• الموقع : كتابات في الميزان .
        • القسم الرئيسي : ثقافات .
              • القسم الفرعي : ثقافات .
                    • الموضوع : "الرواية الحسينية بين التاريخ والحداثة والروح الأدبية" .
                          • الكاتب : رجاء بيطار .

"الرواية الحسينية بين التاريخ والحداثة والروح الأدبية"

 مقدمة: "حول مصطلح الرواية الحسينية"

إن الحديث عن عوالم الرواية الفنية، يأخذنا للحديث عن مضمونٍ وأسلوبٍ وعناصر محددةٍ يتميز بهما هذا النوع الأدبي...
ونحن إذ نقف أمام الرواية، ونتصدى لها بمصطلحٍ جديد، هو الرواية الحسينية، فنحن نقف وقفةً جريئة أمام فنٍّ أدبيٍّ عريق، مغرقٍ في القدم، تدرّج وتطوّر وارتقى مع البشر  وتطوّر حضاراتهم، حتى وصل إلى ما هو عليه الآن، والجرأة هنا تكمن، لا في حسينية الرواية فحسب، بل في تطويع فنٍّ خلق وتربى ونشأ في أحضان الحضارة الغربية، لمقاييس مختلفة، بل ربما مناقضة لتكوينه الأصلي، وأن ننجح بحمد الله وفضله في هذا التطويع، وأن نخرج من هذه التجربة الفريدة مكلّلين بالنصر، شأننا مع كل تجربةٍ حضاريةٍ أخرى، تتداخل فيها روحانية المثال الحسيني، فتخلقها خلقًا آخر، وتقَولبها بقالبها الفذّ، لتضفي عليها روحًا جديدة، متفوّقةً بامتياز على روحها الأصلية.
والرواية الحسينية اصطلاحا، هي روايةٌ تاريخيةٌ تنطبق عليها مقاييس الرواية الفنية، ولكنها تتناول في موضوعها وفكرتها شخصية الحسين عليه السلام، أو إحدى الشخصيات التاريخية التي كان لها دورٌ في نهضته، فهي تتمحور حول تاريخٍ يمتّ بصلةٍ إلى الثورة الحسينية، في زمانها أو مكانها أو في إطارها العام.
من هنا كان لا بد لنا من مناقشة هذا الموضوع الحسّاس الدقيق، المؤثر في أدبنا المعاصر، من خلال محاور عدة، وأن نستوعب في نقاشنا زوايا مختلفة، لكي نخرج في النهاية بخلاصةٍ جديرةٍ بعظمة السيرة الحسينية، مضمّخةٍ بعبيرها الملكوتي، فوّاحةٍ بكل عناصر الوفاء والعطاء التي تتلمذت في مدرسة الحسين عليه السلام.
الرواية وعناصرها الفنية: الرواية عمومًا هي فنٌّ أدبيّ ذو أبعادٍ إنسانية، وهي نصٌّ أدبيٌّ طويل، يحكي قصةً حدثت أو هي محتملة الحدوث، وقد تكون مستحيلة الحدوث، غير أن الكاتب ببراعته الأدبية وتمكّنه من كافة العناصر الروائية، يستطيع أن يقنعنا بإمكانية حدوثها ولو في الخيال. 
وللرواية عناصر عديدة نميّز منها: الفكرة، وهي أساس الرواية، والحدث، وهو تجسيد الفكرة بمجموعة تحركاتٍ داخليةٍ وخارجية يؤدّيها أشخاص الرواية، والسرد، وهو نقل جزئيات الواقع  بواسطة لغةٍ فنيةٍ تعبّر عنها، والبناء، وهو هيكلية الرواية، الذي يبدأ بالمقدمة، متدرّجًا بأسلوبٍ انسيابيٍّ غير انكساريّ نحو العقدة أو الأزمة، ثم الحل أو النهاية، التي تكون عادةً خاتمة المطاف، وهي النتيجة التي يسعى إليها الروائي عبر روايته، فهو يؤدي من خلالها للقارئ رسالةً محددة. أما الزمان والمكان الروائيان، فهما عنصران لا يقلان أهمية عن غيرهما، إذ أنهما يضعان الرواية في موقعها على الخط البيانيّ للشخصيات، التي تتنوّع بين رئيسيةٍ وثانوية، كرويةٍ وثابتة، ويكون لكلٍّ منها إيحاؤه ووظيفته، على طول مسار الرواية.
