السيرة النبوية من اهم روافد الفكر الاسلامي واهمها فهي الوهج الذي يضيء طريق المؤمنين ففي كل مفصل من مفاصلها دروس وعبر متجددة عبر الازمان ومن  اريج السيرة غزوة بني المصطلق فهي وان كانت غزوة ذات ابعاد عسكرية ضيقة الا ان الاحداث التي زامنتها لعبت دورا هاما في محاولة خلخلة المجتمع الاسلامي والتي نستقرئ منها دلالات معرفية كثيرة من خلال معالجة الرسول ص الحكيمة لهذه الاحداث .

ولعل اول دلالات الغزوة تكمن في اسبابها حيث بلغ الرسول من سريته ان بني المصطلق { وهم بطن من خزاعة والمصطلق جدهم } يعدون العدة لغزو المدينة المنورة بعد نكسة المسلمين في أٌحد وقد اطمعهم انتصار قريش فيها(1) , وبنو المصطلق من حلف الاحابيش الذين حاربوا مع المشركين ضد المسلمين , فباغتهم النبي ص ودحرهم عند عين ماء من مياههم يدعى المريسيع {وهو الاسم الاخر للغزوة} في شعبان من عام 4هـ او 5 هـ او 6 هـ على اختلاف الروايات الا ان القول الراجح هو في 5 هـ (2) , وهنا تتبين اهمية التخطيط في القيادة وجمع المعلومات الدقيقة لتحركات العدو وسلاح المباغتة لإرباكهم سبب رئيس في تحقيق النصر . 

ولا يخفى تاثير الخلق العظيم للرسول ص في دخول بني المصطلق جميعا في الاسلام حتى كبيرهم الحارث بن ابي ضرار وزواج ابنته جويرية بنت الحارث من الرسول ص مع ما له من انعكاسات ايجابية على الواقع الاسلامي , الا ان يد النفاق امتدت لتفسد فرحة النصر حيث عمد عبد الله بن ابي بن سلول الى انتهاز الفرصة لايقاع الفتنة بين المهاجرين والانصار(3) وشق صفوفهم بالنقر على طبول العنصرية والتعصب القبلي , وهنا تجلت دلالات الحكمة النبوية في العفو عنه في ظرف حرج يحتاج اللين لا القوة لان عصبة المنافقين في الصفوف الداخلية للمسلمين وتمثلهم باسم الاسلام فوجب تشخيصهم واحتواء تاثيرهم التخريبي داخل البنية الاسلامية وفي الوقت ذاته عمل الرسول ص الى رأب الصدع ومحاربة النعرات الجاهلية .   
 ومن دلالات هذه الغزوة ايضا منهج الرسول ص في التعامل مع الشائعات وحلمه وتعقله في مواجهة حادثة الافك التي هزت المجتمع المسلم حتى نزلت ايات القران الكريم تبرئ عرض رسول الله من الدنس , كما نزلت ايات قرانية كشفت المنافقين واوضحت صفاتهم وتوجهاتهم مما اسهم بشكل كبير في تنقية الصف الاسلامي من النفاق وتحصينه بالكم والنوع لاعداده  للمراحل اللاحقة التي تحتاج الى رص الصفوف ورفع المعنويات -خاصة بعد نكسة المسلمين في احد- واستعادة القوة العسكرية اللازمة لمواجهة العدو الاكبر قريش وحلفائها من القبائل العربية واليهود . 
وغزوة بني المصطلق شانها شان السيرة العطرة حافلة بالعديد من الدروس والعبر التي لا نستطيع احصاؤها الا اننا نستطيع ان نجمع منها جواهرا من  الفكر المحمدي لنستضئ بها في عتمة دروبنا الحالكة . 

الهوامش
(1) الطبري، تاريخ الطبري، ج2، ص604.
(2) ابن كثير، البداية والنهاية، ج4، ص156.
(3) ابن هشام، السيرة النبوية، ج2، ص139.