تأخذنا التأملات باتجاه العمل الثقافي الفكري والروحي معتمدين على رؤية البحث في تقديم الصحيفة السجادية للإمام السجاد عليه السلام، قوة العمل تكمن في المضامين المستنبطة، ودور الإيضاح للمتلقي وكشف تلك المضامين الجمالية، قراءات شاملة لجميع أدعية الصحيفة، إذا أمعنا جيدا في المنجز سنجد الدور المهم لتقديم المنجز إلى الوعي الشمولي وقيمة الدعاء وتفسير وتحليل الأفكار والدلالات والإيحاءات التي يحملها في مضامينه، يتصور الكثير من الناس إن الأدعية مجرد مناجاة بين العبد وربه، مفهوم الدعاء عند الناس هو طلب بعض القضايا الشخصية وتقف العلاقة عند هذا الحد، بينما نستطيع إن نستخلص من المعارف والتفسيرات والتحليلات التي ذكرها الإمام عليه السلام ما يدل على عمق معرفي في مجال تربية الأمة، فقد أفاد الإمام عليه السلام من الدعاء إفادة واسعة وبث الكثير من المعارف في هذه الأدعية.
قدَّم كتاب المصابيح توضيحا لقيمة العمل الدعائي، وهذا العمل لوحده يعتبر منجزا، وإضافة الصيغ التحليلية تعد استجابة واعية، والاشتغال المعرفي لرفع مستوى الفكر العام واستنتاج بعض الدلالات، هناك الكثير من الحالات الإيجابية نجدها في كلمات أهل البيت عليهم السلام، في خطبهم، أقوالهم إرشاداتهم، كل جملة لها غايات وضعت لغرض تحقيق متعة فكرية تساهم في تطوير المجتمع حضاريا، وفهم القيم الهادفة في كل دعاء يرى سماحة السيد أحمد الصافي أن طلب الإمام عليه السلام من الله تعالى أن يبدل بعض الصفات عند بعض الأصناف من الناس عطف الكلام إلى حالات يشوبها نوع من القوة في الشخصية، حالة من التوازن في شخصيه الإنسان لم يبرزها جيدا إلا الإسلام، ثم التركيز على قضية التكامل المعرفي في مسالة البناء، البناء الشخصي وبناء الأسرة، وبناء المجتمع، وسلسلة واسعة من المعارف تتناول قيم العلم الأسري، والفرد والمجتمع والعلاقة مع الله سبحانه وتعالى، وعلاقة الإنسان بنفسه، ويبقى الدعاء مهما تنوعت قنواته محافظا على روحية الإنسان وروحية الدين والتعبير عن الأحاسيس والمشاعر، ويمتلك المعنى الأوضح للتوجيهات ومعرفة الوظيفة الشعائرية الدينية وله النصيب في البناء الحضاري للمجتمع، وأعطى اهتماما كبيرا لعلم النفس حيث اعتبر اليأس من الكبائر واليأس حسب درس الإمام عليه السلام يبعد الإنسان عن الأمن والاطمئنان، والكثير من أمور الدعاء والتراكيب الجمالية تحتاج إلى متابعة معرفية عالية وتوضيح الكثير من الشبهات التي تحتاج إلى رؤية خاصة لتكشف العقد المركبة لتصبح عبارة عن صيغ جمالية تتمحور في فكر مبدع، مثلا اليأس من الكبائر، والأمن من مكر الله أيضا من الكبائر قال الله سبحانه وتعالى ﴿إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ﴾ وقال الله سبحانه وتعالى ﴿فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ﴾.
ويقول الإمام علي عليه السلام (من أمن مكر الله هلك)، ولذلك يرى أهل الفكر أن علة إبليس أنه أمن مكر الله اعتمادا على عبادته التي دامت سنين طويلة، الأمر يحتاج إلى توازن، ما هذا التوازن؟ قد لا يوجد عند مدرسة غير مدرسة أهل البيت عليهم السلام، الدين له أفكاره ورؤاه ويهدف إلى إيقاظ الحس الروحي ويعتمد الفكر ويستثمر الفكرة، الإمام يعلمنا الموازنة بين العفو والتذلل، أفكار تجسدت في الدين الإسلامي أي بمعنى أن أدب الإمام عليه السلام الذي يمثل مدرسة ومنهج أهل البيت عليهم السلام ليس فيه طابع شخصي متفرد إمام عن إمام، هو ابن منهج رباني تربوي، يطلب فيها الإنسان من الله تعالى أن يهب له يدا على الظالم ولسانا على الخصم، قيم مضمونية تحتاج إلى شرح وتبسيط، وهل بعض الإشكالات مثل وجود حالة الاستقواء على الخصم هناك لا بد أن نميز بين التذلل للمؤمن والذلة، حالة التذلل لا تنافي شأن الإنسان بل هي من مكارم الأخلاق التي تحفز الوشائج الإنسانية.
