• الموقع : كتابات في الميزان .
        • القسم الرئيسي : المقالات .
              • القسم الفرعي : المقالات .
                    • الموضوع : لا سَهَرَ.. أيُّها المؤمنون! .
                          • الكاتب : شعيب العاملي .

لا سَهَرَ.. أيُّها المؤمنون!

بسم الله الرحمن الرحيم
 
إنَّ سَهَرَ اللَّيل، كُلّهُ أو بعضه، عادةٌ انتَشَرَت بقوَّة في السنوات الأخيرة، سيَّما بين الشباب، بعدما تَغَيَّرَت طبيعةُ الحياة بشكلٍ مُتَسَارِع، وتَبَدَّلَت أنماط العَيش، مع تَوَفُّر سُبُلٍ تكفَلُ هذا التغيير.
 
وبعد أن كان السَّهَرُ سِلعَةً نادرةً، وكان الإنسان يقومُ نهارَهُ وينامُ ليلَه غالباً، صارَ السَّهَرُ أيسَر وأسهل من ذي قبل، وصارت المُرَغِّباتُ له كثيرةً، سيَّما وسائل التسلية، بشتى صُوَرِها وأنماطها المتكثِّرة.
 
فهل هذه الحالةُ سليمةٌ نافعةٌ صحيَّة؟ أم ليست كذلك؟
وهل للشريعة موقفٌ من هذه الظاهرة؟ أم أنها لَم تُرشد إلى شيء معيَّن وتركت الأمر لاختيار العباد؟
 
اللَّيلُ سَكَن
 
إنَّ اللّيلَ خَلقٌ مِن خَلق الله، وقد قال تعالى: (هُوَ الَّذي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَر)، وهو تعالى لا يخلُقُ عَبَثاً، ولَهُ حِكمةٌ في كلِّ فِعاله عزَّ وجلَّ.
 
وقد ذَكَرَ الله تعالى الليل في كتابه مراراً فقال تعالى: (وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَناً) (جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فيهِ) (جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِباساً وَالنَّوْمَ سُباتاً).
 
وأوضح السجّادُ عليه السلام بعضَ ذلك فقال في صحيفته المباركة:
(خَلَقَ لَهُمُ اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ مِنْ حَرَكَاتِ التَّعَبِ وَنَهَضَاتِ النَّصَبِ، وَجَعَلَهُ لِبَاساً لِيَلْبَسُوا مِنْ رَاحَتِهِ وَمَنَامِهِ، فَيَكُونَ ذَلِكَ لَهُمْ جَمَاماً وَقُوَّةً، وَلِيَنَالُوا بِهِ لَذَّةً وَشَهْوَة).
 
لذا يعتقدُ المؤمنُ أنَّ للّيل دوره الخاص، وأنَّ له ما يُناسبُه من أعمالٍ كما النَّهار، وأنَّ الخَلطَ بينهما له مَردودٌ عكسيٌّ، فإذا كانت الراحة ليلاً كما النّومُ سبباً للقوّة في النهار، صارَ في انقلاب الصورة خسارة لقوَّةٍ يحتاجُها الإنسان في نَهاره ليتقوى بها على أمور دنياه وآخرته.
 
مِن ثمَّ جاء الخِطابُ عن النبيِّ صلى الله عليه وآله صريحاً في عدم رجحان السَّهَر إلا في حالات خاصة، فقال صلى الله عليه وآله:
 
لَا سَهَرَ إِلَّا فِي ثَلَاثٍ: مُتَهَجِّدٍ بِالقُرْآنِ، أَوْ فِي طَلَبِ العِلْمِ، أَوْ عَرُوسٍ تُهْدَى إِلَى زَوْجِهَا (الخصال ج‏1 ص112).
 
فالأصلُ هو عَدَمُ السَّهَر، إلا أن يكون هناك أمرٌ راجحٌ يُبَدِّلُ المعادلة، وقد ذُكِرَت في النصوص أمورٌ سوى الثلاثة المتقدِّمة منها:
 
- الدَّعوة إلى الله تعالى، كما قال نوح عليه السلام: (قالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمي‏ لَيْلاً وَنَهاراً) (نوح5).
 
