في لقاء لشيخ الصحفيين العرب محمد حسنين هيكل يوم امس الاثنين 21/5/ 2012م ، تطرق الى قضايا حيوية تتعلق بالوضع المصري الراهن وعلاقته بالوضع الاقليمي مشيرا الى بعض النقاط المهمة - ايضا - التي تربط ايران بالوضع العربي والدولي ، ولاسيما في تغيير وجهة الصراع : من ( عربي – اسرائيلي ) الى ( عربي - ايراني ) .
ومن خلال اللقاء سأركز على الموضوعات الدائرة حول ذلك الصراع و لا يعنيني ما كتبه هيكل عن الثورة الايرانية او التصريحات السابقة الخاصة بها بل الذي يشغلني رأيه في هذا الساعة ( الرأي الاني ) لأنه يشكل الاثر الاعظم و الاكثر اهمية من كل تجاربه الكتابية الاولى ، ففي تجربته الاولى قد يكون الانسان مبهورا بالجديد او بالفورة العاطفية او بحماس الشباب ونشوته ،اما التجربة القرائية التي تأتي بعد اكثر من ثلاثين سنة ( مشخصة حدثا او موضوعا نفسه ) يعطي القارئ شهادة حية في الموضوع ويؤكد له بوصفه قارئا مشاركا ما يعزز او يعدل من وجهة نظره حيال الموضوع نفسه ، فسهل على كل انسان ان يبدي رأيا او يصدر حكما في شئ ما وخاصة القضايا السياسية او الادبية لكن الامر الصعب و المهم هو الوجود المتحقق لذلك الرأي عند تجديد القراءة .
وان إعادة القراءة الناتجة عن متحقق جديد يمنح القارئ ثقة وتأييدا اكبر من نشوة الفرحة الاولى ، فمثلا عندما يستحضر شخصية الامام الخميني بوصفه رمزا للثورة ضد الطغيان والظلم وانه احدث ثورة تعد من اعظم الاحداث بعد الحرب العالمية الثانية فهو يقدم شهادة كبيرة ليس عن مشروعية الثورة بل عن مشروع الثورة الذي اصبح انجازا وأصبحت له نتائج ملموسة وأفعال متحققة ، وعلى الرغم من ان الصحفي كان يدفع بمجذافه دفة قارب الحوار ليبعد هيكل عن الحديث عن ايران فلم يترك له فسحة كافية للتفاصيل بدلالة استشهاده بشخصية ( نهرو)، إلا ان حسنين استطاع وبمهارة عالية ان يوصل رسالته واضحة وان كانت مختصرة ، فهي صادرة من حكيم ينبغي ان يبتعد عن الثرثرة والتفاصيل .
ان هيكل عندما استشهد بشخصية الامام الخميني والثورة الاسلامية التي تزعمها ، لا يعطي شهادة على العصر فقط بل يؤكد ان اعادة القراءة تمنحك ثقة بملامسة جزء كبير من الحقيقة ، فعندما الف كتابه – مثلا - عن الثورة الايرانية منذ اكثر من ثلاثين عاما ثم يأتي في 2012 م فيؤكد ان التجربة الايرانية ( الاسلام الشيعي ) لازالت مثمرة ولا زالت تعد رمزا للثورات الناجحة انما يؤكد مرة اخرى مصداقية جديدة للفعل المتحقق.
ان هذا النوع من الشهادات هي التي يجب ان يهتم بها الشيعة ، شهادات ( ادورد سعيد ومحمد حسنين هيكل ونعوم تشومسكي وغيرهم من المفكرين والكتاب ) ، وليس اراء الجهلة من المتحجرين الذي يعيشون في العصور البدائية مع مروجي بضاعتهم الكاسدة من الصحفيين الذين يقتاتون على فتافيت موائد السلطان ، ان ايران الشيعية بدأت تنفتح على العالم لتعكس تجربتها الناجحة ، والأخطر من ذلك انها اقنعت العالم الحر بصحة تجربتها ، وقد التمس المفكرون الموضوعيون هذه الحقيقة لذلك اشادوا بها ، فالتجربة الايرانية هي ذلك الارشيف المخزون والذي نتلمس انعكاسه في كتابات الكبار من المفكرين وليس ما ينعكس في كتابات الهواة من الاعلاميين والذين يلهثون وراء الشهرة من اجل بناء مجدهم الشخصي ، عندما يخرج الرأي من الحكيم فانه (يعني ما يعني) : قربه من الواقع والحقيقة ( على الرغم من نسبيتها ) لانه يمتلك الخبرة المتراكمة فضلا عن امتلاكه لناصية الشهرة فهو لا يحتاج الى اي من الدوافع والمحفزات المادية والمعنوية ، لذلك يطرح اراءه دون خوف او وجل من رقيب وحاجب ، لا يهمه إلا ان يكون قريبا من الموضوعية ، وإذا تأملنا قول هيكل من وجهة اخرى سنلاحظ انه لم يكن عبارة عن شهادة وإنما هو بمثابة (وصية ) او (اعتراف) يصدر من رجل مفكر خبر الحياة يعيش على اعتاب نهاية العمر ، هذه وصايا حكيم مستمدة من تجربة ضاربة في التاريخ السياسي ومشاكل المنطقة ، وبتبسيط اكثر هي تنبيه للرئيس المصري القادم وللشعب المصري والشعوب العربية ليعلن : ان الذي يؤمن ويردد الشعارات والخطابات الوهمية التي تصور الشيعة ( بعبعا ) هو في الحقيقة يجري خلف خطابات الهيمنة ومخططات القوى العظمى التي تسعى لتحقيق مصالحها في الشرق الاوسط.
