريم على معاني مختلفة منها التضييق (وأما إذا ما ابتلاه فقدر عليه رزقه فيقول ربي أهانن) (سورة الفجر 16). و التعظيم (وما قدروا الله حق قدره) (سورة الأنعام 91). التدبر (فقدرنا فنعم القادرون ويل يومئذ للمكذبين) (المرسلات 23). و تحديد المقدار او الزمان أو المكان (وقدرنا فيها السير سيروا فيها ليالي وأياما آمين) (سبإ 18). والإرادة: قال تعالى (وفجرنا الأرض عيونا فالتقى الماء على أمر قد قدر) (القمر 12). و القضاء والأحكام (نحن قدرنا بينكم الموت وما نحن بمسبوقين) (الواقعة 60). و الصنع بمقادير معينة (قوارير من فضة قدروها تقديرا) (الانسان 16).
يقول الامام الرضا عليه السلام: القدر هو الهندسة ووضع الحدود من البقاء والفناء، والقضاء هو الإبرام وإقامة العين. وعنه عليه السلام: قال الله تبارك وتعالى: يا ابن آدم بمشيئتي كنتَ أنت الذي تشاء لنفسك ما تشاءُ، وبقوَّتي أدَّيتَ إليَّ فرائضي، وبنعمتي قويتَ على معصيتي، جعلتُك سميعاً بصيراً قويّاً، ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيّئة فمن نفسك. قال الله تعالى "مَّا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّه وَمَا أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ" (النساء 69). ويقول الامام علي بن موسى الرضا عليه السلام: إنّ الله عز وجل لم يُطَعْ باكراه، ولم يُعصَ بغلبة، ولم يُهمل العباد في مُلكه، هو المالك لما ملّكهم والقادرُ على ما أقدرهم عليه، فإن ائتمر العبادُ بطاعته لم يكن الله منها صادّاً، ولا منها مانعاً، وإن ائتمروا بمعصيته فشاءَ أنْ يحول بينهم وبين ذلك فعل، وإنْ لم يَحُلْ وفعلوه فليس هو الذي أدخلهم فيه يعني أنّ الإنسان الذي أطاع الله لم يكن مجبراً على الطاعة، والإنسان الذي عصاه لم يغلب مشيئة الله، بل الله شاء أن يكون العبد مختاراً في فعله.
ولا يتصور الإنسان ان القضاء والقدر عندما نضعه في ميزان القرآن الكريم والسنة المفسرة للقرآن يعني ترك الأمر بدون معالجة حيث لكل سبب مسبب، كون الله سبحانه طلب من عبده ان يتفكر ويستخدم عقله، فالمريض مثلا عليه ان يذهب لمن يعالجه. فقد سأل كعب بن مالك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: أرأيت دواء يتداوى به هل يرد قدر الله؟ فقال صلى الله عليه واله وسلم ياكعب: بل هو من قدر الله. وهكذا على الطالب الدراسة، والجندي يتطلب ان يزود نفسه بالقوة. فالإنسان حر في عمله والحصاد هو نتيجة العمل "فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ مَآبًا" (النبأ 39)، و "إِلَّا مَنْ شَاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا" (الفرقان 57)، و "اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ" (فصلت 40)، و "وَقُلِ ٱعْمَلُواْ فَسَيَرَى ٱللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُۥ وَٱلْمُؤْمِنُونَ" (التوبة 105). العقل هو قضاء الله وقدره منحه للإنسان للتفكر والتدبر. ذكرت عشرات الآيات التي تؤكد على استخدام العقل "أَفَلَا تَعْقِلُونَ" (البقرة 44) (البقرة 76) (ال عمران 65) (الأنعام 32) (الأعراف 169) (يونس 16) (هود 51) (يوسف 109) (الانبياء 10) (الانبياء 67) (المؤمنون 80) (القصص 60) (يس 68). فعندما ينتشر الجهل وعدم التفكر في أقوام فإن معظم الناس لا تستخدم العقول مثل "وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ" (البقرة 164) حيث ايات او براهين علمية لا يستخدمون عقولهم للتفكر بها ومنها أيضا ما ورد في (الرعد 4)، و (النحل 12)، و (الروم 28)، و (الجاثية 5).
