• الموقع : كتابات في الميزان .
        • القسم الرئيسي : المقالات .
              • القسم الفرعي : المقالات .
                    • الموضوع : بناء المجتمع في دولة امير المؤمنين عليه السلام - الحلقة الثامنة .
                          • الكاتب : السيد عبد الستار الجابري .

بناء المجتمع في دولة امير المؤمنين عليه السلام - الحلقة الثامنة

 المطلب الاول: تأثير المنهج القرشي في المجتمع الاسلامي
تقدم ان الاسس الاسلامية التي بني عليها المجتمع كانت تتقوم بالعقيدة والشريعة والاخلاق الاسلامية، وهي تمثل البنية الفكرية للمجتمع المسلم، والقيادة المعصومة هي التي تشرف على التطبيق الصحيح للقيم الاسلامية للمجتمع الاسلامي، وان هاتان الركيزتان الاساسيتان تم التجاوز عليهما بعد رحيل النبي (صلى الله عليه واله) بحيث ادخلت تغييرات جوهرية على القيم والمبادئ الاسلامية التي تضمن الرقي بالفرد والمجتمتع لايصاله الى مستوى اعلى درجة من الممكن ان يصل اليها المجتمع المسلم والذي تدرج في ايام النبي (صلى الله عليه واله) ووصل الى درجات تتناسب مع وضع مجتمع المدينة المنورة في ذلك الوقت ابتداءً من المؤاخاة بين المهاجرين والانصار والتحول من عقلية القبيلة الى العقيدة الدينية ومن الزعامات القبلية الى الانضواء تحت راية رسول الله (صلى الله عليه واله) الذي كان هو المبلغ عن الله تعالى وهو القائد وهو الحاكم وهو الاولى من المؤمنين بانفسهم واموالهم، وتحول المجتمع من مجتمع اعراف وتقاليد قبلية الى مجتمع دستوري له دستور واحد وقائد واحد ونظام اداري واحد، واطرحت العداوات والاحن الجاهلية جانباً وحمل المهاجرون مع الانصار السيف للدفاع عن دين الله في بدر واحد والخندق ومؤتة وخيبر وذات الرقاع وحنين وغيرها من الغزوات التي قادها النبي (صلى الله عليه واله) او من يعينه اميراً على  السرية التي يبعثها لحماية حدود الدولة النبوية وبسط العدل ونفي الظلم.
اما بعد رحيل النبي (صلى الله عليه واله) فإن قريشاً قادت انقلاباً حضارياً على القيم الروحية التي جاء بها النبي (صلى الله عليه واله) واسست لمرحلة جديدة تم فيها تبديل الفقرات الدستورية في المنهج الالهي بما يتلائم مع مقتضيات هيمنتها على السلطة فغيرت في جملة من الاحكام والغت احكاماً اخر فلم يعد القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة المصدر الوحيد للتشريع وازيحت القيادة المعصومة عن الاشراف على التطبيق.
الا ان ذلك المجتمع النابض بالحياة والذي بث فيه رسول الله (صلى الله عليه واله) روح حياة  جديدة قدم لاجلها الانصار ابناءهم واموالهم، وضحى فيها المستضعفون من المهاجرين بكل ما لديهم لأجل اعلاء كلمة الله، لم يهنوا ولم يحزنوا ولم ينكفئوا، فاصطف من البداية ابو ذر وسلمان والمقداد وعمار بن ياسر (رضوان الله عليهم) مع نهج الرسالة النبوية فلم يعدلوا عن امير المؤمنين (عليه السلام) ولم يفارقوه، ولم يستبدلوا نهجه ابداً، ورويداً رويداً ثاب الانصار الى رشدهم بعد ان رأوا عظيم الخطأ الذي اوقعوا انفسهم فيه فعادوا شيئاً فشيئاً الى احضان القيم الالهية والدعوة النبوية والهدي العلوي.
واما المجتمع القرشي الحاكم فان السنن الاجتماعية جارية في ان مصالح الزعامات لا تبقى على الثبات بل تتغير مع الزمن خاصة مع وجود محور مدبر يتلاعب بمسير الاحداث، فان مجتمع السلطة القرشية كان محوره الحقيقي بنو امية الذين كانت الظروف لا تسمح بتصديهم للقيادة بعد النبي (صلى الله عليه واله) مباشرة لريبة الانصار منهم ولارضاء شركائهم من بطون قريش في العمل على ازاحة القيادة الالهية عن زعامة الامة.
