• الموقع : كتابات في الميزان .
        • القسم الرئيسي : المقالات .
              • القسم الفرعي : المقالات .
                    • الموضوع : انت مو انت , انت ؟! .
                          • الكاتب : رياض سعد .

انت مو انت , انت ؟!

من الغريب ان يعيش العراقي وهو سليل الحضارات الرافدينية وابن المعارف والمدارس والانجازات العراقية التاريخية ؛ وسط هذا الركام الهائل من الاخفاقات السياسية والامنية والثقافية والاجتماعية , ومن المستغرب ان يستشعر المواطن الخوف والقلق في وطنه ؛ بسبب الاجهزة الامنية والدوائر الحكومية وعناصرها الفاسدة والمجرمة والفاشلة والعميلة ؛ فما كان طبيعيا او مستساغا قبل قرون من الزمن في العراق , اضحى مرفوضا ومستهجنا من قبل الاغلبية الساحقة من ابناء الامة العراقية في القرن الواحد والعشرين .
وعنوان هذه المقالة ( انت مو انت : انت ) يشير الى عبارة مشهورة تردد بين اوساط العاملين في دوائر وزارة الداخلية , والمتعاملين مع عناصر اجهزة مكافحة الاجرام ومكافحة المخدرات ومكافحة الارهاب وغيرها من الاجهزة الامنية , فضلا عن السجناء والمعتقلين والموقوفين فيها ؛ وهي تفسر طبيعة العلاقة التي تربط المواطن بالعناصر الامنية , وتوضح حقيقة الاجراءات المغلفة بالقانون والتي تعارض حقوق الانسان وحتى بعض القوانين المشرعة , والتي تؤدي الى الانتهاكات البشرية والجرائم البشعة بحق المواطنين والمعتقلين ؛ وفحوى هذه العبارة المنكوسة : حتى لو كنت ايها المعتقل العراقي في سجون ومراكز ومقرات الاجهزة الامنية لست مجرما ؛ يجب عليك الاعتراف بالجريمة او الجنحة او المخالفة القانونية , رغما عن انفك ...!!
البعض يجبر نفسه على تصديق شعارات براقة من قبيل ( الشرطة في خدمة الشعب , او وان حكمتم بين الناس فاحكموا بالعدل , او العدل اساس الملك , او اتصل على الارقام التالية في حال تعرضك للابتزاز او طلب الرشوة ... الخ ) من باب عسى ولعل الله يغير الحال , الا انهم يصدمون من هول ما يشاهدوه في مقرات الاجهزة الامنية ومراكز الشرطة والسجون , وغرف التحقيق ؛ من ظلم وابتزاز واستغلال واهانات وانتهاكات وتجاوزات لا تنتهي ؛ حتى اعتبرها البعض من الضرورات الوظيفية والمسائل الطبيعية ؛ وكأن القدر كتب على العراقيين ؛ ان يجربوا مختلف صنوف التعذيب وضروب العذاب ومختلف طرق الاستغلال والابتزاز والنصب والاحتيال وباسم القانون وبرعاية السلطة ؛ والاستهتار بحياتهم ومصيرهم ومستقبلهم ونهب اموالهم وتهديد عوائلهم ... الخ .
وجهاز الشرطة وبقية الاجهزة الامنية تعتبر في المجتمعات المتحضرة والراقية من الاركان الاساسية التي تبنى عليها الدول وتحافظ على الامن والامان والاستقرار وتعمل على صون كرامة الانسان وحفظ حقوق المواطن ودفع الشر والاذى والضرر عنه ؛ ولكنها في الأنظمة الديكتاتورية والعسكرية والبوليسية والقمعية وفي المجتمعات المأزومة والدول الفاشلة ، غالبًا ما تتحول إلى أداة قمع وتعذيب وارهاب وابتزاز للمواطنين والمعتقلين.
في هذه الأنظمة والمجتمعات البائسة ، يصبح العنف والتعذيب جزءًا من ثقافة الشرطة والاجهزة الامنية ، ويتم تبريره بأسماء مثل : (( الحفاظ على الأمن , و المكافحة الإرهابية , وضرورة التحقيق والتحقيق يتوقف عليه ... الخ )) ؛ ولكن في الحقيقة، يعتبر هذا النوع من السلوك انتهاكًا صارخًا لحقوق الإنسان والمواثيق الدولية والقيم والاعراف الدينية والانسانية السامية .
