• الموقع : كتابات في الميزان .
        • القسم الرئيسي : ثقافات .
              • القسم الفرعي : ثقافات .
                    • الموضوع : أسفار في أحلام أيمان والأمير ... ذكرى رحيله .
                          • الكاتب : د . جواد المنتفجي .

أسفار في أحلام أيمان والأمير ... ذكرى رحيله

إلى روح الفنان (احمد الجاسم - الأمير ) الذي توفي غريبا في غربته:          
 \"المشاهير منبهرون بسموك زمن تألقك، أما روعة طفولتك.. طفولتنا.. توحدنا بإيقاعات أوجاعنا ،عوالم قائمة بذاتها تفوق الكلمات التي تسرب اليسير منها ليدفن معك ، أما رحيلك المفاجئ فقد أجفلني ،وبك سأكتفي \" 
                                            
  - 1 - 
 
\" 31 / 12 / 1974 \" 
في ليلة كهذه من كل عام، كان (احمد) يستكين لمنفاه في حقول أحلام 
( أيمان ) الغزيرة، وهناك وعلى أعتاب متون أحضانها، كان يصلي بمحرابها خلسة. 
- 2 - 
تك – أنا أنت  
تك – شمسي أنت 
تك – أرضي أنت 
تك – أدور أنا 
تك – لنحيا أنا وأنت   
كان هذا لحنا قد اختزنته تقاو يم ذاكرتي، سمعته يدندن به حينما زرته آخر مرة ،وعلى  بقعة من زوايا غرفته التي اتخذها مرسما له ، وجدته منهمكا وهو يضع لمساته الأخيرة على لوحة كانت ملقاة أمامه ، أشار أليّ بوجود رسالة تقعي على منضدته الزمني بقراءتها ، وهي من صديق لـه في البصرة ينبئه فيها بوجود وظيفة مصمم في التلفزيون، والتي آلمتني أخبارها بسبب عزمه أخيرا على السفر كما خطط لـه ، سفر بات وشيكا على تنفيذه وأنا الذي تعودت على رفقته طيلة فترة الصبا ، قلت له بعد انتهائي من مطالعتها وأنا أناوله ما حملتني به من كان تحبه:
- لك وصية معي في هذا المظروف !! 
بشغف عارم ارتد ببصره نحوي نافضا ما كان بين يديه من مساحيق أصباغ كان يروم مزجها، وعندما فتح المظروف، بانت بطاقة دعوة لحضور عيد ميلاد طفق بقراءة سطورها المدونة خلفها بلهفة:
\" صديقي الحميم: يبدو انك قد أتقنت البعد جيدا بغيابك الذي طال أسبوعين لم أراك فيهما، وها أنذا وجدت نفسي خاوية من كل شيء ، وقد فقدت بعض من خصوبتي ، فمنذ أن تركتني لأعاني وحدتي ، شعرت وكأنني متدلية نحو الأسفل وبصورتي المعهودة المقلوبة بين كثبان تلك القاحلة التي جفت ينابيعها واستحوذ السبخ عليها ليعتلى هامتي سارقا مني كل أمنياتي ، ولهذا هجرتني الطيور هذا العام ، وبرفقتها عصفورتيّ عينيّ التي غيرة هي الأخرى على الأرجح من مسارها المعتاد في اتجاه أديم ربوعك لتغنم من ينابيع راحتيك المنداة ، علما بأنني حملتها وصية لك : بين عينيك خلفت أمنياتي العريضة، فإذا أتخمت أنت بكل هذا البعد وأمسيت أنا متيمة بك كيف سأفطمها ؟ وبحضورك الليلة قبل الساعة الثانية عشرة ، سيزدهي عيد ميلادي ، وستستحم ضفائري ببخار أنفاسك كما فعلنا ذلك في العام الماضي .. 
                                      أحبك .
المخلصة \" أيمان \"                        - 3 -
في أخر الليل .. وقبل سفره بساعتين ، عصف به الشوق فتملكته الرغبة بلقائها حالما وصل قاعة الحفل التي دعته ( إيمان) أليها ، وبصعوبة بالغة حاول أن يخترق الكتل البشرية التي تراصت على طوال الرواق وكلا الجانبين بطوابير عفوية من الحضور ليذوي مختفيا بمكامنه اسفل عتبة الدرج ، وهناك وقبل أن تدركه الوحدة ، اطرق يستحضر ما سيهمس لها ، لحظة ائذ طفقت الساعة الجدارية تخرّ بوقع مخالبها الزئبقية ، ناشبة جلدة محطاتها الأخيرة نحو الساعة الثانية عشر ، وبحركة دائبة تهافت الحضور ليزداد جري وقع أقدامهم في فجوة البهو الفسيح الذي ضج بتعالي الهمهمات ، وسرت توخز كلماتهم التي ترددت صداها لتئز في صمّ  أذنيه ، كانت