• الموقع : كتابات في الميزان .
        • القسم الرئيسي : ثقافات .
              • القسم الفرعي : ثقافات .
                    • الموضوع : (وتكلمت الحياة ) للروائية علياء الانصاري (3 ) .
                          • الكاتب : علي جابر الفتلاوي .

(وتكلمت الحياة ) للروائية علياء الانصاري (3 )

الحياة تكلمت ، بعد ان انتقلت جميلة اليها ، وكل انسان سيتكلم ولكن بعد ان ينتقل الى الحياة الدائمة ، هذه سنة الله تعالى في خلقه ، انها الحياة الحقيقية ، الحياة العليا ،وقبلها كنا نعيش في الحياة الدنيا ، لا كلام في الحياة الدنيا ، الانسان محجور عليه  وممنوع عليه الكلام ، الانسان فاقد لحريته الحقيقية فيها ، انه واقع في اسر التقاليد والبروتوكلات ، وفي اسر الخوف ، لا يتحرر الّا عندما ينتقل الى حياته الحقيقية حينئذ تتكلم الحياة ، ابداع ملفت للانتباه من الكاتبة الاستاذة علياء الانصاري ، كشف للسمو الروحي الذي تحمله الروائية ، روحانية رائعة ، تنم عن قوة الايمان .

بدأت ذاكرة جميلة تستعيد احداث الحياة الدنيا ، تذكرت امها وموقفها منها ، اذ خذلتها وهي اقرب الناس منها ، مرة اخرستها عندما اخبرتها بتحرش مازن ابن خالها بها  واخرى عندما اجبرتها للموافقة على الزواج من رعد صاحب الثروة الطائلة .
( كانت المرة الثانية التي ألقي بنفسي فيها بأحضانك ) هكذا ( تكلمت الحياة ) جميلة الانسان تكلمت ، عندما يتخلص الانسان من اسر الجسد ، من اسرالجسد التراب ، من القيود التي تكسرت ،عندما يُكشف الغطاء ، تبدأ الحياة تتكلم ( توسلت اليك ان لا تفعلي ، ان لا تعطيني لرجل لا اعرفه ولا اريده ، ولكنك لم تسمعي ولم تفهمي فكان لك ما اردت .... ) .
الانسان يقهر الانسان عندما يكون اسير الجسد ، تزوجت جميلة من رعد رغم انفها واستسلمت لقدرها ، بسبب قهرالتقاليد الجائرة بحق المرأة ، وبسبب المصادرة لحرية ورأي المرأة ، وبسبب عدم الاعتراف بكرامة المرأة الانسان ، الظالم والضحية كلاهما ضحية التقاليد الاجتماعية الخاطئة ، التي تعتبر مقدسة عند البعض سواء كان الانسان ظالما او مظلوما .
استطاع رعد ان يسيطر على جميلة من اول لقاء معها :
( استطاع ان يكسبني من اليوم الاول  ... ) يا للضعف والبساطة والسذاجة ( كلماته العسلية جعلتني انتشي بالقرب منه ، لم يكن كمازن شاب مغفل لا يعرف ماذا يريد ) ليس من السهولة ان تمسح مازن من ذاكرتها ، كانت تتصور انه هو مَن سيكون زوج المستقبل ، مسكينة جميلة ذات النوايا الحسنة ، لا تعرف ان الكثير من الرجال لا يتقبلون المرأة التي تستسلم لهم ، وتلبي رغبتهم الجنسية ، لا يتقبلونها كزوجة ، بل يبقونها وسيلة لهو ولعب فحسب ، ولفترة زمنية قد تطول او تقصر، بعد ذلك ترمى كأي وسيلة من وسائل اللهو واللعب وقضاء النزوة ، رعد زوجها الذي لا تعرفه سابقا جلب انتباهها ( كان رعد واثقا من نفسه ، وقادرا على ان يجعل كل من حوله يركع له دون ادنى تفكير ) . 
جميلة شعرت بأنسانيتها بعد ان انتقلت الى الحياة الاخرى الدائمية ، لم تتكلم بصراحة وواقعية الا بعد ان انتقلت الى حياتها الحقيقية ، لذا بدأت ثورتها في الكلام والاعتراض وكشف الحقائق والمخفي من الاحداث والاسرار .
