كان لدينا جار كبير السن، مثقف الدين، يحدثنا دائما عن رحلته الإلحادية التي انتهت بالأيمان، وبالأيمان العميق، يقول كل ما نمتلك في حواراتنا هو الاعتماد على نفس الأسطوانة المشروخة التي تستخدمونها اليوم، والتي يندرج تحتها هواة الإلحاد وصغار الملحدين، اذا كان الله خالق الكون فمن هو خالق الله؟
الرجل كان يقرا أفكارنا ويلقبنا بالطوفان، ونحن لا نعرف ماذا يقصد بالطوفان، لهذا سألناه حاج ما ذا يعني أننا من أهل الطوفان أي طوفان تقصد؟
راح يعرف لنا الطوفان، بأنه بداية عصر الترجمة في العصر العباسي الذي ترجمت فيه الكتب اليونانية، ودخلت الفلسفات المختلفة إلى المجتمعات الإسلامية، وأفسدت العقول وكان الحاج مصطفى يعرف كيف يقنعنا بأساليبه المتنوعة.
يقول كان الطوفان الأول مؤثرا على عقلية الفلاسفة، وأنتج مدارس فلسفية كبيرة لها أثر في زعزعة العقيدة، وخذلت اليقين عند الناس، وتحول الإيمان إلى مسرح فلسفات غريبة.
كثيرا ما كان يحدثنا عن تجارب بعض العلماء، ونجد متعة كبيرة ونحن نستمع ونتعرف على حكايات كبار الفلاسفة و العلماء، مثل تجربة العالم الغزالي، الذي يعده من أتباع الطوفان الأول، توصل إلى أن الإيمان الراسخ والإيمان الحقيقي هو إيمان العوام، وأكد العلماء أن الفلسفة وأهل الكلام أوقع الناس بالتشكيك في أصول دينهم، والكثير من المثقفين تزندقوا، الممتع في حديث الحاج أنه كان يتحفنا بقصص كل جيل، ومعاناته الفكرية مع الذات ومع المجتمع، يحدثنا عن العناد والمرض الذي كنا نعاني منه دون أن ندري، بمعنى مشاكسة أهل الإيمان، ونجد لذة في ردود فعلهم العنيفة، هناك من يلعن وهناك من يستغفر لنا وهناك من يدعو لنا بالهداية، ونحن سعداء بغرورنا ليس قربة لعلم أو لفكر، مسألة العلم والفكر لا تعنينا بشيء.
كان الغزالي يعشق المنطق ويعتبره لباب الفكر، ومحل الفكر وكان يراه عيان للعلم، ذهب إلى أن من لا يعرف الفلسفة، لا يفقه في علم، إلى أن حانت الصحوة في كتابه (المنقذ من الظلام) وراح يتحدث بمرارة عن غربته ومحنته، وهو الغزالي الذي أكبر تجربة منا ومنكم، وعاد مؤمنا، رغم أننا نشعر بأن الشيخ يطرح أشياء لا تهادن مع ما نطرحه إلى الناس، وما نحبه نحن، ومع هذا كنا نتناقش في حرارة وجدية، حتى جعلنا نتناقض مع انفسنا في الكثير من الأمور، تارة نعترف بأن الله سبحانه وتعالى خالق الخلق نستغفره، وتاره نكفر به ونتساءل عن معناه، يقول الشيخ مصطفى أول الوجود لا بد أن يكون سبب الوجود لا يعتمد ولا يحتاج إلى وجود غيره لكي يوجد، أما أن يكون السبب هو في حاجة إلى سبب كأن هذا يجعله واحدة من حلقات السبب ولا يجعل فيه سببا، هذه أبعاد القضية التي انتهت بأرسطو إلى القول بأن الأول والمحرك الأول، وهذا الدرب هو المؤدي إلى درب اليقين، أخشى أن يصل بي الحال إلى ما وصل إليه الجويني في مرض موته إذ قال (اشهدوا علي أني قد رجعت عن كل مقالة قلتها أخالف فيها أهل الدين وإني أموت على ما تموت عليه عجائز نيسابور)
كنت دائما أنصت إلى صوت الفطرة، وهذا شيءٌ مهم في حياتكم، هكذا كان يخاطبنا الحاج مصطفى، تنوعه في القراءة كان يخدمنا، والانتباه لحكم الفطرة والرجوع لحكمة الأهل، هذا الكلام يذكرني بقول الشهرستاني (عليكم بدين العجائز فهو أسنى جوائز) وشدني القران إليه حين صرت أقرأ في دواخله ومعانيه وأصبح القرآن صديقي.
يقول الفخر الرازي (اختبرت الطرق الكلامية والمناهج الفلسفية فما رأيت فيها فائدة تساوي الفائدة التي وجدتها في القران) إذًا الشيخ مصطفى كان دائم النصيحة يغمرنا بالمعلومة، والشيء الذي يدهشنا، يقول أن الصيحة التي غمرت العالم هي العلم والعلم ولا شيء غير العلم، النظرة الموضوعية هي الطريق لنرفض الغيبيات وأن نكف عن إطلاق الخرافات، هكذا كنا نقول من يعطينا الدبابات والطائرات ويأخذ منا الأديان؟
وكل ما يردنا من أنباء علوم الغرب يكون باهرا يخطف أبصارنا،
ونحن نأخذ من الغرب كل شيء، الكتب والدواء والملابس والمنسوجات والقاطرات والسيارات، وحتى الأطعمة المعلبة.
كانت أحلامنا تشيخ ومثلنا الأعلى صار باستر وماركوني وأديسون، وحول نابليون وإبراهما لنكولن وكريستوفر كولومبس وماجلان
كان الغرب هو المتقدم نتصور أن كل ما يأتينا من الغرب هو النور والحق وهو السبيل إلى القوة والخلاص، ومن هنا جاء الطوفان الثاني، خليط من الأفكار والفلسفات الإلحادية، ولشيوعية والعلمانية والوجودية والقومية انتج لنا طوفان لا حصر له مثل رافع الطهطاوي، قاسم أمين، هدى الشعراوي، حسين مروة، والقوميون والبعثيون، وغيرهم شغلوا الأمة عقودا بهذه الأفكار، والفلسفات الوافدة.
انتشرت الفلسفات الوجودية والإلحادية وتغير الحال سقطت الدول الاستعمارية والدول الشيوعية وانهارت أكثر تلك الأفكار الوافدة أخذت الثورات البائسة وإذن للصحوة الدينية المباركة أن تجدد الأمة أمر هذا الدين، ثم جاء بعدها الطوفان الثالث، أن تنازع الصحوة ويتعارك العلماء ويتشاتم الدعاة وتغيب القدوات، وظهر التطرف الذي أساء للإسلام، وكثرة الفضائيات ومنتديات الأنترنت والدور الرئيسي في إفساد عقول الشباب ودعوتهم للتمرد على الدين وأهله خطورة، هذه الرحلة يا أبنائي تتمثل في سرعة انتقال الفكرة سرعة انتشارها.
والتأثير الأهم أن خطورة الفكرة تتمثل في أنها هي التي تصنع الفعل، انتبهوا للأسماء الوهمية الكثيرة في الفيس بوك، والمستعارة التي تكتب ضد الدين وضد البلاد، انتبهوا.
ثم ودعنا بابتسامة، في أمان الله نلتقي..
|