هنري باركي ترجمة - أنيس الصفار - عن مجلة فورن بولسي
هل تركيا جزء من التحالف الواسع ضد "داعش"، ذلك الذي يحاول الرئيس باراك أوباما تشكيله،.. أو أنها ليست كذلك؟ لا ريب أن هناك من الأسباب ما يدعو المرء للاعتقاد بأن تركيا لابد من أن تكون معنيّة بالمشاركة في هذا الجهد، فهي دولة لها حدود طويلة مع سوريا كما أن العديد من قادة المعارضة السوريّة المعتدلة يستقرّون في قواعد داخل تركيا منذ وقت طويل. علاوة على هذا كانت الحكومة التركية في مقدّمة المعارضين لنظام الأسد شأن كثير من الدول الأخرى المشاركة في التحالف ضد "داعش".إلا أن تركيا لم تنضم إلى الدول العربية العشر التي وقعت بالموافقة على تقديم المساعدة لبناء التحالف ضد "داعش" في اللقاء الذي عقد في جدة بالمملكة العربية السعودية في الأسبوع الماضي، كما أعلنت بوضوح أنها لن تشارك في العمليات العسكرية ضد هذا التنظيم. كل ما ستقدمه تركيا هو المساعدات الإنسانية، ومن المحتمل جداً أن تسهم بتقديم بعض أشكال الدعم الخفي للجهد الأميركي.
السبب الرئيس الذي أعلنته تركيا لتبرير تحفظها هو قلقها على مصير 49 دبلوماسياً تركياً وعناصر من الأمن كانت الجماعة المتشدّدة قد احتجزتهم عند اجتياحها مدينة الموصل العراقية، وهم أنفسهم الذين تم إطلاق سراحهم في الأسبوع الماضي. كانت أزمة الرهائن تلك رمزية في تعبيرها عن كل السوء الذي أصاب تركيا جراء أحداث سوريا، ورغم أن تركيا كانت قد تلقت إشارات تحذير نمّت عن السقوط الوشيك لثاني أكبر مدينة في العراق فقد ارتكب الأتراك أخطاء فادحة في حساباتهم حين اعتقدوا أن "داعش" لن تتعرض بالأذى لأي عنصر من الكوادر التركية نظراً للدعم الذي كانت تقدّمه أنقرة في الجهود ضد الأسد.غير أن انتهاء أزمة الرهائن في الموصل لا يعني بالضرورة أن تركيا باتت مطلقة اليد في التصدّي لداعش، لأن أنقرة لا تزال تواجه أزمة ثانية شبيهة بأزمة الرهائن وهذه تفرض على الزعماء الأتراك سبباً لإعادة التفكير مرتين بشأن الانضمام إلى تحالف أوباما. فإلى الجنوب من الحدود التركية مع سوريا ترابط سرية من الجنود الأتراك الذين يتولون حراسة قبر أثري قديم يقال انه يعود لسليمان شاه، وهو الجد الأول للسلطان العثماني. هذا القبر تخلّت عنه سلطة الاحتلال الفرنسي للدولة التركية الجديدة في 1921. وقد أملت الظروف أن ينقل هذا القبر في العام 1975 إلى موقع أكثر قرباً من تركيا بعد إقامة سد على نهر الفرات وإنشاء بحيرة الأسد، والموقع الجديد يبعد نحو 30 كيلومتراً عن الحدود التركية في محافظة حلب السورية. من حينها وضعت سريّة من الجنود الأتراك في ذلك المكان يتم تزويدها بشكل منتظم بالمؤن والاحتياجات. فلو شاء التنظيم الجهادي الآن مهاجمة هذه الرقعة التركية لفعل ذلك بسهولة، رغم أن مثل هذا التحرك قد يجرّ عليه ردّة فعل عسكرية من الجانب التركي. وأياً يكن الحال فإن الموقف بالنسبة لأنقرة دقيق جداً إن لم نقل مستحيلاً لأن السبيل الوحيد لإدامة إمداد تلك السريّة الصغيرة من الجنود يتمثل في التوصل إلى صيغة ما للتفاهم مع الجماعة. وكانت آخر عملية تزويد بالمؤن قد تمت في أواخر شهر نيسان الماضي تقريباً عندما لم تكن "داعش" متمتعة بكل ما تتمتع به اليوم من سطوة.رغم أن تفاصيل صفقة الرهائن لا تزال مبهمة فإن أنقرة لجأت إلى وسطاء لإجراء الحوار بينها وبين "داعش" (بدءاً بالعشائر العربية في المنطقة وانتهاء بنائب رئيس الجمهورية العراقي السابق طارق الهاشمي (المطلوب للقضاء العراقي)، الذي سبق له أن طلب اللجوء إلى تركيا) ومن المحتمل أن هؤلاء كان لهم دور فعّال في إنجاحها. إلا أن صفقة كهذه يمكن أن تكون قد تضمنت أيضاً وعداً من جانب تركيا بمواصلة الامتناع عن المشاركة في الحملة ضد الجماعة الجهادية، مع اعتبار الجنود المتمركزين عند قبر سليمان شاه بمثابة ضمانة للجهاديين.مشكلة تركيا الأخرى هي بروز بنية داعمة للجهاديين من داخل أراضيها. فقد أخبر سفير الولايات المتحدة السابق في تركيا "فرانسز ركياردون" الصحفيين مؤخراً أن أنقرة دأبت على التعامل مع جماعات تعتبرها الولايات المتحدة خطاً أحمر، ومن بين هذه الجماعات جبهة النصرة المنتمية إلى تنظيم القاعدة. وفي وقت سابق من هذه السنة احتجزت الشرطة التركية شاحنة قيل انها تعود إلى "مؤسسة الإغاثة الإنسانية"، وهي منظمة غير حكومية مقرّبة من حزب العدالة والتنمية الحاكم التي ذاع اسمها في الإعلام بسبب تنظيمها رحلة بحرية لإغاثة غزّة لم يكتب لها النجاح في العام 2010، وقد زعمت الشرطة أن الشاحنة المحتجزة محملة بأسلحة متجهة إلى المقاتلين في سوريا. ولكن رئيس الوزراء التركي أحمد داود أوغلو نفى أن تكون أنقرة قد تعاملت مع جبهة النصرة كما نفت "مؤسسة الإغاثة الإنسانية" أي علاقة لها بالشاحنة.المساعدات والذخائر والمقاتلون جميعها يجري تهريبها عبر الحدود بكل حرية وبلا قيود، وفي بعض الأحيان تستخدم سيارات الإسعاف لهذه الغاية. البنية الناتجة، المؤلفة من جماعات من المتعاطفين أو المتعاونين وشبكات من البيوت الآمنة وقنوات النقل والتهريب والخدمة الطبيّة، تعمل الآن بمنأى عن سيطرة الحكومة.