اثناء حمل جسدها على النقالة ( التابوت ) ، اخذت ترى من يسير خلف نعشها وتتحدث عن حياتها الدنيوية معهم ، تكلمت عن مازن ووصفته بالطائش ، وعن رعد زوجها صاحب الثروة الكبيرة ، والتي كانت غير مهتمة بثروته لانها عاشت حياة البساطة والقناعة في الدنيا ، ولم تشعر يوما بحسرة تجاه حياة الاغنياء ، لان الاموال الكبيرة ستجلب المتاعب لصاحبها في الدنيا ، والشقاء في الاخرة ان لم يلتزم صاحب الثروة بضوابط توجيه الثروة لخدمة المجتمع والناس الاخرين ، هذه المبادئ كانت تفهمها وتعرفها جميلة ، لكن زوجها رعد كان رجل الدنيا ، اما جميلة فقد كانت امرأة الآخرة .
شعرت جميلة وهي محمولة على الاكتاف انها بكامل حريتها التي سلبت منها في الحياة الدنيا ، لكنها اليوم تحررت من هذا الاسر ، بدأت توجه اللوم الى اسرى العالم الادنى ، تخاطبهم تقول لهم : ( اجيبوني يا اسرى ذلك العالم البغيض ، يامن تسيرون الان خلف نعشي وفي رأس كل واحد منكم الف فكرة وفي نفسه الف رغبة ، غافلين عما ينتظركم ، غافلين عن هذا العالم الحقيقي الذي تسيرون نحوه دون ان تنتبهوا له اوتستعدوا ) ، كلام جميلة هذا فيه مسحة صوفية ، او قل ينم عن روح ايمانية صادقة  نبهت الغافلين عن هذا العالم ، الذي وجدته هو العالم الحقيقي وليس عالم الدنيا  دعتهم للاستعداد لهذا العالم الحقيقي ، لان الانتقال اليه من دون استعداد ستكون خسارة كبيرة ، هذه مسحة صوفية تدعو لعدم التشبث بالدنيا ، والاستعداد للاخرة  لكن في الامكان تفسير كلام جميلة ، انها تدعو لحياة متوازنة ومقبولة في الدنيا مع عدم التضحية بالاخرة لاجل الدنيا ، وهذه هي نظرة الاسلام الواقعية ( اعمل لدنياك كأنك تعيش ابدا ، واعمل لآخرتك كأنك تموت غدا ) ، الظاهر ان جميلة لم تتفاجأ بعالمها الجديد ، بل هي مطمئنة النفس كونها من النساء المؤمنات ومن غير المتشبثات بالدنيا، لكن اخذت تنّبه الاخرين لهذا العالم الجديد وضرورة التهيؤ له لأن ( الناس نيام فأذا ماتوا انتبهوا ) .
في اثناء تشييع جميلة استعاد رعد ذاكرته ، اعترف بذنبه انه كان مقصرا معها اعترف انه قد آذاها كثيرا لكن رغم معرفته بهذا الاذى بقي مستمرا في اذيتها ، لم يعترف بذلك الا بعد موتها ( نعم يا جميلة ، يا جميلتي ، لقد فاتني الوقت ، لو كنت اعلم انك ستمضين سريعا هكذا لما تماهلت في السعي لكسب رضاك .. لقد آذيتك كثيرا كثيرا ..) .
لماذا يؤذي الرجل المرأة ؟ المرأة التي تشاركه الحياة في حلوها ومرّها ، لكن هذا لا ينفي ان من النساء من تُحّول حياة الرجل الى جحيم لا يطاق ، ومنهن من تكون سببا في تدمير حياة الرجل وسمعته ، لكن والحمد لله انهن قليلات جدا ، اذن لا يمكن ان نلقي اسباب الحياة التعيسة المشتركة للرجل والمرأة ، على الرجل فحسب ، بل احيانا تكون المرأة هي السبب ، والانصاف ومبدأ العدالة يقتضي القول مثل هذا الكلام  واحيانا ايضا تكون الاسباب مشتركة بين الاثنين ، لكن على العموم المرأة هي الحياة وهي زهرة دائمة العطر ، سواء كانت زوجة او اما او اختا او بنتا .. الخ ، لولا عطاء المرأة لما استمرت الحياة ، بدأ رعد يتخيل نفسه في غياب جميلة ، كيف سيكون، بدأ يخاطبها وهي محمولة في التابوت ( ها انت ترحلين ، وكأنك لم تكوني )  هذه سنة الحياة نرحل عنها ونترك أي غالٍ فيها وكأننا لم نكن ، لم يصطدم رعد بهذه الحقيقة الا بعد رحيل جميلة ، لم يكن وفيا معها كان يخطط للزواج من امرأة اخرى  طبعا من حق الرجل الزواج بثانية او ثالثة او رابعة حسب ما سمح به الاسلام ، لكن وفق ضوابط وشروط ومسوغات ،  يظن البعض ان هذا الحق يمارس من دون قيد او شرط ومن دون ضوابط  انا لست مع الزواج بأخرى مع عدم وجود المبرر والمسوّغ والضوابط ، الاسلام دين الانسانية ولن يسمح بالظلم او ضياع الاخرين  ولن يسمح للرجل بالزواج الثاني بمجرد حصول الرغبة في ذلك ، لتوضيح هذا الامر لابد لقرار جرئ من العلماء المتنورين ليكشفوا فيه عن الجانب الانساني للاسلام في موضوع الزواج الثاني ، وضوابط وشروط الزواج باخرى مع دراسة الظروف الموضوعية بما يتناسب والعصر الذي نعيش فيه ، نحن لسنا مع عقل نستوحي منه في كل العصور ، عدا عقل المعصوم ، اما العقول البشرية الاخرى ، فلكل زمان لون من هذه العقول بحيث تتعامل مع النصوص المقدسة وتنتج افكارا تتناسب والعصر الذي يعيشه الناس ، وهذه سمة من سمات الاسلام الخالد .
