بسم الله الرحمن الرحيم

وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَراً مِّن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ{28}

تروي الاية الكريمة كلاما له جل وعلا مخاطبا الملائكة ( وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ ) , ( إِنِّي خَالِقٌ بَشَراً مِّن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ ) , النص المبارك يثبت عدة مواضيع , اهمها :

1- خصوصية خلق الانسان , لهذه الخصوصية اهمية كبيرة , كون الانسان جمع العقل والغريزة , الروح والجسد , فاختلف عن الملائكة لانهم مخلوقات عقل محض , ارواح فقط , وتميز عن المخلوقات العاقلة الاخرى كالجن ( الجان ) كونها مخلوقات روح ولا جسد , اما الانسان جسد وروح . 

2- الخصوصية الثانية خلق الانسان من الطين فجمعت في خلقه العناصر الاربعة النار والتراب , الهواء والماء , لذا فهو يشارك الجان كونهم خلقوا من نار فقط , وامتاز عليهم بعناصر التراب والهواء والماء , وتميز خلقه ايضا على خلق الملائكة كونهم خلقوا من نور الله تعالى مجده , بينما اضيف لجسد الانسان ( الروح ) { وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُم مِّن الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً }الإسراء85 .            

فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُواْ لَهُ سَاجِدِينَ{29}

يستمر الخطاب الالهي للملائكة في الاية الكريمة وكان في ثلاثة محاور : 

1- ( فَإِذَا سَوَّيْتُهُ ) : اتمام الخلقة وكمال الصورة . 

2- ( وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي ) : حلول الروح في ادم (ع) , ننقل رأيين حول الموضوع : 

أ‌) وإضافة الروح إليه تشريف لآدم . "تفسير الجلالين للسيوطي " . 

ب‌) لما كان الروح يتعلق أولا بالبخار اللطيف المنبعث من القلب ويفيض عليه القوة الحيوانية فيسري حاملا لها في تجاويف الشرائين إلى أعماق البدن جعل تعليقه بالبدن نفخا فهو تمثيل لما به يحصّل الحياة وذلك لأن الروح ليس من عالم الحس والشهادة وإنما هو من عالم الملكوت والغيب والبدن بمنزلة قشر وغلاف وقالب له وإنما حياته به وهو الخلق الآخر المشار إليه بقوله سبحانه ثم أنشأناه خلقا آخر أي خلقا لا يشبه هذا الخلق . "تفسير الصافي ج3 للفيض الكاشاني".

3- ( فَقَعُواْ لَهُ سَاجِدِينَ ) : امرا الهيا مباشرا للملائكة بالسجود لهذا المخلوق الجديد , سجود طاعة لله تعالى لا سجود عبادة لادم (ع) .    

فَسَجَدَ الْمَلآئِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ{30} 

تؤكد الاية الكريمة ان الملائكة امتثلوا للامر الالهي بالسجود لادم (ع) . 

إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَى أَن يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ{31} 

تستثني الاية الكريمة ابليس (لع) لم يمتثل الامر الالهي , امتنع وعصى وتمرد , حول هذا الامر تثار الكثير من المواضيع , نختار منها على نحو موجز : 

1- ان الامر الالهي كان للملائكة اما ابليس لم يكن ملكا , بل كان يتعبد معهم , فلماذا شمله الامر الالهي ؟ , لعل ابرز الاجوبة في ذلك : 

أ‌) من باب حشر الجزء بالكل , حيث كان ابليس (لع) جزءا من المأمورين بالسجود , فيشمله الامر من هذه الجهة . 

ب‌) كانت الملائكة تحسبه منها , وكانت معجبة بعبادته ومعارفه التي اكتسبها , بينما كان اللعين يتشبه بهم ويتعبد بعباداتهم , فلما عصى الامر الالهي بالسجود لادم (ع) انكشفت حقيقته وجنسه وعنصره لهم .

ت‌) الامر لم يكن للملائكة فقط , بل كان لكافة المخلوقات العاقلة والغير عاقلة , فخوطب الملائكة به ( الامر ) كونهم الاكمل عقلا في ذلك الحين , فيشمل الامر ابليس اللعين كونه مخلوقا عاقلا . 