أرى مصابيح سماحة السيد أحمد الصافي تبحث في رؤى فكرية في تراث الإمام السجاد عليه السلام، وتسلط الضوء على القدرات الإبداعية الملتزمة شكلت عالما ومصدرا معرفي يدرس النفس البشرية لبلورة الجوهر الإيماني بما يختص الجانب التربوي، خلق مجتمع واعي يتسامى في معارفه على الإذلال فهو يرفض الذلة، الإمام السجاد لا يطلب من الله أن يجعل له يدا على أحد بل خصص (اجعل لي يدا على من ظلمني) هو لا يقبل الظلم ولا يتعاطى معه في كل مواجهات الحياة والظرف الصعب الذي عاشه، ولا أن يعلو لسان الباطل كلمة أهل الحق، لهذا نجد أن الإمام السجاد فتح جبهة حرب مع الذلة والباطل هيء أجيال تعيش بروح المواجهة ضد الباطل أينما كان.
الله أعلم لو لم يكن جهاد الإمام السجاد كيف كان حال المجتمع بعد قتل الحسين عليه السلام؟
أمة فيها من خان وفيها من ذبح وفيها من انكسر وإذا به يعمل ليحي فيها بذرة الوجدان، يعيد تأهيل المجتمع، الإمام علي عليه السلام كان أضعف خلق الله في
المحراب وأقوى خلق الله في الميادين، هذه حالة توازن في الشخصية الإسلامية التي بحث فيها سماحة السيد أحمد الصافي، في مورد يعفو الإنسان، وفي مورد أخر لا يعفو، وفي مورد يضرب ومورد يصافح هذه النظرية هي أهم جذر من جذور مدرسة أهل البيت عليهم السلام، جميع النقاد والمؤرخين وعلماء اللغة والتفسير عندهم الاتفاق التام حول الأسلوب المتميز والإبداعي في أدعية الصحيفة السجادية وكل جيل يحمل تلك الصحيفة ليضع بصمتها عليه شرفا بما يوائم وروح العصر كون الدعاء رصين ويمتلك التميز فهو يتنامى مع ثقافة كل جيل، لنتعامل من معنى (وظفرا بمن عاندني) الظفر الفوز، والإمام زين العابدين عليه السلام يريد الغلبة في موارد المخاصمة، والظفر من موارد المعاندة على الحق، هناك ملاحظة مهمة أن القراءات في الصحيفة السجادية لا يمكن أن تعمل على تقييم الصحيفة المباركة، بل تعمل على تقييم القراءة الصحيحة، على فهم معانيها، مثلا هذا العناد هو عناد متوازن متوارث من روح النبوة لم يأت نبي رحب به قومه، لا بد من وجود معاندين، وأعداء مبغضون، وقد تنتهي الأمور بقتل النبي، ومعارك وحروب بشهادة كتاب الله وسيرة التاريخ.
المعروف أن أي إثارة جمالية لنص من النصوص الإبداعية وعلاقات التناغم والانسجام بين مكوناته يتطلب جهدا في المتابعة الأسلوبية يقول الإمام عليه السلام (وهب لي مكرا على من كايدني) كي لا أقع فريسة لمن يكايدني، أي بمعنى ألا أكون ساذجا لا يقيِّم الأشياء.
مدرسة أهل البيت وضعت في منهجها القيمة الأسمى لشخصية المؤمن القوي خير من الضعيف والقوه تعني قوه الإيمان البحث عن الحداثة الحقيقية تأتي من خلال قراءة هذا الموروث المعصوم، قراءة عميقة لهذه المدرسة المباركة التي ترفع من شأن القدرة والاقتدار، ورفض الظلم وعدم قبوله، وتعتبر قبول الظلم من الرذائل، الإسلام لا يريد للإنسان أن يكون ظالما ولا يقبل أن يكون مظلوما.
بحث وفر لنا فرصه أن نجلس مع أنفسنا وحفزنا لنبني في القلب عرشا لله تبارك وتعالى، ولا يوجد باب يدلنا على الله بشكل واضح سوى باب الأئمة عليهم السلام.
|