وللأسف الشديد تعرض العراق وابناء الاغلبية والامة العراقية للظلم والجور والعنف وطوال حقب تاريخية طويلة , لاسيما من قوى الاحتلال الاجنبية والغريبة , اذ قامت الاجهزة العسكرية العثمانية وكذلك عناصر الاحتلال البريطاني ؛ بارتكاب ابشع الجرائم بحق العراقيين , ومارس بقايا العثمنة وشذاذ الافاق ورعايا الانكليز نفس الدور المنكوس بعد تأسيس الدولة العراقية الحديثة عام 1921 , اذ انتهكوا حقوق الانسان واهدروا كرامة المواطن وحاربوا العراقي الاصيل , وانتهجوا العنف والقمع والتعذيب كأدوات ضرورية لإدامة حكمهم الهجين الباطل حتى عام 2003 , وبعد ان من الله على العراقيين بهلاك البعث وصدام والفئة الهجينة والطغمة الطائفية العنصرية المقيتة عام 2003 ؛ فرح العراقيون وظنوا انهم غادروا قاعات الاعتقال البائسة وغرف التعذيب المظلمة وزنانين العذاب المؤلمة , الا انهم صدموا عندما عرفوا ان صدام هلك الا ان الصدامية الارهابية باقية والبعث ولى الا ان الظاهرة البعثية الاجرامية لا زالت موجودة في دوائر الدولة , لذلك شهد العراق حمام من الدماء وحملات ارهابية شعواء وحروب وصولات اجرامية لا هوادة فيها ؛ استهدفت المساجد والمستشفيات ومجالس المآتم والاعراس وروضات الاطفال والمدارس والجامعات والمقرات العسكرية والدوائر الخدمية ... الخ ؛ حيث قتل ايتام النظام وزبانية صدام و جلادوا و ذباحوا الحركات الطائفية والتكفيرية الاطفال والمرضى والنساء والشيوخ والشباب بلا رحمة , بينما تسللت بعض العناصر الفاسدة والحاقدة والمريضة الى الاجهزة الامنية والدوائر الحكومية الحساسة لتمارس هوايتها المفضلة في تعذيب وقمع العراقيين واستغلال وابتزاز المواطنين ؛ وكل المحاولات الاصلاحية الحكومية وغيرها التي حاولت اصلاح هذه الاوضاع المأساوية واستئصال عناصر الفساد والاجرام والعمالة والخيانة من هذه الدوائر والاجهزة الامنية ؛ باءت بالفشل الذريع .
وتعد ظاهرة تعذيب المعتقلين والمواطنين العراقيين في المراكز والمقرات والسجون المذكورة انفا ؛ واحدة من أكثر الظواهر السلبية والاجرامية , ومن ابشع الانتهاكات البشرية التي تقوم بها عناصر الأجهزة الأمنية في السجون والمقرات وغرف التحقيق ؛ وهذا التعذيب يمكن أن يأخذ أشكالًا مختلفة، مثل التعذيب الجسدي والنفسي ، والاعتقال التعسفي، والتعريض للظروف القاسية في السجون ؛ فضلا عن اهانة المواطن وهدر كرامة المعتقل والتعامل معه بطريقة تخلو من الانسانية والغيرة العراقية والحمية الوطنية .
فالمفروض بالشرطة وعناصر الاجهزة الامنية ؛ ان تؤمن بمبدأ حقوق الانسان , ونبذ العنف والتعامل الوحشي مع المواطنين والمتهمين والسجناء والمعتقلين , وان تتجنب الابتزاز والاستغلال والرشوة ؛ وان تعمل على تعزيز أخلاقها مع الشعب ؛ من خلال الالتزام بالقانون والاحترام لحقوق الإنسان والايمان بالوطن والمواطن ؛ اذ يجب أن تكون الشرطة والاجهزة الامنية هي الخدمة التي يثق بها المواطنون، وليس هي الأداة التي يخافون منها.
ومن الواضح ان النتائج المترتبة على انتهاكات الشرطة وعناصر الاجهزة الامنية وسوء اخلاقهم مع الشعب واستغلال المواطنين وتعريض المعتقلين لشتى صنوف التعذيب والاهانة ؛ هي كارثية ؛ اذ تؤدي هذه الانتهاكات إلى تدمير الثقة بين المواطنين والشرطة والاجهزة الامنية ، وتعزيز الشعور بالخوف والعداء تجاه السلطة , كما تؤدي هذه الانتهاكات إلى تدمير حقوق الإنسان والمواثيق الدولية، وتعزيز ثقافة العنف والتعذيب في المجتمع ؛ وشيوع سوء الظن بالعدالة والقضاء بين المواطنين ؛ لان مقدمات التحقيق باطلة وبالتالي الحكم سيكون باطلا ؛ فالكثير من المعتقلين اعترفوا بجرائم لم يرتكبوها قط ؛ بسبب التعذيب البشع , وكلنا شاهدنا الصور التي تظهر مواطنين عراقيين اعتقلوا لأسباب بسيطة في المراكز والسجون والمقرات وغرف التحقيق ؛ وهم موتى وعليهم اثار التعذيب , لانهم تعرضوا لأبشع صنوف العذاب ولم يتحملوا هذا الكم الهائل من التعذيب والظروف القاسية اللانسانية ؛ ومن اغرب تلك الحالات الاجرامية والقصص التعسفية , اعتراف رجل من اهل الحلة بقتل زوجته بسبب التعذيب , وقد حكم عليه بالإعدام , ولحسن حظ الرجل وعدالة السماء ؛ ظهرت زوجته بعد عدة اشهر وهي حية ؛ ولعلها كانت هاربة مع احد العشاق ومع ذلك حكم على زوجها بالإعدام واتهموه بقتلها زورا وظلما وبهتانا , واعترف بالجرم لهول العذاب الذي تعرض له ...!!
