![](https://www.kitabat.info//pic/2024b//400f13033.jpg)
إن الله تعالى لم يرتض للإنسان غير الاسلام دينا؛ لأنه دين التوحيد، ودين المبادئ والقيم والحقوق، ودين الانبياء جميعا، ولا يوجد دين عند الله غير الاسلام((وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ))(1)، وكذلك (( إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ))(2)، ويضاف لها قوله تعالى: ((وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ ))(3)، ولأنه الدين الأوحد عند الله فلابد له أن يحافظ على الانسان وحقوقه، وقد ذكر أن لكل انسان حقا، وذلك بأن تكون له حياة كريمة تبتني على أساس العدل والمساواة، وأن يكون آمنا على نفسه وعلى أهله ومصالحه وأمواله، ولا يلحقه ضرر طالما أنه لم يعتد على حقوق الآخرين، أو على المجتمع أو المصالح العامة في الدولة، وله عندئذ الحق الكريم الذي وهبه له الله تعالى وأقره في كتابه العزيز: ((وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُر))(4)، ذلك الحق الذي يستحقه الانسان، وليس لأي أحد مهما بلغت درجته أن يمس به أو يسلبه منه او يتجاوز عليه لأي عذر كان.
والمقصود بالحق هو المصلحة الثابتة التي يقررها المشرع الحكيم للإنسان او للمجتمع او لكليهما معا، علما أن الاسلام قد جعل حقوق الانسان شاملة لكل انواع الحقوق، سواء كانت اقتصادية أو اجتماعية أو سياسية او ثقافية، وهي ثابتة وتعم كل الافراد من دون تفريق او تمييز، فالكل متساوون في الحقوق والواجبات، نعم هي مقيدة بعدم الاعتداء على حقوق الآخرين او المصالح العامة التي يشترك فيها المجتمع وجميع الافراد.
ومن أهم الدوافع وراء نهضة الامام الحسين(عليه السلام) هي المحافظة على حقوق الناس وكراماتهم، ويظهر ذلك من معظم خطبه وكلماته التي بثها قبل واثناء المعركة، فقال مثلا: "ألا ترون إلى الحق لا يعمل به والباطل لا يُتناهى عنه" (5) وقوله: " فمن قبلني بقبول الحق فالله أولى بالحق ومن ردَّ عليَّ هذا، اصبر حتى يقضي الله بيني وبين القوم الظالمين، وهو خير الحاكمين"(6)، والباحث المنصف يرى أن حركته عليه السلام حركة اصلاحية، ومادامت هي كذلك فستكون أول أهدافها هي صيانة الحقوق والحفاظ عليها.
حقوق الأخوة
لا شك أن الإسلام قد ميز هذا العنوان - أي عنوان الاخ والأخوة- لما له من أهمية كبيرة في نهجه وديمومة الحياة السليمة التي ينشدها؛ لبناء الأسرة الصالحة والمجتمع الصالح، إذ إن الاخ هو صنو أخيه، فهما يشتركان في الأب أو الأم أو كليهما، فمنبعهما مشترك، ومنبتهما كذلك، وهما من أرومة واحدة، فلابد أن لا يعكر صفو هذا الاشتراك شيء مما علق من هذه الدنيا، وان يحتفظ كل منهما بآصرة الرحم العظيمة، وان لا يستسلموا للعواطف والعصبيات المتشنجة التي تلفظها حماقات البعض ممن انقادوا للدنيا، وان لا ينغروا بما توفره لهم بعض المغريات التي تصور بأنه يمكن أن يقود الانسان بمفرده المركب الذي اشترك معه اخوانه من دون اختياره، ويمكن له ان يتركهم في ذلك العباب لتقاذفهم أمواجه من دون أن يمد يديه اليهم، وكذلك له أن يعي انه غير مخير في بعض قضاياه، ومنها رابطة النسب، التي تفرض عليه أما وأبا وأخوة واعماما واخوالا، وتفرض عليه أيضا أن يحترمهم ويرعى حقوقهم التي من أهمها التواصل وعدم الانقطاع عنهم.
ولذا قد أكد الله تعالى على دور الأخ - سواء كان شقيقا أو غير شقيق-، ولخصه بمفاهيم متعددة، من خلال ما نص عليه في كتابه العزيز، ويمكن لنا أن نعرضه من خلال الآيات الآتية:
1- قوله تعالى: ((واجعل لي وزيرًا مِن أَهلي* هارونَ أَخي* اشدُد بِهِ أَزري* وأَشرِكهُ في أَمري* كَي نُسبِّحَكَ كثيرًا* ونذكُرَكَ كَثيرًا* إِنَّكَ كُنتَ بِنا بَصيرًا))(7).