لقد ذكر في ثنايا حديثه الرموز الذين غيروا وجه العالم مثل ( ديغول) و(ترومان) ثم استدرك فقال : ( الخميني مثلا : من كان يتصور انه شيخ موجود في زاوية من زوايا قم او النجف وانه يطلّع كل هذه الثورة الاسلامية .. اقول لك : اهم حاجة بعد الحرب العالمية الثانية هو ايران ) ثم ينقطع هيكل عن مواصلة الكلام بسبب الضغط الفكري الشديد الذي يجعله متألما مما يراه من حرب شعواء ضد الحقيقة فيفقد تركيزه عندما مزج بين الحديث عن ايران والعراق قائلا : ( انا موضوع العراق يسبب لي .. ) ثم يتحول الى مواصلة كلامه : ( لما اجد رجلا – انا احترمه وهو شيخ الازهر – يكلمني عن الحسينيات الشيعية في مصر ، طول عمرها في مصر حسينيات شيعية هذه مواريث شيعية ، انا لا اعلم ان الشيعة (بعبعا) المذهب الشيعي موجود ) ثم يقاطعه الصحفي بقوله :
- حضرتك لسه متوجس من تحول الصراع من ( عربي – اسرائيلي) الى ( سني – شيعي) ؟
ويجيب : هو هذا الذي حاصل كرغبة مستمرة وملحة على الاقل في (15-20) سنة التي فاتت وعلى الرئيس القادم ان يرى ذلك).
قطعا لم يرد هيكل ان يختزل الثورة بشخص الامام الخميني ، وينسى صاحبها الامام الحسين (ع ) لكنه اراد ان يضرب مثلا واقعيا عن كيفية تجسيد تلك الثورة الضاربة في عمق التاريخ في شخصية ثائرة معاصرة وهي شخصية الامام الخميني الذي لم ينس ان يرجع شعار الثورة و رايتها الى بطلها الحقيقي حينما صدح بـ ( كل يوم عاشوراء وكل ارض كربلاء ) .
يا شيخ الصحفيين ، هذا ليس بشيخ انما هذا دم الحسين وصوته الهادر الذي يستصرخ ضمير الانسانية للثورة ضد الظلم والطغيان والذي ارهب امريكا ووسائل اعلامها فأطلقوا مقولتهم المشهورة والمختزلة لمعنى الثورتين بـ ( ان للشيعة ولعا بالاستشهاد ). لذلك فان الهجوم على الحسينيات والشعائر الحسينية وتصويرها بانها الممارسات تقاليد بالية هو تصوير للوجه السلبي ( اذا كان هناك وجه سلبي حقا ) في الشعائر الحسينية وهم يريدون بذلك تغطية الوجه الايجابي الاخر فيصورون للناس وللعالم انه هذا هو دين الشيعة : البكاء واللطم ) .
صحيح ان اول حسينية للشيعة في مصر قد اغلقت ، لكن الهيكل بضخامته وقامته و بآرائه تلك قد فتح حسينيات الشيعة كلها امام الرأي العربي و الاسلامي ، هيكل يتكلم بأسلوب المفكر الذي يعطيك تلميحا ، لانه يحترم القارئ اولا ، وثانيا انه مفكر وعالم ، و الانسان الذي يحمل كمّا من المعرفة يميل الى بث شفرات او تلميحات دون الخوض بالتفاصيل وفي احيان كثيرة يضمر او يخفي اراءه الشخصية خلفها تاركا للقارئ التأويل وهو بذلك يشبه صورة ( الجبل الثلجي : قمته ظاهرة للعيان لكن الذي يغطيه الماء هو الجزء الاكبر و الاعظم ).
وهذا رابط المقابلة :
|