• الموقع : كتابات في الميزان .
        • القسم الرئيسي : المقالات .
              • القسم الفرعي : المقالات .
                    • الموضوع : لماذا غاب الإمام؟ .
                          • الكاتب : شعيب العاملي .

لماذا غاب الإمام؟

بسم الله الرحمن الرحيم
 
لقد سَخَّرَ الله تعالى لنبيِّه سليمان الريح والشياطين، وأعطاه ملكاً عظيماً جَمَعَ به سلطان الدُّنيا وخير الآخرة، ثم قال عزَّ وجلّ له: ﴿هذا عَطاؤُنا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسابٍ﴾ (ص39).
 
فخَوَّلَهُ أن يمنَّ أو يمسك كما يشاء، لذا كان للنبيِّ أن يعطي، وله أن يمنع، كما أنَّ له أن يعاقب، وله أن يعفو، حيث ورد عنهم عليهم السلام الاستدلال بالآية الكريمة على أنَّه: إِذَا كَانَ لِلْإِمَامِ الَّذِي مِنَ الله أَنْ يُعَاقِبَ فِي الله فَلَهُ أَنْ يَعْفُوَ فِي الله (مناقب آل أبي طالب ج4 ص405).
 
وهكذا سائر ما أعطى الله تعالى للأنبياء والأئمة عليهم السلام، فكلُّ ما تحت اختيارهم يكون لهم الخِيَرَةُ في بذله أو حجبه، قاصدين بذلك وجه الله تعالى، ومِن ذلك بعض مُفردات المعرفة والعقيدة أيضاً.
 
فإنَّ الله تعالى بعدما أوجب على الناس السؤال: ﴿فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ﴾، أوجب على الأنبياء والأئمة أن يرشدوا الناس إليه، ويدلَّوهم عليه، إلا أنَّه لم يوجب عليهم كشف كلِّ ما علَّمَهم، ولم يُلزِمهُم الإجابة على كلِّ ما يُطرَح عليهم، بل أمرهم بمراعاة المصلحة في ذلك كلٌّ بحسبه.
 
لذا لمّا سئل الإمام الرضا عليه السلام (حَقّاً عَلَيْكُمْ أَنْ تُجِيبُونَا؟) أجاب:
 
لَا، ذَاكَ إِلَيْنَا، إِنْ شِئْنَا فَعَلْنَا، وَإِنْ شِئْنَا لَمْ نَفْعَلْ (الكافي ج‏1 ص210).
 
فالإمام أعرَفُ بمصالح العباد منهم، لا يحجُبُ عنهم ما لا بدَّ من إظهاره، ولا يُطلعُهم على ما لا صلاح لهم في كشفه.
 
وهذا معنىً عظيم ينبغي استحضاره كلَّما أردنا معرفة وجه الحكمة في أفعال الأئمة عليهم السلام، فهو مما يمكن معرفته حيناً ويمتنع حيناً آخر.
 
وقَد سَرَت هذه القاعدة إلى مسألة غيبة الإمام الثاني عشر عليه السلام، ولطالما واجَهَ المؤمنون سؤالاً مهماً: لماذا غاب إمامكم أيها الشيعة؟
 
وقد بَيَّنَ الإمامُ الصادق عليه السلام أنَّ تمام السبب والحكمة في غيبة المنتظر عليه السلام لا ينكشف ولا يُعرَفُ إلا بظهوره، وأنَّه سِرٌّ من الأسرار، فإنه لمّا سئل عن سبب الغيبة قال: لِأَمْرٍ لَمْ يُؤْذَنْ لَنَا فِي كَشْفِهِ لَكُمْ.
 
ولما سئل عن وجه الحكمة قال:
 
وَجْهُ الحِكْمَةِ فِي غَيْبَتِهِ وَجْهُ الحِكْمَةِ فِي غَيْبَاتِ مَنْ تَقَدَّمَهُ مِنْ حُجَجِ الله تَعَالَى ذِكْرُهُ، إِنَّ وَجْهَ الحِكْمَةِ فِي ذَلِكَ لَا يَنْكَشِفُ إِلَّا بَعْدَ ظُهُورِهِ كَمَا لَا يَنْكَشِفُ وَجْهُ الحِكْمَةِ لمَّا أَتَاهُ الخَضِرُ (ع) مِنْ خَرْقِ السَّفِينَةِ وَقَتْلِ الغُلَامِ وَإِقَامَةِ الجِدَارِ لِمُوسَى (ع) إِلَّا وَقْتَ افْتِرَاقِهِمَا.
 