والرواية بمقاييسها هذه، تنقل إلى القارئ صورة أحداثٍ يريد له الكاتب أن يعيشها ويتأثر بها ويتنفّسها، ولذا فإنها تحمل الطابع الإنساني المجتمعي، ربما أكثر من أي فنٍّ آخر، فهي محاكاة لحياة البشر، والمحرّك الخفيّ لهذه المحاكاة هو الكاتب الذي يحبك خيوط الرواية ويقرّر مصائر شخصياتها ويحدّد نهاياتهم، وهنا يكمن البعد الأساس لإنسانية هذا الفن، فالرواية هي الإنسان وقدره، أو هي ما يراه الروائي في هذا الإنسان وما يريده منه وله.
وظيفة الرواية عبر التاريخ: تتدرّج وظيفة الرواية عبر التاريخ كما يتدرّج شكلها، من المشهدية القديمة إلى السرد الحديث، فالرواية عاشت الإنسان بكل تطوراته منذ البداية، وتقلّبت معه في كل مراحل حياته على هذه الأرض، فبدأت مسرحيةً قديمةً رسم بها اليونان والرومان آلهتهم ونسجوا من خلالها أساطيرهم، "أساطير الأولين"، ثم راحت تترقّى فنّيًّا وأدبيًّا حتى أخذت شكلها الحالي، بالعناصر التي ذكرناها آنفاً...
فالرواية إذاً غربية المنبت والمنشأ، وما ورودها إلينا إلا ثمرة تداخل الحضارات وتلاقحها، ولئن بدأها العرب الأولون أمثالًا وسيرًا ومقامات، فكانت نواة الرواية متجذّرةً في عمق وجدانهم الفكري، ثم انتقلوا إلى تجسيدها مترجمةً أو معرّبة، بعدما قُيّض لهم الاطلاع على الرواية الغربية عن كثب، فلقد استطاع التالون لهم أن يلبسوها لبوس العربية بجدارة، وذاك عائدٌ إلى ما للّغة العربية من مرونةٍ وقدرةٍ مكنونةٍ على التكيّف، مكّنتها من التأقلم، ومن محاكاة أي لونٍ أدبيٍّ طرأ ويطرأ عليها قديمًا وحديثا.
ولهذا السبب ولغيره، نجد أن الرواية الحسينية خُلقت وترعرعت بين أيدينا، وتجسّدت عملاقةً فجأة، دون الحاجة لمرور الزمن الذي يتطلّبه عادةً أي فنٍّ إنساني لينمو ويتطوّر، ويصل إلى مرحلة النضوج، فقد توفّرت للرواية الحسينية كل عوامل النجاح والرقي، ربما قبل ولادتها!
ولكن السبب الأساس والعلة الكامنة خلف هذا النجاح، هي الفكرة الغنية الخلّاقة من جهة، ووجود الوعي الحسيني لدى روائيٍّ متمكّنٍ قادرٍ على سكب هذه الفكرة في القالب الروائي من جهةٍ أخرى، فهو قد استطاع تحويلها من دماءٍ تضجّ بها شرايينه، وأنفاسٍ تعبق في صدره، منذ كانت ثورة الحسين عليه السلام، إلى حروفٍ وكلمات، وألفاظٍ وعبارات، ومقاطع وصفحات، تترجم عشقه الأبدي لهذا المثال الإنساني الرفيع، الذي لا يدانيه مثال.
مسؤولية الروائي الحسيني: إن الروائي عمومًا هو عاملٌ رئيسٌ من عوامل توجيه الفكر البشري، لكونه متأثرًا ومؤثرًا في الوقت عينه في المجتمع الإنساني، فهو الذي يبتكر الفكرة أو يقتبسها، ويسوقها في شكل أحداثٍ تبرزها وتعلنها على الملأ، عبر موهبةٍ منّ الباري عزوجلّ عليه بها، فصقلها بثقافةٍ مناسبة وتربيةٍ منهجية، موجهةٍ أو غير موجهة، جعلته ذا قدرةٍ على إخراج نصٍّ متماسك، يؤثر في نفس المتلقّي وحياته سلباً أو إيجابا، بحسب منهجه وأيديولوجيته ومساره الإنساني.