2- يلاحظ في الاية الكريمة انها اخبرت عن ابليس اللعين انه ( أَبَى أَن يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ ) , ولم تقل انه ( ابى ان يكون من الساجدين ) , حيث ( مع ) تدل على المعية , وحرف الجر ( من ) يدل على التبعيض , اما كلمة ( السَّاجِدِينَ ) فلها مدلولان :

أ‌) وردت جمعا لتندرج فيها كل صفوف الملائكة .

ب‌) وردت جمعا لتدل على ان هناك مخلوقات اخرى من اصناف مختلفة سجدت مع الملائكة , بدليل الاية الكريمة السابقة ( فَسَجَدَ الْمَلآئِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ{30} ) , فوردت كلمة ( فَسَجَدَ ) مفردة بينما الملائكة جمعا , قد يدل هذا على ان هناك مخلوقات اخرى امتثلت للامر الالهي بالسجود لادم (ع) لكنها لم تذكر لاسباب كثيرة منها : 

ب-1- طالما وانها امتثلت للامر الالهي فلا داعي لذكرها , وانما يذكر من عصى الامر الالهي كأبليس اللعين . 

ب-2- قد تكون مخلوقات غير عاقلة فخاطب الامر الالهي الملائكة كون الملائكة المتصرفين بأمره جل وعلا في المخلوقات .

ب-3- قد تكون من الجمادات كالسموات والارض وغيرها , فبالرغم من انها جمادات الا انها تسبح الله تعالى , وقد امتثلت للامر الالهي فعليا , وخوطب الملائكة بالنيابة عنها لانهم الموكلون بها والقائمون عليها باذنه جل وعلا .   

3- يلاحظ ان الملائكة ( محض عقل , طاعة صرفة ) امتثلوا للامر بالسجود , ولم يخالط عقولهم شيئا من العداوة لتكريم المخلوق الجديد ( ادم "ع") , وهذا ما يشير الى حسن تقبلهم وله وحسن العلاقة معه ومع ذريته في المستقبل , اما ابليس اللعين رفض تكريم المخلوق الجديد , فاضمر له الحسد والعداوة له ولذريته . 

4- للصوفية اراء غريبة عن الموضوع , ننقل رأيين هما الاغرب : 

أ‌) قال الشيخ ابو منصور الحلاج في شأن ابليس اللعين ( كان أعلمهم بالسجود وأقربهم إلى الموجود , وأوفاهم بالعهود , وأدناهم للمعبود , سجدوا لآدم , وإبليس جحد السجود) . "الطواسين" . 

ب‌) اما احمد الغزالي وهو اخو الشيخ المعروف ابو حامد الغزالي فكان له رأي يتقارب مع رأي اخر حيث قال ( إن إبليس سيد الموحدين , وأنه من لم يتعلم التوحيد من إبليس فهو زنديق , أمِـر أن يسجد لغير الله فأبى ) . "نهج البلاغة شرح ابن ابي الحديد نقلا عن الدملوجي" .  

قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا لَكَ أَلاَّ تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ{32} 

تضمنت الاية الكريمة خطابه جل وعلا لابليس اللعين , الملاحظ ان الله تعالى اعلم بما يضمر ابليس اللعين لكن طرح هذا السؤال عليه وانتظار الاجابة ليستمع الحاضرين ( الملائكة – ادم ) للجواب .   

قَالَ لَمْ أَكُن لِّأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ{33} 

تضمنت الاية الكريمة جواب ابليس اللعين يعلل فيه رفضه السجود لادم , انه خلق من الطين , ويرى لنفسه (لعنه الله ) الافضلية كونه خلق من نار .  

قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ{34} 

تضمنت الاية الكريمة الحكم الرباني في ابليس اللعين وكان في بندين : 

1- ( قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا ) : فيها عدة اراء نذكر منها : 

أ‌) الجنة . "تفسير الجلالين للسيوطي " .

ب‌) السموات . "تفسير الجلالين للسيوطي " .

ت‌) من المنزلة التي أنت عليها في السماء وزمرة الملائكة . "تفسير الصافي ج3 للفيض الكاشاني".

2- ( فَإِنَّكَ رَجِيمٌ ) : مطرود من الخير والكرامة .   

وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ{35} 

تستمر الاية الكريمة بالخطاب الرباني , وتضمنت حكما ثالثا ( وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ ) الطرد من الرحمة , وحددت ايضا مدة نهاية الطرد ( اللعن ) ( إِلَى يَوْمِ الدِّينِ ) , يوم القيامة , عند ذاك سينال جزاءه العادل .      