- عبادة الله تعالى، كالسجود والتسبيح (وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلاً طَويلاً) (الإنسان26)، والتهجُّد بالنوافل (وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نافِلَةً لَكَ عَسى‏ أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً) (الإسراء79)، والصلاة في الليل: (إِنَّ الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى يُحِبُّ.. السَّاهِرَ بِالصَّلَاةِ) (الفقيه ج1 ص474).
 
ولعلَّ الجامعَ بين كلِّ ما تقدَّمَ هو ما كان راجحاً عند الله تعالى، وذلك بكونه في سبيله تعالى، وطاعته وذكره، والدعوة له عزَّ وجل، لذا ورد في الحديث:
كُلُّ عَيْنٍ بَاكِيَةٌ يَوْمَ القِيَامَةِ إِلَّا.. عَيْنٌ بَاتَتْ سَاهِرَةً فِي سَبِيلِ الله (ثواب الأعمال ص177).
وعنهم عليهم السلام: طُوبَى لِعَيْنٍ هَجَرَتْ فِي طَاعَةِ الله غَمْضَهَا (عيون الحكم ص313)‏.
 
بل صار ذلك أفضل العبادة كما ورد في الحديث:
أَفْضَلُ الْعِبَادَةِ سَهَرُ الْعُيُونِ بِذِكْرِ الله (عيون الحكم ص112)‏.
 
الإمام الباقر.. والقاعدة الذهبية
 
لكن.. لمّا كانَ الإنسانُ غيرَ قادِرٍ على إحياء أكثر الليل ثمَّ القيام بواجبه نهاراً، كما كان يفعلُ الأئمة الأطهار عليهم السلام.
ولمّا كانت (كَثْرَة النَّوْمِ بِاللَّيْلِ تَدَعُ الرَّجُلَ فَقِيراً يَوْمَ الْقِيَامَة) (الفقيه ج3 ص556).
 
صارَ لزاماً على المؤمن أن يبحث عن أنجح الأساليب لتنظيم وقته، والفرار من ضعف الدُّنيا وفَقر الآخرة، فوَجَدَ بُغيَتَهُ في قاعدةٍ ذهبيَّة بيَّنها الإمامُ الباقر عليه السلام حين قال:
 
شِيعتنا يَنَامُونَ فِي أَوَّلِ اللَّيْلِ، فَإِذَا ذَهَبَ ثُلُثَا اللَّيْلِ أَوْ مَا شَاءَ الله، فَزِعُوا إِلَى رَبِّهِمْ رَاغِبِينَ رَاهِبِينَ طَامِعِينَ فِيمَا عِنْدَه (الفقيه ج1 ص482).‏
 
لقد صارَ النَّومُ المُبكرُ من علامات الشيعة، تَبَعاً لأئمتهم عليهم السلام، فهم أهل الآية المباركة (تَتَجافى‏ جُنُوبُهُمْ عَنِ المَضاجِعِ)، وهُم الذين ينامون أوَّلَ الليل بقَدرِ حاجَتهم، ثمَّ يقومون إلى عبادة الله تعالى، فيكسوهُم من نوره، ويرفع قَدرَهم في الدُّنيا والآخرة.
 
يُستثنى عندَهُم مِن ذلك السَّهَرُ في سبيل الله تعالى ولو من أوَّل الليل، كإحياء مجالس الحسين عليه السلام في محرَّمٍ وصفَر وليالي الجمعة وسائر الأوقات، سيَّما عندما ينحصر الإحياء بأول الليل أو وسطه.
 
ومثلُها في الرجحان مجالسُ طلب العِلم، خصوصاً لمن لا يقدرُ مِن عامة الناس على تعلُّم أحكام دينه إلا في الليل.
وهكذا ما يترجَّح الإقدام عليه ليلاً ويكون فيه مرضاة الله تعالى.
 