 جميلة كانت امرأة مثالية ، الكثير من الرجال كانوا يتمنون الزواج من جميلة ، لكن هذه الصفات المتميزة لجميلة لم تمنع رعد من اقامة علاقة عاطفية مع الارملة  فاتن  التي ورثت اموالا كبيرة من زوجها المتوفي،اتفق رعد وفاتن على الزواج ، موت جميلة هو الذي أخّر الزواج ، كان يظن ان جميلة لا تعرف ( كنت مشغولا عنك يا جميلة ، مشغول بشئ آخر .. حاولت ان اخفيه عنك ، فأذا بالموت يخفيك عني ) .
صمت جميلة اوحى لرعد انها لا تعرف ، الصمت كان سلاحها ، لا بسبب ضعفها او غفلتها ، بل من اجل هدف اسمى ( سكوتي لم يكن عن غفلة او غباء ، بل سكّت برضاي ، لأني اريد ان احافظ  على هدوء بيتي ، وعلى اسرتي ، وعلى اولادي  لم اكن احب القتال ، لم اكن احب المواجهة ، تربيت هكذا وعشت هكذا ، وقد فات الاوان عندما اكتشفت أني مخطئة ) .
كانت جميلة تعرف ان بديل السكوت والاستسلام هو المواجهة والقتال ، الحياة تتطلب احيانا المواجهة والقتال ، وربما الاستشهاد من اجل المبادئ والحق والعدالة ، جميلة لم تعرف هذه الحقيقة الا بعد ان اصبح بصرها حديد ، واخذت ترى الامور على حقيقتها .
رعد صاحب الثروة له قيمه التي تختلف عن قيم جميلة ، قيمه تناسب وضعه كرجل ثري يبحث عن الابهة والاتكيت حتى في مراسم الموت ، الا في داخل القبر لا يستطيع ان يمارس اتكيته ، فلابد ان يضع خده على التراب سواء كان ثريا ، او فقيرا جائعا ، اخذ يكلّم نفسه عندما رأى الحفار ينتظر بعد ان اكمل الحفرة ( القبر ) كي يأخذ اجره ( عليّ ان اكرمه ،فلا يليق بي ان اعطيه كما يعطيه الاخرون ، سأعطيه اضعاف ما يعطيه غيري ، وهذا يرفع من شأنك ايضا ) .
هكذا يفكر رعد ، يريد الابهة حتى في مراسم الموت والتشييع والدفن ، يتصور الاهتمام بالاتيكاتات في هذه المراسم يرفع من شأن جميلة ، هذه الابهة دنيوية ، ولا يدري رعد هل ستفيد جميلة في عالمها الاخر ام لا ؟ ( لا ادري هل سيرفع هذا من شأنك هناك ، في ذلك العالم الغريب المخيف الذي لا نعرف له ملامح ولا ندرك له صفات ) كلامه هذا ينم على انه فاقد للايمان او انه ضعيف الايمان ، وهو جاهل دينيا ويدل كلامه ايضا على انه دنيوي مادي بحت ، يفكر بالبروتوكولات وكيف يجب ان تكون بمستوى يليق بانسان ثري منصرف لدنياه فحسب ، بعد ان اكمل الحفار ودفع للحفار اجرته كلم نفسه ( عليّ ان اعود الى البيت الاولاد بانتظاري ، اولادك يا جميلة ينتظروني ) .