ولذا لم يكن المتصدي لكسب اسلم ولا لاقناع الانصار الزعامات الاموية، بل كانت بطون قريش الاخرى هي من قامت بذلك لتكون نتائج سقيفة بني ساعدة خلافة ابي بكر بن ابي قحافة، الا ان القاء نظرة على سير الامور يكشف ان بني امية كانوا يخططون للبعيد حيث كان نصيبهم امارة الشام ذات الامكانيات المادية العالية والمتأثرة بالحضارة الرومية وان يلي الشام يزيد بن ابي سفيان ثم يخلفه عليها معاوية ليحكم الشام عشرين سنة اميراً ثم عشرين سنة امبراطوراً، وان المدبر الاساسي في التخطيط هم ال ابي سفيان ومعاوية منهم بالدرجة الاساس.
ومن الطبيعي ان لا ينتظر معاوية طويلاً فما ان استقرت الاوضاع في جزيرة العرب واليمن وانتقلت الحرب الى بلاد فارس والروم حتى توفي ابو بكر في ظرف غامض بل روي ان نديمه الخاص الحارث بن كلدة اليشكري خبير السموم اخبره انهما سقيا سماً ذا مفعول بطيئ يقتل في سنتين، ودفن الخليفة سراً وكتب وصيته في الخلافة سراً ولتغطية الجريمة رووا ان عقرباً لدغته في غار جبل ثور وكان رسول الله (صلى الله عليه واله) يضع عليها من ريقه فتهدأ ثم يعود تأثير السم بعد سنتين ونصف، فهاج السم بعد سنتين من وفاة النبي (صلى الله عليه واله) فمات ابو بكر متأثرا بسم العقرب الذي لدغه في غار جبل ثور، وهذه القصة شبيهة بقصة قتل الجن لسعد بن عبادة ايام عمر بن الخطاب، فكان ابو بكر هو البديل القرشي في الاشراف على تطبيق مفاهيم الشرعية في الوقت الذي اقصي امير المؤمنين (عليه السلام) تماماً عن ادارة شؤون الامة.
وبعد وفاة ابي بكر خرج عمر خليفة على المسلمين وهو يرفع كتاب ابي بكر بالوصية ويدعو الناس الى قبول ما فيه مدعياً انه لا يعرف ما في الكتاب فهتفوا له، وهو الذي رفض ان يكتب الرسول (صلى الله عليه واله) للامة كتاباً لا تضل من بعده ابداً واتهم النبي (صلى الله عليه واله) بالهجران وقال حسبنا كتاب الله، وكان القرار قرار قريش وما ذلك الا مسرحية للضحك على المجتمع ذي العقل الضحل، فاصبح عمر بعد ابي بكر المشرف على تطبيق شؤون الشريعة بدلاً من اهل بيت العصمة والطهارة وهو الذي يقول شغلنا عن رسول الله (صلى الله عليه واله) الصفق في الاسواق، فجاء عمر بكعب الاحبار ليكون المسؤول الاول عن بناء ثقافة الاجيال ومن ذلك العهد انتشرت ثقافة القصاصين في المساجد حتى قضى عليها الصليبيون بعد الحرب العالمية الاولى بنشرهم المدارس الحديثة، في ربوع العالم الاسلامي الذي كانت السمة الغالبة عليه هيمنة النهج القرشي في التثقيف والذي تسبب في انهيار العالم الاسلامي تحت سنابك خيل الصليبيين.
ادرك عمر بن الخطاب في اخريات ايامه ان الامويين يخططون للقضاء عليه، الامر الذي دعاه الى الايصاء الى ولده بالابتعاد عن طلب الخلافة وهي قضية لم يدركها ابو بكر لذلك خاضت عائشة وعبد الرحمن طلب السلطة والرغبة في الوصول الى سدة الحكم فلقيا حتفيهما على يد معاوية، بينما لم يتعرض الى الخطاب الى سوء من حكام بني امية ولا من ال الزبير.
وبعد سنين طوال تمكن عمر فيها من حماية نفسه من دسائس بني امية لم ينتبه الى دخول المغيرة بن شعبة على خط المؤامرة فتم القضاء عليه في المسجد النبي حيث لم يكن يتوقع ان يقتل هناك في وقت الصلاة على يد فيروز ابو لؤلؤة غلام المغيرة ولم ينس الامويين للمغيرة صنيعة فكان من الشخصيات المقربة لهم في سلطانهم.
ولم يكن لعمر خيار الا ابتداع قضية الشورى في محاولة منه للتأكيد على مبدأ تدوير السلطة في بيوتات قريش مع التزامه بايصال عثمان الى سدة الحكم.