ومن المفسرين عندما يضع القضاء والقدر في ميزان القرآن الكريم من يجعل الكتاب المبين حاو على القضاء والقدر او له علاقة بهما كما جاء في قوله تعالى "أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ" (الحج 70)، و "وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ" (الانعام 59)، و "وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَلَا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ" (يونس 61)، و "وَمَا مِنْ غَائِبَةٍ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ" (النمل 75)، و "عَالِمِ الْغَيْبِ لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَلَا أَصْغَرُ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرُ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ" (سبأ 3). فالكتاب والعلم بالغيب هي من مقادير الله تعالى وحده لا شريك له وتحت علمه. ومن علم الله ما يجري من مصائب كما قال سبحانه "مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ * لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ" (الحديد 22-23)، و "مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ" (التغابن 11). ومنها مصيبة الموت "وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُؤَجَّلًا" (ال عمران 145).
ورد عن الإمام جعفر بن محمد الصادق عليه السلام: إنّ الناس في القَدَرِ على ثلاثة أوجه: رجلٌ يزعمُ أنّ الله عز وجل أجبر الناس على المعاصي، فهذا قد ظلم الله في حُكمه فهو كافر. ورجلٌ يزعمُ أنّ الأمر مفوّضٌ إليهم، فهذا قد أوهن الله في سلطانه فهو كافر. ورجل يزعمُ أنّ الله كلّف العباد ما يطيقون ولم يكلِّفهم ما لا يُطيقون وإذا أحسن حمد الله وإذا أساء استغفر الله فهذا مسلمٌ بالغ.
هنالك القضاء والقدر العلميّان وهو تحديد كل شئ في علمه سبحانه الأزلي قبل إيجاده، فهو تعالى يعلم كل شئ ومقداره. والمراد من القضاء العلمي هو علمه سبحانه بضرورة وجود الأشياء وإبرامها عند تحقق جميع ما يتوقّف عليه وجودها من الأسباب والشرائط ورفع الموانع. فعلمه السابق بحدود الأشياء و وجودها هو قدر وقضاء علميّان كما وزنهما القرآن الكريم و كما قال سبحانه "وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتاباً مُؤَجَّلًا" (ال عمران 145). وقال أيضاً "قُلْ لَنْ يُصِيبَنا إِلَّا ما كَتَبَ اللَّهُ لَنا هُوَ مَوْلانا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ" (التوبة 51). وقال سبحانه "وَما يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِى كِتابٍ إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ" (فاطر 27). وقال تعالى "ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِى الأَرْضِ وَلا فِى أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِى كِتابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها" (الحديد 22).
اما القضاء والقدر العينيان في ميزان القرآن الكريم والسنة هما ضرورة وجود الشيء عند وجود علّته الخارجية. بينما التقدير والقضاء العلميان مقدّمان على وجود الشيء. قال الله عز وجل "الّذى خَلَقَ فَسَوّى* وَالَّذى قَدَّرَ فَهَدى" (الاعلى 2-3) أيهدى ما خلقه إلى ما قدّر له. ان الحوادث في وجودها وتحقّقها منتهية إلى الله سبحانه ما لم تتمّ الشرائط الموجبة لوجودها، فإنّها تبقى على حال الوقوع واللاوقوع، فإذا تمَّت شرائطها، كان ذلك من اللّه قضاءً لها. يقول الإمام الصادق عليه السلام (القضاء والقدر خلقان من خلق اللّه، واللّه يزيد في الخلق ما يشاء). أنّ المؤمن لا يكون مؤمناً إلّ ابالإيمان به وهو من شروط التوحيد في الخالقيّة. لذلك أسند الله سبحانه القضاء والقدر إلى نفسه حيث قال عز وجل "قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَىْءٍ قَدْراً" (الطلاق 3)، و "وَ إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ" (البقرة 117)، و "فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ فِى يَوْمَيْنِ" (فصلت 12)، و "إِنَّا كُلَّ شَىْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ" (القمر 49)، و "وَ إِنْ مِنْ شَىْءٍ إِلَّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ وَ ما نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ" (الحجر 21).
|