• الموقع : كتابات في الميزان .
        • القسم الرئيسي : ثقافات .
              • القسم الفرعي : ثقافات .
                    • الموضوع : شاهدٌ من أهله .
                          • الكاتب : سناء الوادي .

شاهدٌ من أهله

{وتلك الأيام نداولها بين الناس} صدق العلي القدير، وسيظل التاريخ شاهداً على نهوض الحضارات واندثارها، وقالها مؤرخنا العظيم العلاّمة ابن خلدون منذ القرن الرابع عشر {إذا تأذن الله بانقراض الملك من أمة حملهم على ارتكاب المذمومات وانتحال الرذائل وسلوك طريقها}، وعلى ما يبدو أن شمس الغرب بدأت بالأفول.   ما حذر منه قبل عشرين عاماً المفكر الأميركي البارز والسياسي الأبرز باتريك جوزيف بوكانان في كتابه موت الغرب، الذي أرّق صفو الغرب وهم متزعمو العالم حينها، فكيف لمستشارٍ لثلاثة رؤساء لأميركا أن يفند ويشرح ويبرهن على قرب النهاية للشعوب الغربية.

ففي حين أن ابن خلدون في مقدمته قد شبه الحضارات الحية بالإنسان ولها دورة حياتية تبدأ بالولادة، فالنمو فالنضج ثم الشيخوخة فالموت، فإنه من الطبيعي لكل حضارة أن تصل إلى نهايتها الحتمية بفعل مرورها بهذه المراحل، ليخالفه الأميركي باتريك جي وينذر بانقراض الحضارة الغربية لسبب آخر يتعلق بالموت الديموغرافي للسكان الأصليين، وبما أنه ينتمي للحزب الجمهوري فقد دقّ ناقوس الخطر من تزايد أعداد المهاجرين واختلاطهم بالعرق الأبيض الصافي وتداخلهم مع الثقافات الأخرى شيئاً فشيئاً حتى التلاشي، وأورد في كتابه إحصائيات دقيقة لعدد السكان المنحدرين من أصول أوروبية، حيث بلغت نسبتهم عام 1960، ربع سكان العالم لتنخفض إلى السدس عام 2000، وتبعاً لهذا المنحى ستهبط النسبة إلى العُشر بحلول 2050م، ما يعني تزايد أعداد من هم فوق 65 عاماً لحوالي الثلثين وندرة الفئة العمرية الشابة.

هذه النذر المشؤومة أرعبت الغرب فعلاً، لأنها بلسان عقولٍ مفكرةٍ تنتمي لهم فلم يكن باتريك السبّاق لهذه التحذيرات فقد توقع المفكر الألماني أوزفال شبينغلر في بداية القرن العشرين تدهور الحضارة الغربية، خاصةً إذا فقدت الشعوب القدرة على تقرير المصير، ناهيك عن كتاب الحضارة تنتحر ولا تموت للمؤرخ البريطاني أرنولد توينبي.

بالرغم من طرح الكتّاب لأفكار متباينة حول أسباب الموت المحتوم بيد أنهم اتفقوا على أن الموت الأخلاقي لتلك الأمم وانهيار منظومة القيم المستندة بشكل كبير على دعائم التعاليم الدينية السماوية وانغماس المجتمع بالمنافع المادية، حتى باتت تقاس السعادة واللذة بمقدار ما يملكه الفرد من رفاهية، فكانت نقطة البدء بانهيار المكون الأساسي لكل كيان حضاري وهي الأسرة وفقدان الروابط العائلية ليميل كل شخص إلى العيش بمفرده، فضلاً عن انتشار الأفكار التي تشجع قيام العلاقات بين الجنسين خارج إطار الزواج بما فيه من امتلاك المتعة الجنسية دون تحمل المسؤولية، وما رافق ذلك حينها من تخوف كبير على مستقبل الأجيال القادمة من الانفجار السكاني، الذي يحدث والاتجاه نحو تقليل نسبة المواليد وتحديد الإنجاب، فشرّعوا القوانين التي تحمي هذه الأفكار وتدعمها كقانون السماح بالإجهاض وتشريع الموت الرحيم إضافة لتلك القوانين التي تعطي للزوجة نصف ثروة الرجل عند الطلاق، ما حمل الشباب على العزوف عن الزواج وتفضيل المساكنة عليها، غير أنّ الطامة الكبرى التي بدأت تتفشى بأصوات خافتة خجولة لتتعالى اليوم وتُسمع كلّ أصم، إنها أصوات المثليين ومن يقف خلفهم من السياسيين والمشاهير، ومن يرفع أعلامهم من الرياضيين وتمثّل ذلك مؤخراً بإقرار الرئيس الأميركي بايدن لقانون الزواج المثلي.

ماهي في الحقيقة إلا صفارة الحكم في الدقائق الأخيرة من انتهاء الحضارة بالتآكل الداخلي، الذي ينهش جسد الأمم الغربية نتيجة للابتعاد عن روحانية الحضارة التي تهبها الحياة والاستمرارية والانغماس في المادية المفرطة، التي جعلتهم يحتلون عرش الرأسمالية ويحتكرون الصناعات الدقيقة والقيّمة لضمان تبعية الدول الأخرى لهم، ويدافعون بشراسة عن أحادية القطب ويناهضون كل من يقف ليتحرر من هيمنتهم ويكسر قيود تبعيته لهم، لذلك نلاحظ في السنوات الأخيرة صراع الصين وروسيا كطرف نجح في مواجهة أميركا وأوروبا، بعد أن ملكوا زمام أمرهم وطوروا الصناعات والتقنيات بل وتفوقوا بها وهذا ما تحذو حذوه دول عربية اليوم. 

في هذا السياق وعند مناقشة الفلاسفة لفكرة نشوء الحضارة، فالغالب أكد أنها تولد من فكرة إنسانية محضة وعندما يتعرض الفكر لتغيرات غير مرئية تخلخله وتعدّله فتتبدل هويته وأهدافه التي يسعى لتحقيقها، وبالتالي تبدأ خطوات السير نحو الانقراض، وعليه فإن انهيار منظومات الأخلاق في الغرب والابتعاد عن السمو هو من ركائز هشاشة الهيكل الداخلي للجسد الأميركي والغربي، إنها دروس التاريخ فهل من متعظ.




  • المصدر : http://www.kitabat.info/subject.php?id=177464
  • تاريخ إضافة الموضوع : 2023 / 01 / 18
  • تاريخ الطباعة : 2024 / 04 / 19