2- وقوله تعالى : ((ولقَدْ آتَيْنا مُوسَى الكِتَابَ وجعَلْنَا معهُ أَخاهُ هَارُونَ وزِيرًا))(8).
3- وقوله تعالى : ((وأَخي هارُونُ هوَ أَفْصحُ مِنِّي لِسانًا فَأَرْسِلْهُ معيَ رِدْءًا يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخَافُ أَن يُكَذِّبُونِ* قَالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَانًا فَلَا يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا بِآيَاتِنَا أَنتُمَا وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغَالِبُونَ))(9).
ولو دققنا في الآيات الشريفة لاسيما في قوله تعالى: (هارون أخي، أشدد به أزري، وأشركه في أمري)، للاحظنا الاشارة الواضحة الى أخوة هارون لموسى، وانه لابد ان يكون له سندا وعضدا، وان يكون شريكا له في امر الرسالة والتبليغ، وهذه النكتة موجودة في حديث المنزلة للنبي المتفق عليه والتي روته كتب الصحاح والموسوعات الحديثية الأخرى، ومنها ما رواه البخاري " قال النبي صلى الله عليه وسلم لعلي أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى"(10) ورواه مسلم بإضافة جملة: " غير انه لا نبي بعدي"ومقتضى هذا الحديث تكون لعلي(عليه السلام) جميع المنازل التي كانت لهارون- إلا النبوة- لأن الحديث عام ولا يوجد فيه اي تخصيص سوى جملة (إلاّ أنّه لا نبيّ بعدي)(11) ، وبحسب المصادر أن الرسول قد أدلى بهذا الحديث في يوم المؤاخاة حيث روى محمد بن حنبل وروى أحمد بن حنبل وغيره: أنّه «صلّى الله عليه وآله» آخى بين الناس، وترك علياً حتّى الأخير، حتّى لا يرى له أخاً؛ فقال: يا رسول الله، آخيتَ بين أصحابك وتركتني؟ فقال: إنّما تركتُك لنفسي، أنت أخي وأنا أخوك، فإنْ ذكرك أحد، فقل: أنا عبد الله وأخو رسوله، لا يدّعيها بعدك إلّا كذّاب، والذي بعثني بالحقّ، ما أخّرتك إلّا لنفسي، وأنت منّي بمنزلة هارون من موسى، إلّا أنّه لا نبيّ بعدي، وأنت أخي ووارثي"(12)
وكذلك قد ذكر الحديث في يوم بدر ويوم فتح خيبر وغزوة تبوك ويوم غدير خم وحجة الوداع، وأنه (صلى الله عليه وآله) قد خص موسى وهارون بالذات ولم يأت ببقية الأنبياء الذين كانوا في زمن واحد كالخليل ابراهيم ونبي الله نوح أو الخليل وولده اسماعيل، أو يعقوب ويوسف (عليهم الاف التحية والسلام)، والمناقشة في سنده او التشكيك في صدوره هي حرفة العاجزين، والمناقشة في دلالاته على عدم العموم وان المقصود منه هو " أن عليًا خليفة عن النبي مدة غيبته بتبوك، كما كان هارون خليفة عن موسى (عليه السلام) في قومه مدة غيبته عنهم للمناجاة" فهي تحميل النص اكثر مما يحتمل ولي عنقه بصورة قسرية لصالح أهواء وسياسات بعيدة عن اللغة والموضوعية.
على انه (صلى الله عليه واله) قد كرر الحديث في مقامات متعددة كما ذكرنا ولم يقتصر على غزوة تبوك فقط، ويمكن مراجعة كتاب بحار الانوار للعلامة المجلسي لمعرفة المقامات التي كرر فيها النبي حديث المنزلة(13).
4- وقوله تعالى: ((وَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ آوَىٰ إِلَيْهِ أَخَاهُ ۖ قَالَ إِنِّي أَنَا أَخُوكَ فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ))(14).