يَا ابْنَ الفَضْلِ إِنَّ هَذَا الأَمْرَ أَمْرٌ مِنْ أَمْرِ الله، وَسِرٌّ مِنَ الله، وَغَيْبٌ مِنْ غَيْبِ الله، وَمَتَى عَلِمْنَا أَنَّهُ عَزَّ وَجَلَّ حَكِيمٌ صَدَّقْنَا بِأَنَّ أَفْعَالَهُ كُلَّهَا حِكْمَةٌ وَإِنْ كَانَ وَجْهُهَا غَيْرَ مُنْكَشِفٍ لَنَا (كمال الدين ج2 ص482).
 
هكذا هم المؤمنون الموقنون بحكمة الله تعالى، يعتقدون جازمين أنَّ أمره تعالى لوليه بالاستتار لا يفارق الحكمة، فلا تُضعِفُهُم تشكيكات المشككين ولا تهزُّ عقيدتهم، سواءٌ وفَّقَهم الله للإجابة عنها أم عجزوا عن ذلك.
 
رغم ذلك، كشف الأئمةُ عليهم السلام بعضَ وجوه الحكمة في غيبته، وإن ظَلَّ تمامُها خفيَّاً عنا وسيبقى حتى الظهور، فقد ورد في التوقيع الشريف للإمام الحجة عليه السلام بعدما أرجع الشيعةَ إلى الفقهاء ورواة الحديث لأخذ معالم الدين عنهم، قال عليه السلام:
 
وَأَمَّا عِلَّةُ مَا وَقَعَ مِنَ الغَيْبَةِ فَإِنَّ الله عَزَّ وَجَلَّ يَقُولُ ﴿يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ﴾.
 
إِنَّهُ لَمْ يَكُنْ أَحَدٌ مِنْ آبَائِي إِلَّا وَقَدْ وَقَعَتْ فِي عُنُقِهِ بَيْعَةٌ لِطَاغِيَةِ زَمَانِهِ، وَإِنِّي أَخْرُجُ حِينَ أَخْرُجُ وَلَا بَيْعَةَ لِأَحَدٍ مِنَ الطَّوَاغِيتِ فِي عُنُقِي..
 
فَأَغْلِقُوا أَبْوَابَ السُّؤَالِ عَمَّا لَا يَعْنِيكُمْ، وَلَا تَتَكَلَّفُوا عَلَى مَا قَدْ كُفِيتُمْ، وَأَكْثِرُوا الدُّعَاءَ بِتَعْجِيلِ الفَرَجِ (الغيبة للطوسي ص292).
 
وقد جَمَعَ الإمام في التوقيع بين أمرين:
 
الأمر الأول: النهي عن كثرة السؤال عما لا يعني، تجنّباً لآثاره، وتَخَلُّصاً مما قد يكون في معرفته أذيَّة للمؤمنين، فيكون في ستره عليهم كلُّ الخير لهم والصلاح.
 
الأمر الثاني: إظهار بعض الحِكَم من الغيبة، لئلا يغفل الشيعة عن كلِّ وجوه الحكمة في فعل إمامهم، ويضعفوا أمام أعدائهم، سيَّما مَن لم يُحكم عقيدته منهم.
 
وقد أشارت أحاديث كثيرة إلى هذا الأمر، كالحديث الذي روي عن الإمام الحسن عليه السلام حين قال:
 
أَ مَا عَلِمْتُمْ أَنَّهُ مَا مِنَّا أَحَدٌ إِلَّا وَيَقَعُ فِي عُنُقِهِ بَيْعَةٌ لِطَاغِيَةِ زَمَانِهِ إِلَّا القَائِمُ الَّذِي يُصَلِّي خَلْفَهُ عِيسَى (ع)، فَإِنَّ الله عَزَّ وَجَلَّ يُخْفِي وِلَادَتَهُ وَيُغَيِّبُ شَخْصَهُ لِئَلَّا يَكُونَ لِأَحَدٍ فِي عُنُقِهِ بَيْعَةٌ إِذَا خَرَجَ‏ (كفاية الأثر ص225).
 