وانتهى الامر الى عثمان الذي كان مشروعه مغايراً لمشروع عمر بعد التطور الذي تحقق في المشروع القرشي طيلة السنوات الخمسة عشر التي كانت بعد وفاة النبي (صلى الله عليه واله) فقرر ان يسمح للمعاصرين لرسول الله من اهل المدينة بالخروج عنها، فانتشروا في الامصار ليحقق بذلك تحولاً في سياسة التصرف باموال بيت مال المسلمين لان وجود مجموع كبيرهم منهم سيشدد عليه النكير اما مع توزعهم في الامصار واغداق الاموال على المتبقين منهم في المدينة لاسكاتهم فان الامر سيتغير حتماً، وهكذا تغير الوضع الاجتماعي العام الذي كان الزهد مظهراً واضحاً فيهم ليتحول الى منهج امبراطوري كسروي قيصري تبنى فيه القصوره الفخمة ويعيش المجتمع حالة بذخ مالي عجيب فتمتلأ القصور بالجواري والعبيد وتزدهر سوق النخاسة، بعد ان كان المجتمع المسلم المجتمع الافضل في تحرير العبيد.
لقد اسهم انتشار الانصار ومحبي امير المؤمنين (عليه السلام) في مختلف بلدان المسلمين وامصارهم المهمة في الاسهام في اعادة بناء الشخصية الاجتماعية على اساس هدي القرآن والسنة المطهرة، فكان لعثمان بن حنيف الانصاري وحذيفة بن اليمان وعمار بن ياسر والمقداد بن الاسود الكندي ومحمد بن ابي بكر والحارث الهمداني واشباههم دوراً مهما في اعادة بناء الوعي، والدعوة الى الانصاف ونبذ الظلم مما ولد حالة من وعي المرحلة الذي عاشه المسلمون وداعب مقتضيات حاجتهم الى العودة الى النظم الاسلامي القويم وايقاف استهتار الولاة بقيم الدين ومبانيه، وارسلوا الى العاصمة مطالبين مركز القرار بالعمل على التغيير فلم تفلح الوفود قرروا السير بمظاهرة جماهيرية سلمية الى المدينة لاجبار الامبراطور على الاستجابة الى نداء المجتمع المقهور فلم يفلح السعي لأن بطانة السوء التي كانت تحيط به كانت تهدف الى تركيع الامة واذلالها فكان الدور السلبي لمروان بن الحكم صهر الخليفة والتآمر الخفي لمعاوية على عثمان لانه كان يرى ان بقاء عثمان في السلطة سينتهي بامر الخلافة الى مروان ويخرج منها صفر اليدين فكان القضاء على عثمان مطلباً سرياً لمعاوية، فكان عثمان ضحية هوس مروان ومعاوية في كرسي الخلافة.
كان مقتل عثمان في واقعه اعلان عن تحول في الواقع الاجتماعي للمسلمين، فلم يعد المجتمع المسلم بعد الخلل الكبير والواضح في ادارة بني امية للامصار يعتقد باهلية الحكام للاشراف على تطبيق الشريعة وهذا الامر ادى في النهاية الى ايجاد مؤسسة دينية الى جنب مؤسسة السلطة بعد ان سعت السلطة الى احتواء الواقع الاجتماعي الجديد فلم يعد الخليفة هو المشرف على تطبيق مفاهيم الدين وان كان هو المتحكم بمن يكون مفتياً للامة وقاضياً لقضاتها، وهذه بذاتها ضربة عصماء للمشروع القرشي على يد المجتمع المسلم الا ان السلطة القرشية سعت الى استيعاب تلك الضربة والنزول عندها واحتوئها وتمكنت من ذلك.
كما ان المجتمع المسلم لم يعد خاضعاً خضوعاً تاماً للمشروع القرشي، وانما ظهرت فيه بوادر الانعتاق عن ذلك المشروع الا ان هيمنة قريش على السلطة واستمرارها في مشروع البطش مكن المشروع القرشي من المضي قدماً واستمرت اثاره الى اليوم فزالت قريش وبقي المشروع، وان كان مع تقدم الزمن ومضي الايام يخسر مواقعه بالتدريخ امام منهج اهل البيت المنهج الالهي وتلك ارادة الله تعالى التي بينها في كتابه العزيز حيث قال (كتب الله لاغلبن انا ورسلي).




  • المصدر : http://www.kitabat.info/subject.php?id=171096
  • تاريخ إضافة الموضوع : 2022 / 07 / 30
  • تاريخ الطباعة : 2024 / 03 / 29