فإذا كان الأخ متعبدا بتعاليم السماء، فينبغي أن يكون على دراية ووضوح بأن ذكر الأخ لم يكن ذكرا هامشيا، بل أن له دورا مركزيا في مسيرة الحياة، واذا كان كذلك لابد ان تكون له حقوق، وعلى الاخ الاخر ان يرعاها ويلتزم بها ان كان مسلما، وفي المرتبة السابقة لابد له أن يحافظ على القانون الالهي بصورة جلية لا يعتريها شك وريب، وقد نبه على ذلك الامام زين العابدين في رسالة الحقوق، حيث قال:
"وحق أخيك، أن تعلم أنه يدك التي تبسطها، وظهرك الذي تلتجئ إليه، وعزك الذي تعتمد عليه، وقوتك التي تصول بها، فلا تتخذه سلاحاً على معصية اللَّه، ولا عدةً للظلم لخلق اللَّه، ولا تدع نصرتَه على نفسه ومعونته على عدوّه، والحؤول بينه وبين شياطينه، وتأدية النصيحة إليه، والإقبال عليه في اللَّه، فإن انقاد لربه وأحسن الإجابة له، وإلا فليكن اللَّه آثر عندك وأكرم عليك منه"(15).
وخلاصة ما يريد الامام ان يقوله في هذا المقطع الجميل هو: أن الاخ اذا اتحد مع أخيه سيكونان يدا واحدة، وسيكون شرفهما وعزهما وهمهما واحدا، فالأخ بمثابة اليد والقوة التي يدافع ويناهض بها، وهو الظهر الذي يعتمد عليه ويعينه في مسيره وكفاحه، ولكن ذلك لا يعني أن يتخذ اخاه سلاحا في معصية الله ويكون مع اخوانه ظالمين ومعتدين على حقوق الآخرين، مستغلا قوتهم لكي يظلم الناس، بل عليه أن يعينهم اذا وقفوا ضد نزوات ورغبات نفوسهم، وان يحول بينهم وبين شياطينهم، ولا يترك النصيحة لهم بأي حال، وان يساعدهم على التوجه الى الله تعالى، وليس له ان يتركهم وهم يديرون بوجوههم عن الله تعالى، فاذا قبلوا النصيحة وانقادوا الى ربهم فقد نصرهم وانتصر لله تعالى، اما اذا لم يقبلوا نصائحه وأصروا على الانحراف، فمن المؤكد ان حق الله وطاعته ستكون مقدمة عليهم، إذ أنك - ايها الأخ- قد اطعت الله، واطعت حق الاخوة التي كان يجب عليك ان تؤديها وقد فعلت.
ولكن ما هو حق الاخ على أخيه؟
هناك حقوق للإخوان على اخوانهم، ويمكن أن نلخصها على النحو الاتي:
1- من حق الاخ على اخيه المحبة والاحترام وحسن المعاملة، كونه اقرب الناس اليه نسبا ودما بعد أمه وابيه، وعليه ان يحب له ما يحب لنفسه، وقد عُلق الايمانُ على تلك المحبة وذلك الحق الذي قرره النبي صلى الله عليه وآله في قوله :" لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه" (16).
2- ومن حق الكبير على الأخ الصغير الاحترام والتقدير، وتقبل النصيحة، ولنا بالحسين أسوة حسنة، حيث قال الامام الباقر(عليه السلام): " ما تكلم الحسين بين يدي الحسن إعظاما له، ولا تكلم محمد ابن الحنفية بين يدي الحسين إعظاما له"(17).
3- ومن حق الصغير على الكبير اللطف والاحسان والشفقة عليه، واشعاره بأنه بمنزلة الوالد، أو الوالدة، ومن حقه كذلك ان يقف معه ويجنبه الأذى والضرر، فليس له ان يعنفه ويشتمه، نعم اذا وجد فيه ما يسيء الى الاخلاق عليه أن ينهاه بالرفق واللين والنصيحة، ويرشده الى الطريق الصحيح الذي ينبغي له ان يسلكه.
4- ومن حقه الاخ ايضا ان يكون اخوه عضدا له ونصيرا له ولأخوته، وان يكون عونا له في حياته، وان يسعى لمساعدته من دون أن يستجدي ذلك منه؛ كون مساعدته هو حق له، وعليه ايضا ان يحافظ على اسرار أخيه، وان يكون الاخ صادقا معه ولا ينقل عنه شيئا يضره ويؤذيه، ولنا بتسليم ابي الفضل العباس لأخيه الحسين وتصديقه خير مثال، اذ يقول الامام الصادق بحق عمه: "أشْهَدُ لَكَ بِالتَّسليم وَالتَّصديق والوفاء وَالنَّصيحَةِ لِخلف النَّبِيِّ"(18) .