والفكر الحسيني، والثورة الحسينية تحديدا، كانت ولا تزال مصدر إلهامٍ للشعراء والأدباء وأهل العلم والفن والفلسفة والتاريخ، من كل ملةٍ ونحلة، والدليل على ذلك، ما وصلنا وما لا ينفكّ يصلنا، من صنوف الأعمال الإنسانية الرائعة، التي تغنّت ببطولات تلك الفئة القليلة التي غلبت فئات الظالمين كلها على مدى العصور، بالفكر وكلمة الحق، قبل السلاح والحديد، فإذا هي تعبّر عن تفاعلٍ إنسانيٍّ عميقٍ مع تلك الفكرة الشاملة، وإذا هي تارةً تلامس عظمتها من بعيد، وأخرى تقاربها وتغوص في عمقها وترسم بحبر الدماء الطاهرة التي كانت قرابين فداءٍ لها، نهجًا لا يضمحلّ، وصراطًا مستقيمًا لا يحيد قطّ عن الهدى..
لقد  أثبت الفكر الحسينيّ عبر التاريخ أنه مصدرٌ دائمٌ وينبوعٌ لا ينضب للإلهام الروائي، فإن تلك القصص الملهمة كانت ولا تزال تفيض بالعبر والأحداث والآلام ، وتنثر على جبين الإنسانية طرائف المعاني والكلام، مما ليس له سابقٌ ولا لاحقٌ على مدى الدهور والأيام، بشهادة العدو قبل الصديق، والمخالف قبل المؤالف.
فالحسين عليه السلام، كان ولا يزال مصدر وحيٍ لكل البشر، لا للمسلمين فحسب، ولا للشيعة فقط، بل هو إنسانٌ استثنائي، لكل الأزمنة والأمكنة، ولكل الفنون أيضا، ولذا فقد تمكن الروائي الحسيني من حمل رسالته الخالدة، عبر بناء الرواية المتماسك، ليؤدي بها للعالم أجمع، صيغةً جديدةً لقصةٍ خالدةٍ لا يحدها زمانٌ ولا مكان.
ضوابط الرواية الحسينية: إن المشكلة الأساس التي تواجه الروائي الحسيني، هي في عنصر الاستباق الحاصل في الخبر الذي يشكّل نواة الرواية الحسينية، فهو غالبًا ما يروي قصةً معروفة، ولذا فإن عنصر التشويق الذي هو من أهم عناصر نجاح الرواية، يكاد يكون مفقودًا للفئة العظمى من قرائه، ولذا فإن على الروائي أن يستبدل هذا العنصر ببديلٍ مناسب، بل أن يحاول اللجوء إلى تشويقٍ من نوعٍ آخر، ويعتمد في ذلك على براعته في اختيار الراوي والمنظور الروائي، بحيث يبدع من خلال رؤيةٍ مختلفةٍ للفكرة، تحمل معاني متجدّدةٍ لتلك الثورة، ويحسن استثمار كل بذرةٍ بذرها سيد الشهداء في أرض كربلاء، فيستنبتها ويستنطقها ويخرجها للعالم في قالبٍ جديد بمعاني لا تندثر ولا تبلى، مستمداً من خلود الحسين خلود فكرته، ومن عظمته عظمتها، ومن صفاء كوثره نقاء معدنها، ومن تأثيره الذي لم تؤثر فيه الدهور، تأثيراً يشرح الصدور ويثلج القلوب ويمنحها الرقي والرفعة والعز الدائم.
على أن هناك عقباتٍ أخرى أيضا، تواجه الروائي الحسيني، غير عنصر التشويق الذي يمكن استبداله بتشويق من نوعٍ آخر، مستنبطٍ من ذلك الحدث الاستثنائي.. وتتلخّص هذه العقبات بسؤالٍ واحد:
كيف يمكن لنا أن نوظّف الأحداث ونرسم مسارها في روايةٍ متكاملة، في ظل ما نواجهه في معظم الأحيان من نقصٍ في الأخبار والتفاصيل؟!
علمًا أن اختراع الأخبار غير جائز، لا للروائي ولا لغيره، لما له من تأثيرٍ على أمانة النقل التاريخي وسلامته، فضلًا عن المسؤولية الشرعية التي يحملها الناقل... إذًا، فإن توظيف الخيال واختراع الأحداث هي مهمةٌ شائكةٌ عصيبة، وينبغي على الروائي الحسيني أن يدرك مدى خطورتها، لأن النقل عن المعصوم ليس كالنقل عن سواه، والغاية مهما بلغ سموها لا تبرر الوسيلة، فما هو الحل إذا؟! 