فإنَّ الأمة لمّا تخاذلت عن نصرة إمامها ولا تزال، أخفاه الله تعالى عن أعينهم، فعن أمير المؤمنين عليه السلام: اعْلَمُوا أَنَّ الأَرْضَ لَا تَخْلُو مِنْ حُجَّةٍ لله عَزَّ وَجَلَّ، وَلَكِنَّ الله سَيُعْمِي خَلْقَهُ عَنْهَا بِظُلْمِهِمْ وَجَوْرِهِمْ وَإِسْرَافِهِمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ (الغيبة للنعماني ص141).
 
الإمامُ مُبصِرٌ لا يوصفُ بالعمى، فهو نورُ الله الذي ينير الله به سماواته وأرضه.
 
والإمامُ يرى الخلق، مَن آمَن منهم به ومَن كَفَر، لكنَّ العمى إنما أصابهم هم.
 
لقد انكشف لنا كأمَّةٍ أنَّ العمى قَد أصابنا بغياب الإمام، فكما كان هو العادل وكُنَّا من أهل الظُّلم، كان هو المُبصر ونحنُ من أهل العمى، ولولا ذلك لما غيَّبَهُ الله تعالى عنا.
 
ما استحقَّت الأمم بقاء الإمام وظهوره، فعن الباقر عليه السلام: إِذَا غَضِبَ الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى عَلَى خَلْقِهِ نَحَّانَا عَنْ جِوَارِهِمْ (الكافي ج1 ص343).
 
وقد أشار الصادق عليه السلام إلى أن أشد غضب الله تعالى على أعدائهم يكون عند افتقادهم حجته (الكافي ج1 ص333).
 
لقد اختارت البشريَّةُ طريقاً تُغضِبُ الله تعالى به، بقتلها الأنبياء والأولياء والأوصياء، فغضبَ الله تعالى عليها، وغيَّبَ عنها خاتم الأوصياء، بعدما ظُلِمَ وآباؤه أشد الظُّلامات، حتَّى أن الأمة لا تزالُ مصمِّمَةً على قتله لو ظهر، فكان خوفه من القتل وجهاً آخر أبرزه الأئمة كحكمةٍ من حكم الغياب.
 
فعن الصادق عليه السلام: إِنَّ لِلْقَائِمِ (ع) غَيْبَةً قَبْلَ أَنْ يَقُومَ.. إِنَّهُ يَخَافُ، وَأَوْمَأَ بِيَدِهِ إِلَى بَطْنِهِ، يَعْنِي القَتْلَ (الكافي ج1 ص338).
 
لقد ضَحَّت البشريَّةُ بالأئمة الاثني عشر قرابين على مذبح الأبالسة، من شياطين الجن والإنس، واتَّفَقَت كلمتهم على ظلمهم، أو الرضا بالظلم، والسكوت عنه، عدا فئة قليلة لا حول لها ولا قوة.
 
فشاءت إرادة السماء أن تحفظ آخر الأئمة عليهم السلام من القتل ليُكمِلَ المسيرة، وكان في حفظه حفظ حقِّهِ وحقّ المخلصين من هذه الأمة.
 
إن المؤمن يؤمنُ بأنَّ كل ما يواجهه ويقع عليه خارجاً عن اختياره يكون فيه صلاحه، حتى أنَّ الإمام الحسن عليه السلام لما لامَهُ بعضُ الناس على صلحه مع معاوية قال لهم:
 
وَالله، الَّذِي عَمِلْتُ خَيْرٌ لِشِيعَتِي مِمَّا طَلَعَتْ عَلَيْهِ الشَّمْسُ أَوْ غَرَبَتْ، أَ لَا تَعْلَمُونَ أَنَّنِي إِمَامُكُمْ مُفْتَرَضُ الطَّاعَةِ عَلَيْكُم‏ (كمال الدين ج1 ص316).
 
فإنَّ الإمام يلحظُ مصلحة الشيعة وهو غائبٌ كما يلحَظُها وهو حاضرٌ، وإن خفيَ عنهم وجه الصلاح في فعله عليه السلام.
 
وليس إيمانُ المؤمنين بحكمةِ الخضر أعظم من إيمانهم بحكمة الإمام، وهو سرُّ الله تعالى ونوره ومظهر علمه وقدرته.
 
والحمد لله رب العالمين




  • المصدر : http://www.kitabat.info/subject.php?id=179019
  • تاريخ إضافة الموضوع : 2023 / 03 / 06
  • تاريخ الطباعة : 2024 / 03 / 28