5- ومن حق الاخ على أخوته ان لا يضمروا له العداوة ولا يضمرها لهم كذلك، وان لا يخاصمهم ويخاصمونه، ولا يطمع فيه ولا يطمعون فيه، لأن ذلك اساءة له ولأخوته ولأبيهم الذي لا يتمنى لهم ذلك، والخلاف والنزاع بين الاخوة هو اساءة للأسرة من اي طرف كان، فقد قال امير المؤمنين : "يا كميل إن لم تحب أخاك فلست أخاه"(19)، ويقول الامام الصادق: " تحتاج الاخوة فيما بينهم إلى ثلاثة أشياء، فإن استعملوها وإلا تباينوا وتباغضوا وهي: التناصف. والتراحم. ونفي الحسد"(20).
وليست بعيدة عنا تلك التعاليم التي رسخها الاسلام، وهو يحث على المحافظة على حق الأخ، وكيف لا وهو من أوداء الأب ومن آثاره، ولابد للولد أن يحب ما أحبه الوالد، ولذا قال رسول الله : " لا تقطع أوداء أبيك فيطفئ نورك"(21)، كذلك قوله: " ثلاث يطفين نور العبد: من قطع أوداء أبيه، وغير شيبته، ورفع بصره في الحجرات من غير أن يؤذن له"(22).
وقال الامام في نهج البلاغة: " مودة الاباء قرابة بين الأبناء، والقرابة أحوج إلى المودة من المودة إلى القرابة"(23).
وينقل الامام علي(عليه السلام) عن رسول الله (صلى الله عليه واله) ثلاثين حقا هي مجموعة حقوق الأخ على أخيه فقال:
" لِلمسلِم على أَخيه ثلَاثون حقّاً لا براءة له منهَا إِلَّا بالأَداء أَوِ العفوِ: يَغفرُ زلَّته، ويَرحمُ عبرَته، ويسترُ عورَته، ويقيل عثرتَه، ويقبل معذِرتهُ ويردُّ غيبته ويُديم نصيحتهُ، ويحفظ خُلَّته، ويَرعى ذمَّته، ويعود مرضتهُ، ويشهد ميِّته، ويجيب دعوته، ويقبل هديَّته، وَيكافئُ صلَته، ويَشكر نِعمته، ويحسِن نصرتَه، وَيحفظ حلِيلَته، ويَقضِي حاجتَه، ويشفعُ مسأَلَته، ويسَمِّت عَطسته، ويرشد ضالَّته، ويردُّ سلامه، ويطيب كلامه، ويبَرُّ إنعامه، ويصدِّق إِقسامهُ، ويوالي وليَّهُ، ولا يعاديه، وينصره ظالما وَ مظلُوما، فأَمَّا نصرتهُ ظالماً فيرُدُّه عن ظُلمه، وأَما نُصرتهُ مظلوماً فيعينه على أَخذِ حقِّه ولا يسلِهُ، ولا يخذلهُ، وَ يُحبُّ لهُ من الخيرِ ما يُحبُّ لنفسه، ويكرهُ لهُ من الشرِّ ما يكرهُ لِنفسهِ”. ثم قال (عليه السَّلام): سمعتُ رسول اللَّهِ ( صلى الله عليه و آله ) يقول: “إِنَّ أحدكم ليدعُ من حقوق أَخيه شيئاً فيطالِبه بِه يوم القِيامة فيقضي لهُ وعليه" (24).
العباس بن علي(عليه السلام)
ولنا في أخوة العباس بن علي وطاعتهِ وانقيادهِ وحبِّ الحسين له، والتزامهما بتكليفيهما خير مثال على صيانة واحترام حقوق الأخوة.
وقد ذكر الإمام علي بن الحسين (زين العابدين) ايثار العباس وبلاءه وفداءه لأخيه وسيده الحسين، فقال "رحم الله العباس، فلقد آثر وأبلى، وفدى أخاه بنفسه حتى قطعت يداه، فأبدله الله (عز وجل) بهما جناحين يطير بهما مع الملائكة في الجنة، كما جعل لجعفر بن أبي طالب، وأن للعباس عند الله تبارك وتعالى منزلة يغبطه بها جميع الشهداء يوم القيامة"(25).