إنَّ المؤمن يسعى جهدَهُ لينام أوَّلَ الليل قدرَ استطاعته، وهو يبذلُ اليومَ لذلك جُهداً مضاعفاً، فيوفَّقُ تارةً ويعجزُ أخرى.. لكنه يستمرُّ في سعيه حثيثاً، لأنَّه يعلم أنّ في ذلك صلاح دنياه وآخرته.
 
بل إنَّه يعتقد أنَّ في الاعتياد على السَّهَر من أوَّل الليل خسائر كثيرةٌ لا يطيق احتمالها، وغالباً ما يقع فيها مَن يسهر أوَّل الليل، ومنها ثلاثُ خصالٍ عظيمة يصعب نيلها مع السهر هي:
 
الأولى: إحياء آخر الليل
 
إنَّ لإحياء آخر الليل، سيَّما صلاة الليل، أثرٌ عظيمٌ في حياة الإنسان وآخرته.
فهي تضمنُ قوتَ النَّهار: وَتُدِرُّ الرِّزْقَ، وَتَقْضِي الدَّيْنَ، وفيها مَصَحَّةُ البَدَن، وَمَطْرَدَةُ الدَّاءِ عَنْ أَجْسَادِكُمْ، وهي: تُحَسِّنُ الْوَجْهَ، حيثُ يكسو الله تعالى عبادَه من نوره، وَتَذْهَبُ بِالْهَمِّ، وَتَجْلُو الْبَصَرَ.
 
ومَن قامَ فيها قامَ منتصراً على عدوُّه، ومَن نامَ فيها كان الشيطانُ قَد حبسَهُ عنها، وقامَ بعدَ ذلك (ثَقِيلًا وَكَسْلَانَ)، بعد أن يبول الشيطان في أذنه!
 
هي (شرف المؤمن)، و(زينة الآخرة)، ورضا الربّ، وهي تذهب بما عمل العبدُ في النهار، وهي أحبُّ إلى رسول الله من الدُّنيا وما فيها.
 
وكلُّ واحدةٍ مِن هذه الثِّمار وغيرِها تستحقُّ أن تبذَلَ لأجلها الأعمار، وأن يبذل المؤمن لأجلها الغالي والنَّفيس، ليقوم في آخر الليل قَدرَ وسعه.
 
الثانية: القيام بين الطلوعين
 
خسارةٌ أخرى لا تقلُّ عن الأولى، كثيراً ما يقعُ فيها مَن اعتاد السَّهَرَ من أوَّل الليل، وهو النَّومُ في ساعةٍ من ساعات الجنَّة! وهي الساعة التي تقع بين صلاة الفجر وشروق الشمس.
 
فقد سأل أحد كبار علماء النصارى الإمام الباقر عليه السلام عن ساعة ليست من ساعات الليل ولا من ساعات النهار، فكانت الساعة التي (مَا بَيْنَ طُلُوعِ الفَجْرِ إِلَى طُلُوعِ الشَّمْسِ)، ثمَّ قال الإمام عليه السلام أنَّها: مِنْ سَاعَاتِ الجَنَّةِ، وَفِيهَا تُفِيقُ مَرْضَانَا (الكافي ج8 ص123).
 
إنَّ لهذه الساعة آثاراً عجيبة، ولسنا نرومُ البحثَ في تفسير كونها من ساعات الجنَّة مع كثرة ما قيل في ذلك، لكن يكفينا أنَّ الثواب فيها مُضاعفُ عمّا سواها، فإنَّ العبادة فيها تشهدُها ملائكة الليل وملائكة النهار بخلاف سائر الأوقات، ويثبت العبادة كلاهما للمصلي فيها.
 
ومِن آثارها في الدُّنيا شفاء المرضى (وَفِيهَا تُفِيقُ مَرْضَانَا)، ونزول الرزق، فإنَّ مِنَ الرزق فضلٌ يقسمه الله تعالى في هذه الساعة، فمَن نامَ عنها نامَ عن رزقه، بل إنَّ النوم فيها: شُؤْمٌ يَحْرِمُ الرِّزْقَ، وإنَّ ذِكرَ الله تعالى فيها: أَبْلَغُ فِي طَلَبِ الرِّزْقِ مِنَ الضَّرْبِ فِي الْأَرْض، ومِن (رُكُوبِ الْبَحْرِ).
 