قَالَ رَبِّ فَأَنظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ{36}

تروي الاية الكريمة مقالة ابليس اللعين , طلب فيها المهلة من الموت ونزول العذاب عليه , (  إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ ) , يوم يبعث الناس الى الحساب يوم القيامة , قال لعنه الله ذلك بعد ان علم ان ستكون لادم (ع) ذرية . 

قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنظَرِينَ{37} 

تضمنت الاية الكريمة كلاما له جل وعلا , فيه الامهال من حلول الهلاك عليه ( لعنه الله ) . 

إِلَى يَومِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ{38} 

ترتبط الاية الكريمة بسابقتها الكريمة , فكانت سابقتها قد امهلت ابليس اللعين , بينما حددت الاية الكريمة نهاية الامد في حلول الهلاك عليه , اما ( الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ ) فيختلف فيها المفسرون , فمنهم من يرى :   

1- وقت النفخة الأولى "تفسير الجلالين للسيوطي " , ( في العلل عن الصادق عليه السلام إنه سئل عنه فقال يوم الوقت المعلوم يوم ينفخ في الصور نفخة واحدة فيموت إبليس ما بين النفخة الأولى والثانية ) . "تفسير الصافي ج3 للفيض الكاشاني".

2- عنه عليه السلام إنه سئل عنه فقال اتحسب أنه يوم يبعث فيه الناس إن الله أنظره إلى يوم يبعث فيه قائمنا فإذا بعث الله قائمنا كان في مسجد الكوفة وجاء إبليس حتى يجثو بين يديه على ركبتيه فيقول يا ويله من هذا اليوم فيأخذ بناصيته فيضرب عنقه فذلك يوم الوقت المعلوم . "تفسير العياشي " . 

3- عنه عليه السلام قال يوم الوقت المعلوم يوم يذبحه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على الصخرة التي في بيت المقدس . "تفسير القمي" . 

قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَلأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ{39}

تضمنت الاية الكريمة كلاما لابليس اللعين يخاطب به رب العالمين ( قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي ) , اغواء الله تعالى له ( لعنه الله ) بتكليفه بما يكشف ضلالته , ( لأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الأَرْضِ ) , المعاصي فيها , فيرون القبيح من الافعال والاقوال حسنا , والحسن منها قبيحا , ( وَلأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ ) , الجميع .   

إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ{40}

تستمر الاية الكريمة بنقل كلامه (لعنه الله) ويستثني فيه عباد الله المخلصين , ( الذين أخلصتهم لطاعتك وطهرتهم من الشوائب فلا يعمل فيهم كيدي وقريء بكسر اللام أي الذين أخلصوا نفوسهم لك ) . "تفسير الصافي ج3 للفيض الكاشاني".

قَالَ هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ{41}

تروي الاية الكريمة كلامه عز وجل ( قَالَ هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ ) , أي هذا طريق حق عليّ أن اراعيه "تفسير الصافي ج3 للفيض الكاشاني" , ( مُسْتَقِيمٌ ) , لا اعوجاج فيه ولا انحراف عنه .      

إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلاَّ مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ{42} 

يستمر كلامه جل وعلا في الاية الكريمة ( إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ ) , قوة , سلطة , نفوذ , ( إِلاَّ مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ ) , يستثني النص المبارك من اختار طاعة ابليس اللعين على طاعة الله تعالى .  

وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ{43}

يستمر كلامه جل وعلا في الاية الكريمة , فبينت ان جهنم هي موعد ابليس اللعين ومن تبعه , وسار بنهجه . 

لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ لِّكُلِّ بَابٍ مِّنْهُمْ جُزْءٌ مَّقْسُومٌ{44}

يستمر كلامه جل وعلا في الاية الكريمة , وفيه بيان ان لجهنم سبعة ابواب , في كل باب قسم ونصيب ( حسب العمل ) لاتباع ابليس اللعين . 

في المجمع عنه عليه السلام إن جهنم لها سبعة أبواب أطباق بعضها فوق بعض ووضع إحدى يديه على الاخرى فقال هكذا وإن الله وضع الجنان على العرض ووضع النيران بعضها فوق بعض فأسفلها جهنم وفوقها لظى وفوقها الحطمة وفوقها سقر وفوقها الجحيم وفوقها السعير وفوقها الهاوية قال وفي رواية أسفلها الهاوية وأعلاها جهنم . "تفسير الصافي ج3 للفيض الكاشاني".