كذلك شهد له الامام الصادق بقوله: "اشهد انك قد بالغت بالنصيحة وأعطيت غاية المجهود"(26)، ولا يقل عنه جهاد اخوته وايثارهم، فقد اشتهر عنه أنه قد قال لهم: حاموا عن سيدكم وامامكم، وقال : تقدموا يا بني امي حتى اعلم انكم قد نصحتم لله ولرسوله، ومن المؤكد ان درس العباس وبسالته وذوده العظيم عن سيده واخيه اعظم درس يمكن عرضه للأجيال للإفادة منه، وكذلك اخوته وما بذلوه وقدموه فداء لسيدهم واخيهم وامامهم، ولا شك ان الاجيال المؤمنة بالحسين ونهضته لابد لها ان تنقاد لتلك الافعال، ويكون الحسين واخوته اسوة حسنة لهم، وليس من المقبول ان تأخذهم العزة بالإثم ويسوغوا لأنفسهم ترك ذلك الحق الذي أقره وقرره الاسلام الحنيف.
ولذا ارتكزت في المخيال الشيعي صورة الأخوة، بل نسخت كل الصور السابقة، وأضحى مفهوم الاخوة هو السائد كلما ذكر العباس في واقعة كربلاء، اذ اصبح رمزا للإيثار والوفاء والتجسيد الكامل للرؤية الاسلامية في الارتباط الأخوي، وتوزعت صور الأخوة المتمركزة في ابي الفضل، بينه وبين سيده الحسين من جهة وبينه وبين أخته زينب بنت علي (عليهم السلام)، حتى رسخ مفهوم كفالة العباس لأخته زينب، واندك بشخصية العباس، سواء كان ذلك المفهوم مذكورا في الروايات التاريخية او غير مذكور.
وأحسب ان ربط مفهوم (الكفالة) بالعباس له ارتباط وثيق بطبيعة الانسان العربي لا سيما العراقي وبالتحديد الجنوبي، الذي يرى أن هناك ارتباطا مميزا بين الأخ واخته، بحيث يكون حاميا لها ومدافعا عنها، حتى عرف في مأثورهم وتراثهم تسميات تحدد ذلك المعنى، مثل قولهم (أخوة هوبة) وغيرها من التسميات التي تحمل المعاني المتسقة بالنخوة والنجدة والكفالة، وأخوّة العباس للحسين ولزينب (عليهم السلام)قد برزت بواقعة الطف وقد شهد بها الائمة في رواياتهم؛ ولذا تم تعويض كلمة الأخ بالكفيل؛ لتماهي الكفالة مع صفات الشجاعة والايثار.
ويبدو أن هذا الأمر طبيعي جدا لأن التفاعل العاطفي مع القضية الحسينية – وهو المرتكز الرئيس فيها- هو الذي يفضي الى ايجاد مفاهيم لا تضر بالبناء الرئيس بحقيقة الواقعة واحداثها التي اتفق عليها الرواة والمؤرخون .
وهناك أمر آخر ارتبط بالعباس بن علي وهو شدُّ رايته في المجتمع العشائري العراقي الجنوبي، ويحصل ذلك حينما تحدث خصومة بين عشيرتين، فينتهي الأمر الى مرحلة المفاوضات من اجل حل النزاع القائم بينهما، ولكي تتأكد النية لحل النزاع يلجأ الى شد راية العباس، التي تعبر عن احترام التعهد والمواثيق التي يضعها شيخ العشيرة على نفسه وعشيرته، بمعنى أن الشروط التي قد توضع على عشيرته لابد له ولأفراد العشيرة أن يلتزموا بها مهما حصل وبأي ظرف كان.
وتوظيف العشائر العراقية لهذه الرمزية نابع مما استقر في اذهانهم من الصفات المحمودة التي حملها العباس وجسدها في واقعة الطف من الايثار والوفاء بالعهد الذي ألزم نفسه لسبط النبي (صلى الله عليه وآله).
ولم يكتفوا بذلك بل أن مكانته المحفورة في وجدانهم قد دفعتهم الى أن يكون العباس مركزا وفاصلا بين الصدق والكذب والعهد وعدم الوفاء به، فاعتمدوا على القسم(الحلف) به عليه السلام، اذا ارادوا اثبات شيء أو نفيه، ويعود ذلك الى الايمان الراسخ في نفوسهم بأن الجرأة وعدم الوفاء بالعهد الذي حلفوا به في مقام العباس ستكون عواقبه وخيمة عليهم، ويذكرون لذلك شواهد كثيرة، والتاريخ القديم والحديث شاهد على ما ذكرناه، بل حتى الذين عاشوا في الضفاف الأخرى نراهم قد تأثروا بهذا الأمر، ويمكن أن نذكر لذلك مثالا بسيطا وهو ما دونه (حردان التكريتي) في مذكراته، حيث اتفق مع رئيسه (البكر) على أن يذهبا الى كربلاء لغرض الحلف عند ابي الفضل العباس على عدم خيانة أحدهما للآخر(27).