وهي نومةٌ: تُصَفِّرُ اللَّوْنَ وَتُقَبِّحُهُ وَتُغَيِّرُهُ!
وإنَّ الأرض تعجُّ إلى ربِّها من: النَّوْمِ عَلَيْهَا قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ!
 
فما حالُ مَن نام عن الساعة الأولى: آخر الليل، والساعة الثانية: بين الطلوعين، فخسِرَ الوقت الذي تُفتح فيه أبواب السماء، وتقسم فيه الأرزاق، (وَتُقْضَى فِيهَا الحَوَائِجُ العِظَامُ)؟
 
الثالثة: البكور في الطلب
 
لقد سأل النبيُّ صلى الله عليه وآله ربَّه أن يبارك لهذه الأمَّةِ في بكورها، وأحبَّ صلى الله عليه وآله أن يُبكِرَ طالبُ الحاجة في طَلَبِها، لكنَّ مَن اعتاد السَّهَرَ لَا يُوفَّق لذلك غالباً، فتكون خسارته مضاعفة، بحيث يُسلب البركة والتوفيق في حوائجه.
 
إنَّ مِن أكثر الناس خسارةً مَن لَم يوفَّق للقيام في هذه الساعات الثلاث، فسُلِبَ البركة، وكان ما يقابلُ ذلك بعضُ السَّهَر في أول الليل، سيَّما في فضول الكلام أو اللهو واللعب والتسلية!
 
هي خسارةٌ على كلِّ المستويات، أي أنّها ليست أكملَ من جهة الجدوى الاقتصادية ولا أنفع، وليست أسلم من الجهة الطبية والجسدية ولا أصحّ، وليست أرفعَ من الجنبة الأخروية ولا أسمى.
 
وأمامَ ناظِرَي العبدِ أثرٌ عاجلٌ يراه: ضَعفٌ في القدرة البدنية، وأمراضٌ تفتك بالجسم الضعيف، ووجهٌ أصفرُ مشؤوم، ورِزقٌ محروم.
 
هذه الساعات من أشد ساعات الصراع بين بني آدم وعدوُّهم الخفيّ، الشيطان اللَّعين، ومِن أعدى أعدائها السَّهَر.. وهو مِن أقوى أسلحته فيها، لذا حاولت الشريعة تنظيم الأمر للعباد، فأرشدتهم إلى آثار ذلك، وإلى ما فيه صلاح دنياهم وأخراهم.
 
فإذا انقلبت الموازين، وصار الأصل هو قيام الليل، للترفيه والتسلية بغير ذكر الله تعالى، بخلاف ما كانت عليه صفات الشيعة..
ثم النوم في منتصف الليل أو آخره، وتفويت أفضل أوقاته قبيل الفجر، ثم تضييع ساعة الجنة، وخسارة البركة في البكور، كشفَ هذا عن خللٍ خطيرٍ تسلَّلَ إلينا غفلةً، واستحقَّ ذلك منّا دراسة الأمر من زاويةٍ جديدة، بناءً على حسابات المنطق والعقل والدين، لئلا نكون ممّن يستبدل الذي هو أدنى بالذي هو خير، ولئلا نكون من المتهاونين في صلواتنا، وفيما أمرنا الله به وأرشدنا إليه.
 
أعاننا الله وجميع الأحبة على إصلاح أمرنا هذا، في السَّهَر وسواه، فبغَير عَونه لا حولَ لنا ولا قوّة، إنَّه سميعٌ مجيب.
 
والحمد لله رب العالمين.
 
الأحد 16 ذو القعدة 1443 هـ الموافق 26 – 6 – 2022 م




  • المصدر : http://www.kitabat.info/subject.php?id=170040
  • تاريخ إضافة الموضوع : 2022 / 06 / 29
  • تاريخ الطباعة : 2024 / 03 / 28