بسم الله الرحمن الرحيم
كان بولس (5-65)م يعتقد ويؤمن بثنائية (الإله الأب – المسيح الرب)، ولم يكن يؤمن بالثالوث! فقد كان الروح القدس في فكر بولس بمثابة قوة روحية تغذي الفرد بتقوية الإيمان ومصدرَ الهامٍ شخصي ومصدراً للوحي! ولم يكن يعتبره كائن قائم بذاته. ولذلك لم تظهر صيغة الثالوث صريحة في رسائل بولس! واغلب عباراته تتحدث عن الثنائية المذكورة (الأب-الإبن) أو (الإله-الرب)، فالإشارات في بعض عباراته الى الروح القدس ولكن كقوة روحية يشترك بها المؤمنون، كما في رسالته الثانية الى اهل كورنثوس (13: 14): (نعمة ربنا يسوع المسيح، ومحبة الله، وشركة الروح القدس مع جميعكم. آمين). بينما نجده في مواضع عديدة يتحدث عن تلك الثنائية بوضوح، منها:
• في رسالته الأولى الى أهل كورنثوس (1: 3): (نعمة لكم وسلام من الله أبينا والرب يسوع المسيح).
• في رسالته الثانية الى أهل كورنثوس (1: 2و3): (نعمة لكم وسلام من الله أبينا والرب يسوع المسيح. مبارك الله أبو ربنا يسوع المسيح، أبو الرأفة وإله كل تعزية).
• في رسالته الى اهل غلاطية (1: 1-3): (بولس، رسول لا من الناس ولا بإنسان، بل بيسوع المسيح والله الآب الذي أقامه من الأموات، وجميع الإخوة الذين معي، إلى كنائس غلاطية: نعمة لكم وسلام من الله الآب، ومن ربنا يسوع المسيح).
• في رسالته الى اهل أفسس (1: 3): (مبارك الله أبو ربنا يسوع المسيح، الذي باركنا بكل بركة روحية في السماويات في المسيح).
• في رسالته الاولى الى اهل تسالونيكي (1:1): (بولس وسلوانس وتيموثاوس، إلى كنيسة التسالونيكيين، في الله الآب والرب يسوع المسيح).
• في رسالته الثانية الى اهل تسالونيكي (1: 12): (لكي يتمجد اسم ربنا يسوع المسيح فيكم، وأنتم فيه، بنعمة إلهنا والرب يسوع المسيح).
• في رسالته الاولى الى تيموثاوس (1:1): (بولس، رسول يسوع المسيح، بحسب أمر الله مخلصنا، وربنا يسوع المسيح، رجائنا).
• وأيضاً في رسالته الاولى الى تيموثاوس (4: 1): (أنا أناشدك إذا أمام الله والرب يسوع المسيح).
- في رسالته الى تيطس (1:1): (بولس، عبد الله، ورسول يسوع المسيح).
• وأيضاً في رسالته الى تيطس (1: 4): (نعمة ورحمة وسلام من الله الآب والرب يسوع المسيح مخلصنا).
ومن خلال هذه الفكرة أي ثنائية (الإله الأب والرب الأبن) يمكن للقاريء أن يفهم كل نصوص العهد الجديد لأن جميع اسفاره هي في حقيقتها أما كتابات بولس أو كتابات تلاميذه.
فعقيدة بولس بخصوص العلاقة بين الإله الأب وابنه المسيح الرب مبنية على الفكرة الفلسفية الغنوصيّة القائلة بالفيض الإلهي (وليس الخلق)، وانَّ (الواحد لا يصدر منه الا واحد)! وان الصادر الأول والوحيد هو الذي خلق العالم، وبسبب ذلك الفيض قالوا انَّ جوهر الأبن هو نفس جوهر الأب! فجعلوا المسيح مولوداً من الإله الأب وأنَّه مولوده الوحيد أي باللغة الغنوصية الصادر الوحيد عن الإله، وبذلك يكون المسيح هو خالق العالم عندهم!!
فعقيدة (الصادر الاول) تبنّتها المدرسة الافلاطونية الحديثة والتي ابرز رموزها الفيلسوف اليهودي فيلون الإسكندري (30ق.م-50م) والفيلسوف المسيحي المصري افلوطين (205م-270م).
كان فيلون الاسكندري يرى أنَّ عناية الله بالعلم ليست مباشرة، ولكنها تتخذ وسطاء، "فالله لا يستطيع أن يتصرف في العالم مباشرة، وذلك لأن هذا سيتضمن الحط من شأنه بالهيولى، وتحديد لا تناهيه، ولهذا توجد كائنات روحية وبسيطة تخلق العالم وتديره باعتبارها وراء الله". وكذلك لا تبلغ النفس إلى الله إلا بوسطاء .والوسيط الأول هو "اللوغوس " أو الكلمة ابن الله نموذج العالم، ويليه الحكمة فرجل الله أو آدم الأول، فالملائكة، فنفس الله، وأخيرا القوات وهي كثيرة من ملائكة وجن نارية أو هوائية تنفذ الأوامر الإلهية. وكل هذه الوسائط واردة في اللوجوس الذي هو التفكير العقلاني الذي يحكم العالم، وعلاقة الله باللوجوس، وعلاقة اللوجوس بالعالم هي علاقة فيض، ولكن فكرة الفيض عنده، بل وفكرة اللوجوس غير واضحة،فهناك في تفسيره "أقوال متعددة متباينة فاللوغوس تارة الوسيط الذي به خلق الله العالم، كمايصنع الفنان بآلة، والذي به نعرف الله، والذي يشفع لنا عند الله، وهو طورا ملاك الله الذي ظهر للآباء وأعلن إليهم أوامر الله، على ما تذكر التوراة، وهو مرة قانون العالم". "وتعتبر فكرة الفيض أو الكلمة logos هي أهم الجوانب التي أضافها فيلون، تلك الفكرة التي قبلها كثير من فلاسفة المسلمين قبولا مصحوبا بالإعجاب"[1].