إن الحل ينقسم إلى قسمين:
أولاً:  توخّي الدقّة المتناهية في النقل، باختيار المصادر الموثوقة للأحاديث الشريفة من ناحية، وللأحداث المرافقة لنمو الحدث الروائي من ناحيةٍ أخرى.
ثانياً: اللجوء إلى صياغة التعابير المناسبة لمقتضى الحال عند اللزوم، أي أنه عندما يُعمل الخيال في بعض الأحداث الافتراضية الجزئية للشخصيات الأخرى غير المعصومة، بحيث تؤدي الفكرة المطلوبة، عليه أن يراعي ذكر ما يوضح أنها غير مستندةٍ إلى الوقائع التاريخية، وذلك لكي لا يخلط القارئ بين الحقيقة والخيال، فتقع مسؤولية التحوير التاريخي على الروائي نفسه.
أهمية الرواية الحسينية: إن الرواية عمومًا هي شكلٌ متطور ورائجٌ من أشكال الفنون الأدبية، ولذا فإن للرواية الحسينية تحديدًا أهميةً خاصة في حقل التبليغ ورصد التاريخ، عبر ازدواجية الإمتاع والفائدة، فهي مفهومٌ جديدٌ متجدد، ومصطلحٌ حديثٌ مستحدثٌ لفكرةٍ لا تعترف بالقدم، لأنها تعايش الفكر البشري بكل ضروبه، وتقدّم له في كل يومٍ غذاءً مختلفا يسدّ احتياجاته، وتوفّر له النماء والازدهار على مدى وجوده ، وهي بفنّيتها عنصرٌ تبليغيٌّ حديث، لا يقل عن عناصر التبليغ الأخرى، لأنها باتخاذها القالب الإبداعي الممتع والمؤثر في وجدان المتلقي وعوطفه، قد وضعت نفسها في مصافّ الأدب العالمي الخالد، بل لعلها أكثر الآداب والروايات جدارةً بالخلود، ففكرتها هي سر نجاحها، ولئن قُيّض لفكرةٍ بهذا الرقي من يُحسن إظهار رقيها بهذا القالب المبتكر، فذاك هو غاية المطلوب، لأن عظمة الحسين ومن كان منه بسبيل، لا تقاس بها عظمة كل أبطال الروايات السابقين واللاحقين، سواءً أولئك الذين افتراهم الإغريق والرومان آلهةً وأنصاف آلهة، أو غيرهم ممن ألّهتهم الحضارة الحديثة بعناوينها السريالية والوجودية والرومانسية والكلاسيكية وغيرها، فشخص الحسين لا يماثله شخص، وثورته لا تدانيها ثورة، ولذا فإن كل ما يأخذ منه بسبب هو متفوّقٌ راقٍ لا يدانيه شيءٌ ولا أحد.
الرواية الحسينية مصدر إبداعٍ متجدّد: إن الرواية الحسينية هي حدثٌ عصريٌّ خالد، ينبغي أن يأخذ موقعه الصحيح على قمة الآداب الإنسانية، ولا يحدث ذلك إلا بإعطائه النصيب الأوفى من اهتمام الروائيين والنقّاد، فهو، وبلا مبالغة، أكثر من جديرٍ ومؤهّلٍ ليكون بدايةً لمنحىً جديدٍ من الرواية، إذ يختلف اختلافًا بارزًا عن الرواية التاريخية المعروفة، لأن فيه عنصرًا أساسيًا لا يتوفّر فيها، ألا وهو روحانية المثال الواقعي، الذي يكاد لشدة مثاليته أن يلامس الخيال، إذاً فهو ارتقاءٌ بالرواية التاريخية إلى بعدٍ آخر، يحتاج إلى من يكتشفه وينقله بجدّيّةٍ ومسؤوليةٍ ووعيٍ حضاريٍّ كافٍ، إلى عالم الواقع.
 رجاء محمد بيطار*
(كاتبة وروائية لبنانية، من أوائل كتّاب الرواية الحسينية، من إصداراتها الروائية: "يوميات طفلة من كربلاء"،"سألتك عن الحسين"، "قاب قوسين أو أدنى من الحسين"، "عذراء الأندلس"، وغيرها...




  • المصدر : http://www.kitabat.info/subject.php?id=179250
  • تاريخ إضافة الموضوع : 2023 / 03 / 12
  • تاريخ الطباعة : 2024 / 04 / 19