تشوبه نوعا من الحيرى حينما هاجمه بطريقة ما ذلك الاختناق الشديد الذي كاد يطبق بالكامل على جنبيه ، إضافة إلى استنشاقه كميات هائلة من دخان السجائر ، ورائحة البخور النفاذة  ، ومختلف أنواع العطور التي هبت من كل شبر حتى امتلأت رئتاه المنخورتان بهواء القاعة الفاسد ، ولما شعر بشيء من الغثيان حاول تغيير مكانه بإيجاد وسيلة للهروب من مكانه ، وبمجازفة وبلا وعي منه أيضا ، انتصب بقامته لينسل على مهل خفية إلى باحة حديقة الدار الخارجية التي كان يعتريها ظلام دامس ، مستغلا تلصص عيون الآخرين وتسّمرها بالفضاءات التي استجلبتها بزوغ ( أيمان) ، وقتئذ سكن كل شيء وتحول ما يحيط به إلى ذهول عارم عندما بانت من شرفة السطح بفضفضتها الرقراقة والمشعة بلون الطيف المتلألئ بكثافة في الأعالي ، في البدء راوحت في مكانها وهي توزع مودتها بحياء بين المهنئين ، بينما كانت نظراتها الطافحة .. الهائمة .. المرتابة تهيم في تيه الأماكن والزوايا المديدة بين آن وحين باحثة بقلق عليه ، وحينما تجّلت صورته من خلف ثلم الجموع المترادمة ، خرت هالات الفرح لتفيض مساحات واسعة من وجنتيها المغموستين بالقرنفل ، وبمناورة منها لململة نفسها ، ماخرة عباب ثلة الحضور بأقصى ما يمكنها وبدون أن تلفت انتباههم، مستبسلة بإيجاد موطئ قدم لها في محراب الشرفة الخارجية المطلة على الحديقة حيثما كان ينتظرها هناك بين دروبها الخفية . -4- 
وبلا إرادة منها ، وبينما كان صدرها يفور بالرغبات ، دست كفيها بمتاهات راحتيه المحمومتين ، ثم ما برحت ألا أن ترمي مرساتيّ ذراعيها بين عروة صدره الفسيح لتستريح هنيئة من عناء وصولها أليه ، مانحة نفسها وقتا مستقطعا لتهنأ بأحضانه بضع ثوان ، وبهمس نضج من وزر شفتيها ، قالت له وهي ترفع رأسه نحو الأعلى برفق : 
- حاول اختزال ما تبقى من وقت الحفل وغادرنا بسلام كي لا تفوتك فرصة العمل الجديدة !  
رفع رأسه مندهشا بالمفاجئة التي كان يود أن يزفها أليها هو أولا، وأراد أن يستعلم منها كيف عرفت بهذا السر ، ولكنها خذلته كعادتها ، فهي سريعة بقراءة نباتات أفكاره كلما أحست غيبيا بمجسات وجده الخفية ، لذا غمست أناملها المتضوعة بعطر القداح على طول مفازات فمه الذي ارتسمت عليه ابتسامة حيرى بغتة ، وهمت تمحو بشكل سريع  كل ما أراد أن ينطقه لتباغتته بنبراتها الهادئة وعينيها تغص بالدموع: 
 - سأغادر أفيون قلقي المدمر بسبب أدماني عليك، وها أنت تراني ألان ملتصقة بك حد الصدق لأداوي جروحي المغروسة في نياط قلبي الذي ارتبط نبضه بنبضك منذ الطفولة، علما أنني لم أمس منك شيئا لحد ألان، فكيف في بعدك ستكون جراحاتي ؟ 
اقتربت منه أكثر حتى لم يعد ثمة ما يفصلهما سوى نثار بلورات شفق أهمي من ضوء مرتعش تساقط من خلف زجاج النافذة ، وعلى جلجلة الساعة وبإيقاعاتها الرتيبة وهي تحتد منصهرة بفوران ثوانيها الأخيرة ، وبلفح من أنفاسهما الحارة وزفراتهما المديدة العميقة، انكفئا يتهجيان كلماتهما اللهفة ، متمليا كلا منهما في عين صاحبه ما تعودا أن يقولاه كل عام في مثل هذه الذكرى بإيقاع مسلي وعذب : 
دن .. دن .. 
هو:
- خطوتي تتجذر خطواتك . 
دن .. دن .. 
هي:
 - لا أدري ألي أين؟ 
دن .. دن .. 
هو:
- عصفورة تجلب الحب والحّب من أرض ما بين النهرين 
 دن .. دن .. 
هي:
 - مادام فلاحي أميرا  من (أور)   
دن .. دن .. 
هو:
 - فلنحرث الأرض أنـّــا الاثنين. 
         دن .. 
هي:
 – إذن فلنسبر معا غور الشفتين.. 
       دن .. 
   وأطفأت الأضواء ( ؟ ) . 
 



  • المصدر : http://www.kitabat.info/subject.php?id=3863
  • تاريخ إضافة الموضوع : 2011 / 03 / 06
  • تاريخ الطباعة : 2024 / 03 / 28