في عالم السياسة الدولية، حيث المصالح تتقدم غالبًا على المبادئ والقيم المدنية والانسانية ، تظهر بين الحين والآخر قرارات سياسية تعسفية تثير الجدل وتفتح أبواب النقاش الحاد حول أولويات الدول العظمى وقوى الاستكبار ومدى انسجامها مع القيم الإنسانية والقوانين الدولية ومواثيق الامم المتحدة ؛ ولعل من أحدث هذه القرارات السياسية الغاشمة قرار او توجيه الرئيس الأمريكي دونالد ترامب للرئيس المصري عبد الفتاح السيسي وملك الأردن عبد الله الثاني بضرورة قبول لاجئي غزة الفلسطينيين في أراضيهم ؛ وتقديم كافة التسهيلات لهم , واخلاء غزة ثم فلسطين فيما بعد من كافة الفلسطينيين ؛ وقد صرح ترامب بهذا التصريح السياسي المستفز امام وسائل الاعلام العامة ؛ بل انه تحدى السيسي وملك الاردن وأكد بما لا يدع مجالا للشك , بان امره سوف ينفذ رغم انف الرئيس السيسي والملك عبد الله ...!!
هذه الغطرسة الامريكية المعهودة والعنجهية الترامبية الثقيلة ؛ تثير لدى العالم اجمع , تساؤلات عميقة حول مستقبل القضية الفلسطينية واسرائيل وخريطة الشرق الاوسط ومدى عدالة توزيع الأعباء الإنسانية في المنطقة المثقلة بالأزمات والصراعات والاضطرابات .
ترامب المعروف بسياساته الاستغلالية وتصريحاته المثيرة للجدل، يبدو أنه يعيد إنتاج سيناريو قديم يتمثل في محاولة إيجاد حلول سريعة لقضايا معقدة عبر تحميل الدول المجاورة المسؤولية ؛ وتبرئة ساحة الصهاينة من كل التبعات الانسانية والقانونية ؛ لكن السؤال الذي يطرح نفسه هنا : هل يمكن للقضية الفلسطينية أن تُختزل في مسألة لاجئين يتم إعادة توطينهم هنا أو هناك ؛ وهل ملايين اللاجئين الفلسطينيين السابقين وخلال العقود الماضية خففوا من المشكلة الفلسطينية او اوجدوا حلا لها ؟!
أم أن هذه القرارات الاستكبارية الغاشمة تتجاهل جذور الصراع في المنطقة و تغفل حقوق الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره , وتزيد التوترات في العالم والمنطقة , وتنقل الصراعات الى الدول المجاورة والاقليمية , لتشعل المنطقة كلها بنيران لن تنطفئ .
ومن وجهة نظر إنسانية ، فإن معاناة سكان غزة لا يمكن إنكارها ؛ و الحصار المستمر، والحروب المتكررة، والظروف الاقتصادية الصعبة تجعل من غزة مكانًا لا يُحتمل للعيش ؛ و لكن الحل لا يكمن في نقل هذه المعاناة إلى دول مجاورة هي الاخرى تعاني من شتى الازمات والمشاكل ، بل في العمل على إنهاء الحصار وتحقيق سلام عادل يضمن حقوق الفلسطينيين واليهود في العيش بكرامة على أرضهم , والبدء بإنشاء الدولتين ؛ فالقضية الفلسطينية ليست مجرد أزمة لاجئين يمكن حلها بإعادة التوطين ، بل هي قضية حقوق وطنية تتطلب حلولًا سياسية عادلة.
مصر والأردن اللتان تحملان بالفعل أعباء كبيرة نتيجة استضافتهما ملايين اللاجئين الفلسطينيين على مدى عقود ، تواجهان تحديات اقتصادية وسياسية وامنية داخلية تجعل من الصعب عليهما تحمل المزيد من اعباء القضية الفلسطينية و مطالبة هاتين الدولتين بقبول المزيد من اللاجئين دون معالجة جذرية للصراع ؛ يبدو وكأنه تهرب من المسؤولية الدولية تجاه القضية الفلسطينية فضلا عن الانحياز للإرهاب الصهيوني والمصالح الاسرائيلية ؛ علاوة على ذلك، فإن مثل هذه الأوامر الاستكبارية الغاشمة , تثير تساؤلات حول دور الولايات المتحدة في المنطقة ؛ وهل واشنطن تعمل كوسيط نزيه يسعى لتحقيق السلام ، أم أنها تفرض أجندات سياسية مشبوهة تخدم مصالحها دون اعتبار لتطلعات الشعوب ومصالح دول المنطقة .
في النهاية، فإن توجيهات واوامر ترامب الباطلة ، تهدف الى تبرئة اسرائيل من كافة التبعات الانسانية والقانونية وتعمل على تمدد اسرائيل و تخفيف الاعباء عنها ؛ من خلال ترحيل الفلسطينيين وتمدد الإسرائيليين على حسابهم وحساب العرب ؛ الا ان هذه السياسة الامريكية تخلو من القيم الانسانية والحيادية و تفتقر إلى الرؤية الشاملة والتي تأخذ في الاعتبار جذور الصراع وحقوق الشعب الفلسطيني وأمن دول المنطقة ؛ ومن السفاهة ان يعتقد ترامب ان هذه القضية التاريخية المعقدة ممكن حلها من خلال اصدار توجيهات واوامر لهذا الرئيس او ذلك الملك لإيواء اللاجئين وتوطين الفلسطينيين ؛ بل هي قضية انسانية ذات بعد عالمي واسلامي وعربي وتتعلق بالملايين من الفلسطينيين ويتابعها مئات الملايين من المسلمين , و تحتاج إلى أكثر من قرارات سريعة وتوجيهات ارتجالية واوامر تعسفية ؛ نعم انها تحتاج إلى إرادة دولية حقيقية لتحقيق سلام عادل ودائم، حيث يعيش الفلسطينيون واليهود جنبًا إلى جنب في أمن وسلام و وئام ؛ كما عاش اليهود بين المسلمين لقرون من الزمن سابقا .
|