الشعر في العباس بن علي
أما الأدب والشعر الوجداني فإنه يعد مثالا لتوظيف مفهوم الأخوة التي جسدها العباس، وكذلك وظفوا شجاعته التي ورثها عن أبيه، ومن هنا ظهرت شخصيته في المرتبة الثانية بعد الامام الحسين، ولم يكن ذلك نابعا من فراغ، بل كان الشعراء معتمدين على ما رسخه الأئمة من صفات له، كما هي مذكورة في زيارته، ومما قيل في حقه من شعر كثير لا يحصى، ولا نجانب الواقع اذا اطلقنا عليه بالشعر العباسي، نسبة الى العباس بن علي، وهو بموازاة الشعر الحسيني، فمن ذلك قول جعفر الحلي:
عـبست وُجـوهُ القَومِ خوفَ المَوتِ وال عـــبّــاسُ فــيــهـم ضــاحِــكٌ مُـتـبـسِّـمُ
قلبَ اليمينَ على الشِّمالِ وغاص في ال اوســـاطِ يحـصُـدُ لـلـرؤوسِ ويَـحـطِمُ
وثـنـى أبــو الـفـضل الـفـوارس نـكّصا فــــرأوا أشــــد ثـبـاتـهـم أن يـُـهـزمـوا
بَــطَـلٌ تـــورَّثَ مِـــن أبــيـه شَـجـاعـةً فـيـهـا انُـــوفُ بــنـي الـضلالَـةِ تُـرغَـمُ
عــرَفَ الـمـواعـظَ لا تُـفـيـد بـمَـعـشَرٍ صـمّـوا عَــنِ الـنَّبأ الـعظيم كـما عَـموا
فـانـصـاعَ يـخـطب بـالـجَماجم والـكُـلى فـالـسَّـيـفُ يــنـثـرُ والـمُـثـقَّـفُ يَــنـظِـمُ
أوَ تـشـتـكي الـعـطـشَ الـفـواطمُ عـنـده وبــصـدر صـعـدتـهِ الــفـراتُ الـمـفعم
فــــي كــفـه الـيـسـرى الـسـقـاءُ يـُقـلـّهُ وبــكـفّـه الـيـمـنـى الــحـسـامُ الـمـخـدم
بـطــلٌ إذا رَكِــــبَ الـمُـطَّـهَـمَ خِــلـتَـهُ جَــبَــلاً أشَــــمَّ يَــخِــفُّ فــيــه مُـطـهَّـمُ
قــسـمـاً بــصـارِمِـهِ الـصَّـقـيل وإنّــنـي فـــي غــيـر صـاعـقةِ الـسَّـما لا أقـسِـمُ
لــولا الـقَـضا لمحى الـوجـودَ بِـسَـيفهِ واللهُ يــقـضـي مــــا يــشــاءُ ويَــحـكُـمُ
فـــهــوى بــجـنـب الـعـلـقـمي ولــيـتـه لــلـشـاربـيـن بـــه يــــداف الــعـلـقـم(28)
وقال محسن ابو الحب:
ابو الفضل لا تحصى مواقف فضله فمن ذا يجاريه و من ذا يقاربُهْ
رأى الموتَ دون ابن النبي حياتَه لذلك ساغت في لهاه مشاربُه
فقام يلاقي غمرة الحتف خائضا عُجاجَتها والحربُ تذكو مواهبُه
و طاف على الجيش اللهام كأنه سحابُ هوامٍ بالحتوف سواكبه
تطوف به بيض الصفاح كأنّما توسطها بدرٌ وهنّ كواكبُه
كأن اسود الحرب حمرٌ يشلّها اخوة لبدٍ والبارقات مخالبه
يحاذره المقدار خوف قضائه عليه فتمسى كالحات مراقبه (29)
ومن الشعر المعاصر قال جاسم الصحيح:
وَقَفْتَ علـى شطِّ الفراتِ مُعَلِّما وسَطَّرتَ ناموسَ الأُخُوَّةِ بالظَّما
وعُدْتَ.. وفي عينيكَ حَطَّتْ قبيلةٌ من الشَّـرَفِ العالـي فأَلْفَتْ لـها حِـمى
كأنَّكَ لم تـحملْ من الـماءِ قِرْبَةً ولم تنعقدْ زنداً عليها، ومعصما
ولكنْ حـملتَ النهرَ من مُسْتَقِرِّهِ وأقبلتَ في أمواجِهِ ثائرَ الدِّما