رغم تفاوت التقديرات تشير التقارير الأخبارية التركية إلى وجود ما يناهز ألف تركي بين صفوف "داعش". أما عمليات استطلاع الرأي فتوضح أن 70 بالمئة فقط من المواطنين الأتراك يعتبرون "داعش" جماعة إرهابية ومعنى هذا أن 30 بالمئة المتبقية من المواطنين الذين لا يشاطرون ابناء جلدتهم وجهة نظرهم تلك، في بلد يبلغ تعداد سكانه 75 مليون نسمة، سوف يكونون منبعاً مستقبلياً للجماعة المتشدّدة تجنّد منه ما شاءت من المتطوعين.كانت إدارة أوباما تضغط منذ بعض الوقت على رئيس الوزراء السابق، ورئيس الجهورية الحالي، رجب طيب أردوغان لكي يضيق الخناق على الدعم الذي يتلقاه الجهاديون في سوريا. وبعد أن سقطت الموصل وبدأ التحشيد ضد داعش أخذ الضغط على تركيا يتصاعد، ولكن الولايات المتحدة رغم هذا لم تطلب استخدام قاعدتها الجوية الضخمة في أنجرليك في جنوب تركيا لشن عمليات عسكرية على "داعش" لعلمها المؤكد بأن أنقرة سوف تخيّب أملها.استخدام قاعدة أنجرليك من شأنه أن يسهل على الولايات المتحدة كثيراً تنفيذ العمليات بالإضافة إلى خفض التكاليف إذا ما قورنت بالانطلاق من القاعدة الجويّة في الدوحة أو من حاملات الطائرات المرابطة في الخليج والبحر المتوسط بدلاً من أنجرليك. ولكن الولايات المتحدة في حقيقة الأمر لا تحتاج إلى تلك القاعدة لتحقيق أهدافها المحدودة، بدلاً من ذلك تسعى واشنطن للعمل بتقارب أكثر مع أنقرة وبدون إثارة أي ضجيج. إلا أن تفكيك البنى داخل تركيا التي تقدم الإسناد والعون للحركات الجهادية من كل صنف ولون، وقطع طرق تهريب النفط لصالح "داعش" يجب أن يأتيا في المقدّمة. يشعر أردوغان بالاستفزاز كلما وجهت الصحافة الأميركية إليه انتقاداً ويتهمها بإثارة حملة خبيثة من الافتراءات عليه، ولكنه في موقف صعب جلّه من صنع يديه. إلا أن هناك حقيقة لا يجوز إنكارها.. فتركيا لها مع سوريا حدود تمتد لأكثر من 900 كيلو متر وهذه من الصعب غلقها بإحكام لأن سكان تلك المناطق كانوا يعتمدون في حياتهم منذ عقود على التهريب عبر الحدود.بيد أن المشكلة الأكبر هي أن الحكومة التركية لم تعد تثق كثيراً بالولايات المتحدة. جزء من السبب في هذا آيديولوجي، ولكن للتجربة العملية دور أيضاً. فالإدارة المرتبكة لعراق ما بعد الاحتلال لا تدعو للاطمئنان إلى قدرة واشنطن على إدارة هذا الجهد الجديد.بين الرهائن الذين احتجزتهم "داعش" والدعم المهم الذي تحظى به داخل تركيا نجحت هذه الجماعة المتطرّفة في تضييق مساحة المناورة على أردوغان إلى حد كبير، وباتت السياسة الطبيعية لتركيا الآن هي التنحي جانباً. ولكن باشتداد رحى المعركة مع "داعش" سوف تجد تركيا نفسها واقعة تحت ضغوط متزايدة للانجرار إلى الحلبة. فهل سيكون هذا مشابهاً لما وقع في 2003؟ يومها أفشل البرلمان التركي، رغم كل مساعي حكومة أنقرة لدعم الموقف، قراراً كان سيسمح للقوات الأميركية باجتياز الحدود إلى العراق عبر الأراضي التركية. ذلك القرار ألقى بظلاله على العلاقات التركية الأميركية طيلة الفترة التي كانت الولايات المتحدة خلالها تناضل للسيطرة على عراق ما بعد صدام. مجمل القول أن مأزق تركيا يكمن في أنها قد فقدت مبادرتها مع "داعش"، ولئن تكن قد تمكنت من إنقاذ رهائنها فإنها هي نفسها لا تزال رهينة بيد "داعش".
عن مجلة فورن بولسي |