فهذا الفكر كان معروفاً بين اليهود، ومنهم شاول الطرسوسي الذي تسمى بالأسم الروماني (بولس) واعلن نفسه كرسول للمسيح!!
فالمسيحية قائمة على هذه الفلسفة التي كان يتبنّاها فيلون والغنوصيون واقتنع بها بولس فطبقها على المسيح وجعله خالقاً للعالم وأطلق عليه صفة الرب!! وهذه العقيدة الغنوصيّة انتقلت الى الصوفية ونجدها بوضوح عند ابن عربي، ولكن بدلاً من ان يقولوا انَّ الصادر الأول هو "المسيح" قالوا انَّه "الحقيقة المحمدية" وانَّها الصادر الأول والوحيد وانَّهه هي خالق العالم ومدبّره!!
فالغنوصية هي العدو الأبرز للدين السماوي، وقد تغلغلت عن طريق بولس ذو الثقافة اليهودية الهيلينية الى دين المسيح (عليه السلام) وأنتجت المسيحية المبكرة، وتغلغلت الى دين الإسلام وانتجت التصوّف والصوفية!!
ثم ظهر في التاريخ المسيحي: ترتليان Tertullian (155-240)م، ويسمى أيضاً ترتليانوس، والذي اعتنق المسيحية سنة 193م، ولم يكن لديه استاذ من تلاميذ بولس، ولا يعرفون له استاذاً معروفاً!! ولا يعرفون من أين تلقى تعليمه المسيحي!!؟ وبإستثناء أوغسطين يعتبرون ترتليان أعظم آباء الكنيسة الذين دونوا باللاتينية[2]!! وهو أول من ذكر مصطلح "أقنوم Persona" في العقيدة المسيحية[3] ولم يكن هذا المصطلح معروفاً في المسيحية المبكرة!!؟ ومن المؤكد أنه ليس بشيء استلمه من استاذه، بل هو فهمه للمسيحية المبكرة التي تعلمها!! وكان يتميّز بكونه معاديًا للفلسفة بخلاف أغلب آباء مدرسة الإسكندرية في عصره[4]! ولذلك نجده لم يلتزم بثنائية بولس (الإله الأب-المسيح الرب) وهي ثنائية فلسفية منتشرة في رسائل بولس تقوم على أفكار الفلاسفة القائلة بـ (الصادر الأول) عن الإله وانَّ (الواحد لا يصدر عنه إلا واحد)! كما أن ترتليان كان يولي للروح القدس منزلة عظيمة، لدرجة أنّه كان يرى أنَّه "لا يمكن معرفة المسيح في معزل عن التعرف بالروح القدس"[5]! فرفع مرتبة (الروح القدس) الى مرتبة الإلوهية، وجعله أقنوماً ثالثاً الى جانب ثنائية بولس (الإله الأب – المسيح الرب)!
إذن ابتدع ترتليان ثالوث (الأب - الإبن - الروح القدس)!! وهكذا تطورت المسيحية المبكِّرة لتشق مسيرتها في "عقيدة الثالوث"!!!
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الهوامش:
[1] مقال بعنوان (النظر في الأسس التي قامت عليها مدرسة الأفلاطونية المحدثة) بقلم أ.د/ محمود محمد حسين علي، قسم الدعوة وأصول الدين، كلية العلوم الإسلامية – جامعة المدينة العالمية ، شاه علم – ماليزيا
[2] آباء الكنيسة القرون الثلاثة الأولى / الدكتور أسد رستم / منشورات النور 1983م – ص185.
[3] المصدر السابق – ص190.
[4] مقال في الموقع الالكتروني الانبا تكلا هيمانوت القبطي الآرثوذكسي، تحت عنوان (العلاّمة ترتليان)، منشور عبر الرابط: اضغط هنا
وللموقف الرافض للفلسفة من قبل ترتليان أنظر: تاريخ الفلسفة (من اوغسطين الى دانزسكوت)/ فردريك كوبلستون / ترجمة إمام عبد الفتاح وإسحاق عبيد / المركز القومي للترجمة / الطبعة الاولى 2010م - المجلد الثاني، القسم الاول، ص41 و42.
[5] تاريخ الفلسفة (من اوغسطين الى دانزسكوت)/ فردريك كوبلستون - المجلد الثاني، القسم الاول، ص42.
|