ان فساد الشرطة وانتهاكات الأجهزة الأمنية واستمرار جرائم التعذيب ؛ تقوض الثقة المجتمعية وتدفع الشعب للثورة ؛ اذ تُعد الشرطة والأجهزة الأمنية حجر الزاوية في حماية القانون وصون حقوق المواطنين... ؛ لكن عندما تتحول هذه المؤسسات إلى أدوات قمعية واوكار لتعذيب المواطنين ، او تنغمس في الفساد , أو تُشرعن التعذيب... ؛ فإنها تتحول من حامية للعدالة إلى تهديدٍ للمجتمع نفسه ؛ ففي العديد من المدن والمحافظات العراقية ، تُكشف تقارير مُتكررة عن انتهاكات منهجية ، تتراوح بين الابتزاز المالي والاعتداء الجسدي، وصولًا إلى ممارسة التعذيب في غُرف تحقيق سرية، ما يطرح تساؤلاتٍ خطيرة حول أخلاقية هذه الأجهزة ومدى التزامها بحقوق الإنسان ...؟!
ومن أهم الاسباب التي فاقمت من هذه الظاهرة الاجرامية وادت الى بقاءها واستمرارها في اروقة وغرف ومقرات الاجهزة الامنية فضلا عن السجون والمعتقلات : الفساد المالي : اذ تضغط العناصر الفاسدة على المعتقلين وتعرضهم لأبشع صنوف التعذيب ؛ لتدفع ذويهم للتحرك من اجل انقاذ ابناءهم من العذاب من خلال التواصل مع ضباط وعناصر التحقيق وتقديم الرشاوى لهم ... ؛ والحصول على الاعترافات : اذ يعمد المحققون الى ممارسة التعذيب لانتزاع اعترافات قسرية ؛ علما ان هنالك العديد من طرق التحقيق القائمة على اسس علمية والتي تعتمد على معطيات علم النفس وعلم الاجتماع وعلم الجريمة ؛ وكذلك تعتمد على التقنيات الحديثة التي توفر الجهد والوقت للمحقق ؛ الا ان هؤلاء يتركون كل هذه الطرق ويذهبون الى التعذيب فقط ... ؛ وغياب المحاسبة : اذ تُعفى العديد من الأجهزة الأمنية من الرقابة القضائية أو البرلمانية الفعّالة او منظمات المجتمع المدني او الصحافة والاعلام ، ما يُغري بارتكاب الانتهاكات والتجاوزات ... ؛والثقافة المؤسسية : في العراق ومنذ النشأة الاولى للدولة العراقية الحديثة اقترنت عقيدة "الأمن فوق كل شيء" بعمل الشرطة والاجهزة الامنية ؛ مما نشر ثقافة الإفلات من العقاب بين العناصر الامنية ، حيث تُقدَّم مصلحة الجهاز الامني على كرامة الإنسان... ؛ والتدخل السياسي : تُستخدم الأجهزة الأمنية أحيانًا كأداة لقمع المعارضة او الاضرار بهذه الشخصية او تلك الجماعة ، بدلًا من حماية المواطنين ؛ بسبب توجهات الساسة وتدخلهم في هذه الملفات الامنية .
ولهذه الظاهرة الاجرامية آثار اجتماعية عديدة , ومنها :
- انهيار الثقة :اذ يؤدي الفساد الأمني إلى فقدان الجمهور للثقة في مؤسسات الدولة، مما يزيد من العنف المجتمعي.
- تكريس الظلم: ضحايا التعذيب غالبًا ما يعانون من صدمات نفسية وجسدية دائمة، بينما يفلت الجناة من العقاب.
- تأجيج الصراعات: في المناطق الهشّة، تُغذي الانتهاكات الأمنية غضبًا شعبيًا قد يتحول إلى احتجاجات أو عنف مضاد.
نحو إصلاح حقيقي :
1. تعزيز الشفافية : إنشاء آليات رقابة مستقلة، مع تمكين الإعلام والمجتمع المدني من كشف الانتهاكات.
2. إصلاح القضاء: ضمان استقلالية القضاء لمحاكمة المتورطين، بمن فيهم كبار الضباط.
3. التثقيف الحقوقي : تدريب عناصر الأمن على القانون الدولي الإنساني، وربط الترقيات باحترام حقوق الإنسان.
4. الدعم الدولي : فرض عقوبات على الدول التي تتغاضى عن تعذيب المواطنين، وفقًا لاتفاقية مناهضة التعذيب (1984).
وفي الختام : الفساد الأمني والتعذيب ليسا مجرد انتهاكات فردية، بل هما سرطان ينخر في جسد الدولة والمجتمع... ؛ إن مواجهتهما تتطلب إرادة سياسية حقيقية، وإصلاحًا مؤسسيًا جذريًا، لأن الأمن الحقيقي لا يُبنى إلا على العدل والكرامة الإنسانية.




  • المصدر : http://www.kitabat.info/subject.php?id=200559
  • تاريخ إضافة الموضوع : 2025 / 03 / 02
  • تاريخ الطباعة : 2025 / 03 / 3