كان صباحًا شتويًا باردًا من عام 1986، حينما اجتمعت الغيوم الرمادية لتغطي سماء ناحية الهوير، التي تقع على بُعد 450 كيلومترًا جنوب العاصمة بغداد.
تلك الغيوم لم تكن مجرد تشكيلات طبيعية عابرة؛ بل كانت في أعين سكان البلدة مزيجًا من الكآبة والخوف، كأنما تحمل معها هموم السنوات الثقيلة وآلام الحرب التي التهمت الأرواح والآمال.
وفي غرفة صغيرة داخل بناية خدمية تتوسط البلدة، بدا "أبو علي"، ذلك الرجل الخمسيني ذو الجسد النحيف والوجه الذي طبعته السنين بآثارها، جالسًا على كرسي مهترئ.
كانت أنفاسه تتردد ببطء، وكأنها تخشى الهروب من صدور تحاصرها الهموم. في هذا الصباح، كان شيئًا غير مرئي يُثقل صدره، شعور غامض لكنه مشؤوم.
بينما كان يغرق في أفكاره القلقة، انطلق صوت سيارة حزبية يخترق سكون البلدة، يتردد عبر مكبرات الصوت التي طالما حملت الأخبار الكارثية.
"تجمعوا في الساحة العامة"، كانت العبارة كطلقات رصاص أصابت قلوب الأهالي بالرعب. نهض أبو علي متثاقلًا، يسير بخطى كأنها تسير فوق بركان من الشكوك والمخاوف، يعلم في داخله أن هذه الدعوات لا تُبشر إلا بمآسٍ جديدة.
عندما وصل إلى الساحة، استقبلته مشاهد تفوق أقصى كوابيسه جموحًا؛ سيارات محملة بالرجال ذوي الأزياء الزيتونية، وأصواتهم تجتاح الأرجاء بأوامر صارمة تثير الجلبة.
لكن ما مزّق أعماقه هو رؤية ابنه علي، الشاب العشريني، مقيدًا بين مجموعة من الشباب المحكوم عليهم بالموت.
علي، ابنه الوحيد، وهو أب لطفلة رضيعة لم تٌكمل شهرها السادس، كان يرفض الحرب ومآسيها، ويعتبر صدام ظالما ومعتديا، هو يقف الآن في مواجهة قدر مظلم.
حينما تقاطع صدى الأوامر العسكرية مع هدير المحركات في الساحة، كان "أبو علي" يقف عاجزًا، عاجزًا ليس لأن قدميه لا تقويان على الحركة، بل لأن القلب المتصدع بدا وكأنه يحمل وزنًا أكبر من طاقة الجسد.
أمامه كان علي، ابنه الوحيد، يقف مقيدًا إلى عمود خشبي، والرياح تعبث بملابسه الممزقة كما لو أنها تسعى لتحريره، لكن قسوة البشر تفوق قسوة الطبيعة.
تردد صوت أحد رجال الحزب، وهو يقرأ القرار بعجرفة خالية من الإنسانية: "بأمر من السيد الرئيس، سيتم تنفيذ حكم الإعدام بحق هؤلاء الخونة الذين تجرأوا على الوقوف ضد إرادة الحزب والثورة".
كلماته لم تكن مجرد إعلان، بل كانت نصلًا يغرز في قلب كل أب وأم شاهدوا أبناءهم يواجهون الموت دون شفقة، ودون مبرّر.
نظر أبو علي إلى ابنه، وشريط حياته مرّ أمامه في لحظات قصيرة، تذكره طفلًا يلعب على ضفاف الفرات، ويقفز بين بساتين النخيل، ويلهو بالكرة مع أصحابه في هذه الساحة التي تشهد موته اليوم.
عاد بذاكرته إلى اللحظة التي احتضنه فيها عند ولادته، إلى ضحكاته الأولى وكلماته الأولى. لم تكن هذه الذكريات سوى عزاء خافت في مواجهة مشهدٍ أقسى من احتمال الروح.
عندما دوّى صوت الطلقات النارية، شعر أبو علي وكأن الرصاصات لم تخترق جسد علي فقط، بل اخترقت قلبه هو أيضًا.
سقط جسد علي مترنحًا، بينما ابتلعت الأرض دماءه كما لو أنها تقتات من أحلامه المقطوعة. أبو علي، في تلك اللحظة، كان يعيش موتًا داخليًا يصعب وصفه، حيث تحطم كل أمله في الحياة وانطفأت شعلتها في عينيه.
عاد الرجل إلى بيته المظلم، بعد أن أجبروه على الإمضاء على تعهد بعدم إقامة مجلس عزاء لابنه، ودفعَ ثمن الرصاصات التي اختطفت روحه.
كان هذا المشهد القاتم، المليء بالظلم والإذلال، يتكرر في مناطق وسط وجنوب العراق، دون غيرها.
صار بيت أبو علي يشبه قبرًا يحتضن الحزن والبكاء المكبوت. لكنه لم يكن يبكي بصوتٍ عالٍ، بل كان صمته أقوى من أي عويل.
كل ليلة، كان يغادر منزله متسللًا إلى الساحة، يجلس على التراب الذي ارتوى بدماء ابنه، يمرر يديه على الأرض كما لو أنه يبحث عن بقايا من حياة ابنه، أو ربما عن معنى لما جرى.
لم يعش أبو علي طويلًا؛ قلبه الذي حُمِّل فوق طاقته توقف عن النبض بعد سنتين فقط من فقدانه ابنه.
وفي أحد الأيام الثقيلة، عُثر عليه في الساحة، مسجى على الأرض، رأسه متكئ على التراب، كأنما أراد أن يقضي آخر لحظاته قريبًا من الأعمدة التي شهدت مأساة حياته.
|