وما عُدْتَ تزهو بالحديدِ مُـحَزَّماً ولكنْ بدستور الوفاءِ مُـحَزَّما
مشيتَ كما تـمـشـي (القصيدةُ) في الهوى (مـجازاً) شجيًّا أو (بديعاً) مُتَيَّما
حسامُكَ أهدَى الأبجديَّةَ حَدَّه وباللغةِ الفصحَى جوادُكَ حمحما
هنا فارسٌ.. سيفٌ.. حصانٌ.. وقصَّةٌ رواها لسانُ الريحِ حتَّى تَلَعْثَما
هنا أنتَ تغتالُ الـمسافةَ عابراً من النهر أو بالنهرِ تنوي (الـمُخَيَّما)
هنا رُحْتَ تـختطُّ المنايا قصائداً وتكسو قوافيهنَّ لـحماً وأَعْظُما
هنا (القِرْبَةُ) الـحُبلَـى أراقوا جنينَها من الـماءِ فاغتالوكَ ورداً وموسما
هنا دَمُكَ الـممتدُّ من وَجَعِ الثرَى إلى نجمة الـحُبِّ الأخيرةِ في السَّما
ذراعاكَ منهوبانِ إلاَّ عزيمةً تـمدُّ ذراعَيْهَا إلى الله سُلَّما
ذراعانِ ما زالا علـى كلِّ موقفٍ يفيضانِ في مـجرَى الضمائرِ (زمزما)
ذراعايَ لو كانَتْ تليقُ بـضيغمٍ لما خِلْتُها تـختارُ غيرَكَ ضيغما!
أَتَيتُكَ للسُّقيا ففي القلبِ صارمٌ من العطشِ الـمسلولِ جمراً وعلقما
وثَمَّةَ أطفالٌ عطاشَى بداخلـي تناديكَ: يا عَمَّاهُ.. من خيمةِ الظَّما
فهَبْني بياناً يستعيدُكَ معجماً من الشِّيَمِ الكبرَى، ويـجلوكَ مَنْجِما
فيا طالـما اشْتَاقَتْ مدائنُ خاطري أقَلِّدُها أبـهَـى معانيكَ أَنْجُما
ولكنْ تَـخَطَّفْتَ العبارةَ من فمي وعُدْتَ .. وهذا أنتَ تـختطفُ الفَما
كأنِّـيَ في نجواكَ من فرط خشعتي أقيـمُ لنـفسـي في رحابِكَ مَأْتَـما (30)
وكذلك قال شاعر آخر:
يا أبا الفضلِ والفضائلِ عذرًا إنْ غدونا على هواكَ ندامى
فلنا في انتشائِنا منكَ سِحرٌ كان في صفقة الكؤوس مُداما
وحديثٌ عن البطولة يسمو حول معناكَ يستفزّ الأناما
عِشتَ فوق الحياة جيلاً فجيلاً وبكَ البأسُ لن يذوقَ الحِماما
كان أن أخرس المواهبَ حتى قد تهاوت ولن تجيدَ الكلاما
والفراتُ الذي سقاكَ دموعًا قد جرى فيك أنهرًا تترامى
وانطفاءُ العيــون كان انــطفاءً أم خلودًا يفجّرُ الإلهاما ؟
حَمَلت جثّةَ الـرمال كـفوفٌ شامـخاتٌ بجرحها تتسامى (31)
.......................................................
1 - ال عمران: 85
2 - ال عمران: 19
3- آل عمران: 102
4 - الكهف: 29
5 - تحف العقول، ابن شعبة الحراني، ص 245
6 - بحار الانوار - ج ٤٤ / ص ٣٣٠
7 - طه، 29- 35
8 - الفرقان، 35
9 - القصص، 34
10- صحيح البخاري (6/ 3) (4416)
11- صحيح مسلم (4/ 1870)
12 - مسند ابن حنبل : 1 / 496 / 2040 .
وقد ذكرت هذا الحديث المصادر الآتية:1- تاريخ دمشق : 42 / 53 / 8388 ، 2- الاستيعاب : 3 / 202 / 1875 - 3- خصائص أمير المؤمنين للنسائي : 134 / 66 - 4- تاريخ بغداد : 12 / 268 / 6712 ، 5- كنز العمّال : 13 / 109 / 36356 – 6- المناقب للكوفي : 1 / 314 / 233 . .
