• الموقع : كتابات في الميزان .
        • القسم الرئيسي : ثقافات .
              • القسم الفرعي : ثقافات .
                    • الموضوع : رائدا شعر الكدية: أبو الشمقمق وأبو فرعون الساسي  .
                          • الكاتب : كريم مرزة الاسدي .

رائدا شعر الكدية: أبو الشمقمق وأبو فرعون الساسي 

  شعراء الكدية تبلور مفهومهم في بدايات العصر العباسي بشكل جلي وواضح بعد أن كان لهم بعض السمات الأخلاقية فيما سبق من عصور الفساد الاقتصادي من فرض الجبايات بالقوة، واستيفاء الخراج بالتعسف من الطبقات المسحوقة من الفلاحين والكادحين لتصب في خزائن المتخمين.

 والتمايز الطبقي الرهيب بين طبقة الخلفاء والوزراء والقادة الكبار، إذ يتمتعون بكل ملذات الدنيا من جوارٍ وغلمان، وأشهى الأطعمة، وأجمل وأغلى الملبوسات وأفره المركوبات، وإلى جنبهم الطبقة الفقيرة الجائعة المعدومة المسحوقة التي لا تتوفر لديها حتى كسرة خبز ولا رقعة لبس.
 برز شعراء الكدية، إذ يطمحون بما وهبهم الله تعالى من ملكة الشعر أن يتسلقوا، أو حتى ينفذوا بجلودهم من آفة الفقر، ولعل رائدهم الأول أبو الشمقمق، وعاصره من بعده أبو فرعون الساسي، وتوالى بعدهما أبو دلف الخزرجي، أبو العبر، أبو المخفف، ابن سكرة، ابن الحجاج، وانضم إليهم كتاب عمالقة كبديع الزمان الهمداني وأبي حيّان التوحيدي، كان هؤلاء الشعراء والأدباء "يجوبون الساحات العامة والمساجد يستجدون الناس، وقد استعملوا لذلك الخطب البليغة والقصص المسلية والمواعظ والقصائد الشعرية يستدرون بها عطف الناس، نادبين بها حظوظهم، وشاكين سوء أوضاعهم". 
 الصعاليك وشعراء الكدية يجمع بينهم الفقر، وهما باتجاهين متضادين، الصعاليك لا يستجدون أحداً لخور عزيمة، ولا يمدّون يداً ذليلة، بل هم من ذؤبان العرب، يمتازون بشجاعتهم وجرأتهم وإقدامهم، وإنسانيتهم بمساعدة الفقراء المظلومين.  
ومواضيع شعرهم ليس كشعر الكدية بملاطفته وطرافته، وهزله حتى يصل إلى النثر المنظوم بلا صور مركبة ولا بسيطة، ولا إيحاءات، لين، ضعيف، سوقي، وأحياناً ملحون، وإنما شعر الصعاليك، يصف غارات شعرائه، وعدوهم وغزواتهم، وصداقتهم لحيواناتهم، وإنصافهم، واشتراكيتهم، شعر قوي، متين، في فائق من الوصف والبلاغة مما يجعله من أجود الشعر العربي إطلاقاً .
أبو الشمقمق وشعر كديته : 
شاعر ليس لديه ما يفقده بعد أن خسر كرامته، ولمّا تخلى عنه مجتمعه، فقرر أن يحفظ ماء وجهه، هذا مصيره، وتفلسف مع وجوده فطنة وضرورة، والجوع أبو الكفار، وتبعه على نهجه شعراء الكدية، ماذا تنتظر من شاعر قال ما قال كما أسلفنا؟ ونذكرك للتأمل والربط :
ولقد قلتُ حين أقفرَ بيتي *** من جراب الدقيقِ والفخارَه
فأرى الفأر قد تجنبن بيتي *** عائذاتٍ منه بدار الإماره 
جاء أبو الشمقمق إلى بشار يشكو إليه الضيقة، ويحلف له أنه ما عنده شيء فقال له بشار: والله ما عندي شيء يغنيك، ولكن قم معي إلى عقبة بن سلم، فقام معه فذكر له أبا الشمقمق وقال: هو شاعر وله شكر وثناء، فأمر له بخمسمائة درهم فقال له بشار :
 يا واحد العرب الذي *** أمسى وليس له نظير
 لو كان مثلك آخر ***ما كان في الدنيا فقير 
فأمر لبشار بألفي درهم فقال له أبو الشمقمق: نفعتنا ونفعناك يا أبا معاذ فجعل بشار يضحك.
 أبو الشمقمق يحزن فيتألم، يسخط فيتبرم، يشكو فينقم، يجوع فيستجدي، يعرى فيسترحم، يكرُّ فيَهزم، يفرُّ فيتفلسف، حيّر الدنيا فحارت به يذل نفسه وعياله حتى الاشمئزاز، كدية وليس مدحاً، ليس فيها من التعفف والكرامة وعزّة النفس أي لمحة:
يا أَيُّها المَلِكُ الَّذي جَمَعَ الجَلالَةَ وَالوَقـــاره
إِنّي رَأَيتُكَ في المَنام وَعَدَتني مِنكَ الزَيــاره
إِنَّ العِيالَ تَركتُهُم بِالعَصرِ خُبزُهُم العَصــاره
ضَجّوا فَقُلتُ تَصَبَّروا فَالنَجحُ يَقرنُ بِالصباره
حَتّى أَزورَ الهاشِمِيَّ أَخو الغَضارَةِ وَالنَضاره
وهذا لا يعني أن أبا الشمقمق حين يستجدي ويُرد، لا يهجو..!! بل يهجو من يقدر عليه من الكبار الصغار، سأل مرّة سعيد بن مسلم فمنعه، فرماه بالبخل والحرص وجمع الثروة حتى لو ملك البجار.    
ومن ذلك قول أبي الشمقمق الذي يهجو فيه سعيد بن مسلم وقد أتاه وسأله فمنعه، والذي يبرز فيه حرصه على المال، وبخله، مهما اغتنى ومهما جمع من الثروة، حتى أنه لو امتلك البحار كلها وقصده والده، وهو أحق الناس واجباً عليه، وطلب منه قليلاً من الماء ليتوضأ به لما أعطاه قطرة ماء واحدة ولنصحه أن يتيمم بالتراب :
هَيهاتَ تَضرِبُ في حَديدٍ بارِدٍ  إِن كَنتَ تَطمَعُ في نَوالِ سَعيدِ
وَاللَه لَو مَلَكَ البَحارَ بِأَسرِهــــا*** وَأَتاهُ مُسْلِمٌ في زَمانٍ مُدُودِ
يَبْغيهِ مِنها شَربَةً لِطَهُـــــورِهِ *** لأبى وَقالَ: تَيَمَّمنَ بَصَعيد
الحقيقة يذكر ابن المعتز وغيره عن تفشي ظاهرة كدية الشعراء، وبحرفية أمهر وأشنع بعد أن بذر بذرتها الأولى أبو الشمقمق، فإليك ابن المعتز و(طبقاته)، وأخبار أبي فرعون الساسي :
أتى أبو فرعون الساسي أبا كهمس التاجر فسأله، فأعطاه رغيفاً من الخبز الحواري كبيراً، فصار إلى حلقة بني عدي، فوقف عليهم وهم مجتمعون، فأخرج الرغيف من جرابه، وألقاه في وسط المجلس وقال: يا بني عدي استفحلوا هذا الرغيف، فإنه أنبل نِتاج على وجه الأرض، قالوا: وما ذاك؟ فأخبرهم، فاجتمعوا إلى أبي كهمس التاجر فقالوا: عرضتنا لأبي فرعون وقد مزقنا كل ممزق.
ومما يستملح له - وكان من أفصح الناس وأجودهم شعراً، وأكثرهم نادرة، ولكنه لا يصبر عن الكدية وهو القائل :
ليس إغلاقي لبابي أن لي  فيه ما أخشى عليه السرقا
إنما أغلقه كي لا يرى *** سوء حالي من يجوب الطرقا
منزلٌ أوطنه الفقر فلو *** دخل السارق فيه سُرقا
لا تراني كاذباً في وصفه *** لو تراه قلت لي: قد صدقا
يذكر عباس هاني الجراح في معرض جمعه وتحقيقه لديوان أبي فرعون الساسي أن اسمه (شو يس)، وهو عربي من عدي بن الرباب بن عبد مناة بن أد بن طابخه، وكنيته (أبو فرعون)، ويطلق عليه: شويس العدوي. أما لقبه (الساسي)، فقيل نسبة إلى قرية الساس، أسفل واسط.  
وأبو فرعون هذا "شيخ قصير، عظيم الهامة، كث اللحية"، عاش في البصرة في العصر العباسي، وكان بدوياً، إعرابيا، سائلاً، "لا يصبر عن الكدية". 
وهذا شاعر آخر من بيت الخلافة، ويستجدي بأسلوب آخر مميز :
كان الشاعر العباسي أبو العبر الهاشمي، وهو من أسرة الخلافة نفسها يستجدي بحماقته وتمثيله الساخر فصار ألعوبة بيد سيده المتوكل العباسي، وكان قد ظل خمسين عاماً يحيا حياة جادة الى ان ولي المتوكل فترك الجد وعدل الى الحمق والشهرة، ويقال انه لم يكن في عصره صناعة إلا وهو يعملها بيده حتى العجين والخبز، وفي بعض أحاديثه ما يدل على أنه كان ببغداد لعصره معلمون يعلمون الأحداث الهزل وأنه أخذ عن معلم منهم ما عرف به من قلب الكلام رقاعة... قال له: أتراني في قتلك مأثوم؟ فقال: بل ماء بصل، فضحك المتوكل، ويقال انه أخذ منه أكثر مما أخذه أي شاعر بالجد.




  • المصدر : http://www.kitabat.info/subject.php?id=168311
  • تاريخ إضافة الموضوع : 2022 / 05 / 10
  • تاريخ الطباعة : 2024 / 04 / 19