• الموقع : كتابات في الميزان .
        • القسم الرئيسي : المقالات .
              • القسم الفرعي : المقالات .
                    • الموضوع :  لَهُمُ الْبُشْرَى .
                          • الكاتب : بشرى مهدي بديره .

 لَهُمُ الْبُشْرَى

 كانت ليلةً شتائيةً باردة تلك التي أشعلت نيرانَ قلبه، الصَّقيع يلفُّ المدينة بأكملها، ليلة تناثَر فيها الثَّلج كنِدافِ القطن هائماً على وجهه كعادته في الخِفّة والتيه، باحثاً عن ضالته.

لم ينَم مهران تلك الليلة ملء عينيه، بل كان بالكادِ يغمضُ نصف جفنه في محاولةٍ منه للنَّوم، فالأرق قد أخذ منه مأخذه، وسرق منه هنيءَ نومه و نفَى رقاده، رغم أنَّ الوَسَنُ يسكن عينيه!كان يفكر في شيءٍ ما قد استحوذ على كل وجوده إلى أن أخذته الغفوة، ومن عمق صحوِ قلبه نهض! و أشعل آخر الزيت في مصباحه فتوهَّج من شدة الصَّقيع، واندفع خارجاً إلى بهو الدار و بدا وكأنه يقلّٓب وجهه في السماء باحثاً عن ذاك الهلال الذي سيعلن قلبه مدينة منكوبة حال ظهوره، ليدرك ماسرّ التيه الذي هو فيه قائلاً:  إلهي أنت تعلم وترى حيرتي فولِّني يارب وهب لي وجهَةً ترضاها.كان يتنقَّل بقلق هائماً على وجهه وهو يراقب انعكاس صورة السماء على البركة التي تتوسط ساحة الدار في بيته القديم المتربِّع على هضبة في أعالي جبال دربند في أقصى الشمال.انطلق مغادراً يجوب الأزقّة الضيّقة صعوداً في حين كان اللهيب يتراقص في فانوسه معلناً قرب الانطفاء كما كان حال قلبه، إنَّه ينتظر شيئاً وهو متيقّن بأن الفجر سيأتي له به، لذا ترصّد حركة الكون وجلس يرقب انبلاج الصبح إلى أن أصابته قشعريرة اهتز لها كيانه وتبعثر وجوده حاول أن يلوذ بما تبقى من لهيب إلا أن تلك الجذوة انطفأت بفعل الهواء البارد الذي لفح وجهه ومصباحه في آن معاً، شعر للحظة بأنَّه وحده التائه في أزقّة تلك المدينة الغارقة في الظلام والصقيع، فهو لم يرَ أحداً في مسيره.نظر مليّاً مركّزاً بصره على تلك الغمائم الرمادية المكفهرّة وهي تشق كبد الليل، فبدت له وگأنها فنارات في مرافئ تعصف فيها رياح الشمال فلا تهدأ، وبدأت تنكشف خيوط الفجر الذي غمر الكون بلونه الدمويّ.حينها عاد أدراجه في نفس الدرب المتعرّج لايدري وجهته إلا أن انبعاث الفجر الدَّامي من دياجي الغسق، والريح التي لاتفتأ تزمجر حدثان عَصَفَا بقلبه وروحه .
وفجأة سمع وقع مسير خلفه، وحانت منه التفاتة فلمح من بعيد ظلالاً  تقطع التلال وصوت خطىً تشق هدأة الفجر، حتى اقتربوا منه و دعوه لمرافقتهم فهو لطالما وطَّن نفسه على اللقاء وبذل في حبِّ سيِّده مهجته، لم يتوانَ عن الإذعان، لم يفكر في الأمر، ولم ينبس ببنت شفة، فقد أُذِنَ له بالرَّحيل، انطلقوا حتى أصابوا كبد الفجر إلى أن وصلوا إلى مكانٍ فسيح بين الأرض والسماء يعبق بالعطر والبخور، عند خيمةِ عزاء أقيمت في منتصف تلك الواحة، ودونما إرادة منه توجَّه نحو المضيف ووقف على خدمة المعزِّين وكأنَّه يعلم أنَّ هذا المكان قد هُيِّئ له وهو يقدِّم لهم الماء البارد قائلاً : تفضلوا، اشربوا الماء هنيئاً، على حبّ الحسين تفضلوا إنه عذبٌ فرات على حبّ الحسين.وفجأة شقت صفوف الجموع طفلة صغيرة ترتدي عباءةً سوداء والنّور يشعّ من محيّاها وقد بدت عليها آثار العطش الشديد لتخاطبه متسائلة: على حبّ من؟ماذا كنت تقول ؟على حبّ من تقدِّم هذا الماء البارد؟فأجايها: على حبّ الإمام  الحسين!فقالت: والدهشة تعلو وجهها المتعب أقلت الحسين؟أبي؟تقدّمه على حبّ أبي؟
ليرمي بنفسه أرضاً معفراً نفسه بالتّراب مغشيَّاً عليه من هيبة مارأى إلى أن أشارت إليه العزيزة أن اتبع ذاك النور ليصل إلى مكان مهيب رأى فيه أحد عشر كوكباً ، ورأى الشمس في ظلال زينب، والقمر المشعّ بين كفي العبّاس!
رآهم يطوفون حول الشَّهيد المسجّى، حتى كأنَّ الأكوان كلها كانت في حالة سجود للواحد الأحد في محضر تجلِّيه.ياإلهي أين أنا؟!
كان قد فقد شعوره بالزمان والمكان .
وعلى يمين الخيمة رأى السيِّدة الزَّهراء كانت تشرف على استقبال المعزين وتومئ لحبيب أن يسجل أسماء الزائرين.المكان يضجُّ بالبكاء، عزاءٌ يتلى آناء الليل و أطراف النهار.و المآذن تصدح بالعويل أشهد أن حسيناً ذبيح الله.
استيقظ على صوت المؤذِّن: "حيّ على الصلاة حيّ على خير العمل قد قامت الصلاة" ، وعلى صوت طرق الباب.
نهض ليجد أن الطارق هو جاره يدعوه للصلاة كدأبهما كل يوم، حيث تبادلا التعازي بانبلاج فجر الأول من شهر الأحزان، ومن ثم توجَّها إلى المسجد لأداء الصلاة، وتجهيز المضيف.




  • المصدر : http://www.kitabat.info/subject.php?id=200273
  • تاريخ إضافة الموضوع : 2025 / 02 / 22
  • تاريخ الطباعة : 2025 / 02 / 23