7- تاريخ دمشق : 42 / 52 / 8385 ، 8- كنز العمّال : 11 / 602 / 32907 نقلاً عن المعجم الكبير ؛9- الأمالي للمفيد : 174 / 4 ، 10- الخصال : 429 / 6 و 7 ، 11- الأمالي للطوسي : 573 / 1186 ، 12- بشارة المصطفى : 77 ، 13- المناقب للكوفي : 1 / 383 / 300 .
13 - بحار الأنوار : ۳۷ / ۲٥٤ ـ ۲۸۹ ب : ٥۳ (باب أخبار المنزلة والاستدلال بها على إمامته (عليه السلام) و ۳۸ / ۳۳۰ ـ ۳٤۷ ب : ٦۸ باب الاخوة و ۱۸ / ۲۱۲.
14 - يوسف، 69
15 - شرح رسالة الحقوق، ص623
16 - صحيح البخاري، باب من الإيمان أن يحب لأخيه ما يحب لنفسه/ ص14
17 - بحار الانوار، ج43 ، ص 319
18- كامل الزيارة، ص97
19 - بحار الانوار، ج74، ص414
20- بحار الانوار، ج75، 236
21 - بحار الانوار، ج71 ، ص264
22- بحار الانوار، ج71، ص 264
23 - نهج البلاغة، ج4، ص73
24- بحار الانوار، ج71، ص236
25 - أمالي الصدوق، الشيخ الصدوق، ص548
26 - كامل الزيارة، ص97
27- يقول حردان التكريتي في مذكراته: " بعد اسبوع واحد من حركة 30/ تموز / 68 ذهبت الى احمد حسن البكر وقلت له بالحرف الواحد : انا لا اشك في اننا يجب ان نبذل الكثير لكي نستمر في الحكم وقد يتم لنا ذلك، ولكن الذي اشك فيه هو ان نظل مخلصين لبعضنا البعض، ولهذا فان علينا- ان نحصل على ضمان لاستمرار صداقتنا الحاضرة... قال: لا بأس .. واظن ان ابو الفاضل العباس بن علي المدفون في مدينة كربلاء خير من يمكن ان يشد تحالفنا، كيف ترى ان نذهب اليه الليلة ؟ قلت ليس لدي مانع... والحقيقة فان ابو هيثم كان يبحث هو الاخر عن ضمان يحافظ على ولائنا له بعد ان تمت الخيانة برفيق انقلابنا الدكتور عبد الرزاق النايف وعلى ايدينا: انا وعماش والشيخلي... وفي تمام الساعة الثامنة من نفس الليلة ركبنا سيارة عادية متجهين نحو كربلاء وكنا اربعة: الرئيس وأنا وأحد المرافقين والسائق، ولكي لا ننكشف حملنا تابوتا فارغا على سقف السيارة، باعتبارها جنازة عادية نحملها لدفنها في النجف. وكنا نلبس اذ ذاك الكوفية والعقال على الطريقة البدوية، وصلنا مدينة كربلاء في اللحظة التي كان خدام روضة العباس يشتغلون بإقفال ابواب الصحن, ولذلك فقد حاولوا منعنا من الدخول، وبعد اصرار من قبلنا على اساس اننا بصراويون نريد التوجه الى النجف ليلا لدفن جنازتنا. فتحوا لنا الابواب فتوجهنا نحو الرأس ووضعنا الجنازة امامنا وبدأنا نحلف، وكانت العملية مخالفة للأعراف القائمة عند الشيعة في زيارة الجنائز لمرقد العباس مما اثار الشكوك لدي بعض الخدم فتقدم الينا قالا - : هل تريدون شيئا؟ قلنا: لا ، نريد ان نحلف فقط ، قال: أتسمحون ان احلفكم ؟ قلنا: لا، نحن نعرف ذلك .. فتركنا، حيث حلفت انا اولا – ان لا اخون ابو هيثم(البكر) وان واجهت ملء الدنيا ذهبا وفضة, وحلف هو ثانيا ان لا يخون بي كذلك … ولقد ارتحت كثيرا عندما تمت عملية الحلف المقدس"
(مذكرات حردان عبد الغفار التكريتي التكريتي) https://manaar.com/vb/showthread.php?6916-%E3%D0%DF%D1%C7%CA
28 - الموقع : https://mail.kasaed.net/index.php?show=news&action=article&id=5876
29 - الموقع: https://mail.kasaed.net/index.php?show=news&action=article&id=6532
30 - الموقع : https://alrainov2013.blogspot.com/2013/11/blog-post_15.html
31 - القيت هذه الابيات وهي جزء من قصيدة (نهج الامامة) للشاعر مهند جمال الدين في مقام ابي العباس.
|