في جامعةِ أكسفورد قاطعت طالبةٌ خطابَ نائبِ رئيسِ الجامعةِ في حفلِ انطلاقِ السنةِ الدراسيّة، مهتمّة إيّاها بالتلاعبِ بالحقائقِ والنفاقِ في اختيارِ المفرداتِ التي يرتكبُها الاحتلال في غزّةٍ فهي تقولُ أنّهم يستخدمونَ مفردات "أزمة في الشرقِ الأوسطِ "و"العمليات العسكرية في إسرائيل "بدل "الإبادة الجماعية"و"قتل الأطفال والنساء "
هكذا يتمُّ التلاعبُ بالحقيقةِ عن طريقِ تغييرِ المفرداتِ وتقديمِ التبريراتِ المنطقيةِ لإقناعِ الجميعَ بأفكارٍ لا تمثّلُ الحقيقةَ.
في عالمِ اليومِ نجدُ بعثرةً في المقاييسِ والمعاييرِ، فتبدو الحقيقة أقلّ أهميّة من المشاعرِ، والخيال أهم من الواقعِ،والصورةِ أهمُ من الأصلِ،حتى أصبحَ الفصلُ بينَ الخطأ والصوابِ أصعبُ من الفصلِ بينَ السُّكرِ والملحِ، وما دمنا في هذهِ الحالة فهذهِ علاماتٌ بدأَ عصرُ ما بعدَ الحقيقةِ.
عصرُ ما بعدَ الحقيقةِ
تشير إلى ظروفٍ تكونُ فيها الحقائقُ الموضوعيةُ أقلُّ تأثيرًا في تشكيلِ الرأي العامِ الذي يناشدُ المشاعرُ والاعتقادُ الخاص" وأنّ البادئةَ "ما بعد" لا تعني أنّنا "تجاوزنا" الحقيقة بالمعنى الزّمني، كما في عبارةِ "ما بعدَ الحربِ"، بل "أنَّ الحقيقةَ أصبحَت محجوبةً وعديمةَ الأهميّةِ.
يركّزُ قاموسُ أكسفورد على ماهيةِ ما بعدَ الحقيقةِ، "كونُ المشاعرِ أحيانًا أكثرُ أهميّةٍ من الحقائقِ، لكن لماذا تحظى المشاعرُ أصلاً بأهميةٍ أكثر من الحقيقةِ؟، لا أحدٌ يجادلُ في حقيقةٍ واضحةٍ أو سهلةِ الإثباتِ بلا سببٍ؛ بل يفعلُ ذلكَ عندما يصبُّ هذا الجدلُ في مصلحتهِ، فعندما تتعرّضُ معتقداتُ المرءِ للتهديدِ من جانبٍ "حقيقة مزعجة"، فأنّه يميلُ أحيانًا إلى تحدي الحقيقةِ، وهذا يمكنُ أن يحدثُ بشكلٍ مدركٍ أو غيرَ مدرك.
تقولُ الدارساتُ النفسيّة أنّنا "نلتمسُ التناغم بينَ اعتقاداتِنا وسلوكياتِنا أو توجهاتِنا وأنَّنا نمرُّ بصراعٍ نفسي إذا اختلَّ التوازنُ بينهُما لذلكَ ممكن أن نرفضَ الأدلة الملموسة إذا وجدَ أنَّ ما نعتقدُ بهِ لا يتفّقُ معها، وبالشكلِ الدّقيقِ لا أن تلغى الحقيقةُ كاملةً ؛بل توضعُ مبرراتٍ وحججٍ منطقيةٍ والتعبيرُ عن الأفعالِ والتصرفاتِ بـ"حقيقةٍ لازمةٍ " "هكذا اقتضى الواقعُ"أو إعطاء أهميّة للمشاعرِ والحالةِ النفسيّة أكبر من الحقيقةِ كما يحدثُ الآن عندما يبادرُ أحد مؤثّري مواقع للتواصلِ الاجتماعي إلى انتهاكٍ للحقائقِ الدينيّة أو الثقافيّةِ أو الاجتماعيةِ يبرّرُ لنفسِه ويبرّرُ له ممّن يسانده أنّه يمرُّ بصراعاتٍ نفسيّة، وأنَّ الانتقاداتَ تؤثّرُ بالسلبِ على مشاعرِه ويحدّثُ أن يزيدَ الكثيرُ ليقولَ إدراكًا جيداً للحقيقةِ لكن الحياة اقتضت عليهِ هذا الفعلُ .
العواملُ المؤثرةُ في هذا الجانب
يحدثُ أن تتأثرَ تقديراتُ الإنسان بالاقتران بالسياقِ الاجتماعي أو السياسي الذي يعيشُ فيهِ، ويتأثّرُ بتدقيقِ الصورِ والمعلوماتِ كلّ ذلكَ ممكنًا بأن يدفعَ الإنسان لتغيرَ قناعاتِه أو التكيّفَ معها أو تحيّدها، فهناكَ عواملٌ وعوالمٌ ممكن أن تتداخلَ في النهايةِ لتحدّدَ تقديراتَنا وقناعاتَنا ، وكما نلحظُ ميدانًا أنَّ الكثيرَ من الناسِ يفضلون تفصيلَ معتقداتِهم خارجَ أصولِ الدّينِ والعقلِ ومعاييرِ الدليل الجيّد للتناسبِ معَ قناعاتِهم الخاصّة.
-"تأثيرُ النتائجِ العكسيّة
يمكنُ أن يؤدي ظهورُ دليلَ يتناقضٍ معَ معتقداتِنا ، ليسَ إلا تصحيح الأخيرة؛ بل يؤدي إلى التشبتِ بها أو تعزيزِها والدّفاعِ عنها بقوةٍ.
-"تأثيرُ الغباءِ"أو الثقةِ المفرطةِ المؤديّةِ للغباءِ "
تسلبُنا التحيزات المعرفيّة أحيانًا مقدرتنا على التفكيرِ الواضحِ، بل وتمنعُ إدراكنا للأوقاتِ التي لا نفكرُ فيها بوضوحٍ، ومن الممكنِ أن يبدو الخضوع إلى "التحيزِ المعرفي" مشابهًا للتفكيرِ، لكن عندما نُستغرقُ عاطفيًّا في موضوعِ، فأنَّ قدرتَنا على الاستدلالِ الجيّدِ ستتأثرُ على الأرجحِ"،
ويجزمُ الكاتبُ أنّ المنحاجزينَ معرفيًّا أكثرُ تأثيرًا لدى المنفتحين ، وهكذا يمكنُ دفن الحقيقةِ تحتَ كومةِ ركامٍ من الكلامِ الفارغِ وهكذا ليسَ بوسعِنا أن نميّزَ بينَ الصوابِ والخطأ .
التصدي لعصرِ ما بعدَ الحقيقةِ
يقولُ الكاتبُ لي ماكنتاير أنَّ الخطوةَ الأولى في التصدي لـ"ما بعدَ الحقيقةِ"، هو "فهمُ تكوينِها"، والأمل يكملُ في أنَّ الحقائقَ دومًا ما تظهرُ فمهما، فمهما امتزجَ الترابُ معَ الذّهبِ ، فالذهبُ يبقى ذهبًا بمرورِ الوقتِ والترابِ تذرُه الرّياح، والأمل الثاني أنّنا أصحابُ الحقائقِ، أي أصحابُ البقاءِ الأطولِ إذ لا يمكنُ إنكارَ الحقائقِ على المدى الطويلِ .
--------------------
كتاب ما بعد الحقيقة، لي ماكنتاير ، ٢١-٣٠.
|