وصل رعد البيت ( آه ها هما سعيد ورضا يقفان على عتبة الباب يحيط بهما اصدقاؤهما ) هرعا الى والدهم وهما يبكيان ، لكن اين ابنتهما هناء ؟
هناء هي الثالثة في تسلسل اولاد رعد وجميلة ، كانت جميلة تحب اولادها الثلاثة التوأم سعيد ورضا ، وهناء التي هي ليست ابنتها ، لكن جميلة لا تعلم بذلك ، هذه ايضا لعبة اخرى لعبها رعد معها ، انها ابنته من امرأة اخرى ، وهذا سرّ لا يعلم به سوى رعد ، وام سعد خادمة جميلة التي كانت تعاملها كاخت وليس كخادمة اخفت ام سعد هذا السر عن جميلة ( آه ذلك الوجع الذي يستعر في قلبي هل تغفرين لي يا سيدتي ؟ حاولت مرارا ان اخبرك بذلك السر الرهيب الذي يكتوي به قلبي ..) .
عندما تعسرت ولادة جميلة ، اجروا لها عملية قيصرية ، ولدت بنتا ميتة ، يالها من مصادفة ، هنا تظهر مقدرة الكاتبة على الربط بين الحدثين ، لان مثل هذا الحدث احتمالات وقوعه قليلة جدا ، الكاتبة ببراعتها عالجت الموقف بحنكة وعمل يعتبر مقبولا عقلا وعرفا ، ربما من باب العطف على جميلة والخوف عليها من الصدمة لواخبرت بموت ابنتها ، على أي حال رعد عالج الموقف كونه اولد امرأة اخرى ايضا بنتا منذ ثلاثة ايام انها المصادفة العجيبة ، اتى بابنته من هذه المرأة ووضعها بديلا عن ابنة جميلة التي ماتت بعد الاتفاق مع ام سعد خادمة جميلة ، وبعد ان دفع الرشا للجهة المسؤولة في المستشفى التي اخفت البنت الميتة ووافقت على استبدالها ببنت اخرى ، هذه هي طريقة اصحاب الثروة لتحقيق مطالبهم وانجاز معاملاتهم الرشوة بالمال ، هؤلاء الاغنياء هم من يؤسس لهذه المفاسد في المجتع ، يستغلون ضعف بعض الموظفين ، اوقلة رواتبهم ، فيدفعون الرشا لتحقيق ما يريدون ، عند استبدال الطفلة كانت جميلة في غيبوبة المخدر بعد العملية القيصرية ،( جاء رعد صباحا يحمل طفلة صغيرة .. اسمعي جيدا ما اقول يا ام سعد ، هذه الطفلة عمرها ثلاثة ايام ستضعيها الى جوار جميلة ، وعندما تنهض ستخبريها بأنها ابنتها  وسأتدبرانا الامرمع المستشفى ) اخفت ام سعد السر، وفتحت جميلة عينيها فوجدت الطفلة الجديدة بجانبها فتقبلتها على انها ابنتها ، وهكذا نشأت هناء التي احبت امها كثيرا ، واخذت تخاطبها عند موتها ( امي ، كيف تتركيني لوحدي في هذه الدنيا وترحلين ؟ كيف طاوعك قلبك على تركي ؟ كيف سأحيا دون ام ؟ )
الاسئلة التي تتبادر الى الذهن ، هل هناء هي ابن شرعية من رعد ؟ وهل تصرّف رعد جاء حبا لجميلة وخوفا عليها من الصدمة لوعرفت بموت ابنتها ؟ ام تصرف من اجل نفسه كي لا يفتضح امره مع المرأة التي اولدها هذه البنت ، ولو عرفت جميلة بالسر عن طريق ام سعد او غيرها ماذا سيكون ردة فعلها ؟  هل ستسكت كعادتها ام ستنتفض لانوثتها وانسانيتها بوجه رعد الذي استغلها ابشع استغلال ؟ وعلى تقدير انها ستسكت ، هل سكوتها لعدم وجود ناصر لها ؟ ام ستسكت تحت ظلم وقهر العادات الاجتماعية القاهرة ! ام ستسكت لخلل ذاتي ونفسي في شخصيتها ! كل هذه الاسئلة لا نعرف جوابها ، نترك تقدير الجواب للقارئ الكريم ، ولو كانت جميلة قد عرفت بالسر لعرفنا ردة فعلها !  
واخيرا تحياتي للاخت الروائية علياء الانصاري وندعوها لمزيد من الابداع ، ونسأل الله تعالى لها التوفيق والسداد في مشروعها الانساني ، وعلى امل اللقاء في الحلقة الرابعة والاخيرة نودعكم على بركة الله .
 



  • المصدر : http://www.kitabat.info/subject.php?id=17894
  • تاريخ إضافة الموضوع : 2012 / 05 / 30
  • تاريخ الطباعة : 2024 / 04 / 16