يحتفل اﻻنجليز ومعهم العالم في 14 مايو من كل عام استذكارا لرجل عظيم قام بواحده من اخطر المجازفات في التاريخ البشري عندما قرر في ذلك اليوم من عام 1796 اجراء التجربه التي كادت ان تودي بحياة ابنه الوحيد..فبعد ان استشرى مرض الجدري و كانت حياة الجميع على شفا الموت و تحت لعنة ذلك المرض المميت حيث قضى مايقارب الستين مليونا نحبهم من جراء فتكه بهم.. ﻻحظ (ادوارد جينر) ان مربي اﻻبقار وبائعي اللبن هم اﻻقل عرضة للاصابة بمرض الجدري ! وﻻنه ﻻبد من اجراء التجربة على انسان لذلك لم يكن امامه خيار اﻻ ابنه الوحيد الذي قرر ان يحقنه بجدري اﻻبقار ثم بالجدري البشري..كانت مخاطرة رهيبه حيث وضع فلذة كبده وجها لوجه مع القدر والموت الزئام..نجحت التجربه واستطاع جينر انقاذ حياة الملايين من البشر
احيانا ﻻ بد من المجازفه حتى وان كان احتمال الموت فيها كبيرا.. واحيانا اخرى ﻻ بد من التضحيه حتى وان اناخ الموت بكلكله وايقن المرء انه آت ﻻ ريب فيه..وهذا تماما ما فعله اﻻمام الحسين في ثورته الخالده..
الخطأ الكبير الذي يقع فيه الكثير من المحللين في تقييم اي ثوره هو اﻻعتماد على النتائج الماديه و اﻻنيه وما تحققه للجماهير من رخاء ورفاه وهذا ناتج من النظرة السياسيه المحضه تجاه الثورة بيد انهم نسوا ان يفرقوا بين الطبيعه النفسيه والنظرة الستراتيجيه للثوري و السياسي ..فالثوري يمتلك رؤية مميزه وطاقة ثورية دافعه تنفجر في لحظة ما ويصعب على اي كان ايقافها لتمضي لتحقيق الاهداف اﻻنسانيه النبيله التي يراها مشروعه حتى وان تدحرج رأسة تحت مقصلة الجلاد ليجد فيها خلاصه اﻻبدي من المسؤولية الشخصية التي يحملها على عاتقه كقائد وتأنيب للضمير..
اﻻمام الحسين (ع) لم يكتف فقط بالتضحية بأوﻻده واهل بيته وانصاره في تلك المعركة التي ظن الحاكم المستبد انها ستطوى في غياهب الزمن وتكون نسيا منسيا بل قدم نفسه وجعل منها قربانا في سبيل مبادئه الساميه ورؤيته العظيمه ..
النهضه الحسينيه -في بادئ اﻻمر- سارت بشكل منطقي جدا منذ اللحظة اﻻولى ﻻنطلاقها عندما قرر اﻻمام القيام بها واخبر اهل بيته والمقربين منه بالتخطيط لتنفيذها قبل ان يخبر الجميع بها ويعلنها جهارا نهارا في اول تصريح ناري مقتضب عندما قال " مثلي ﻻ يبايع مثله " بعدما استلم زمام السلطة حاكم اهوج يعرفه اﻻمام جيدا ويعرف ثقافته المنحرفه و حقده الدفين على الرسالة المحمديه التي كان يخطط جناح اليمين اﻻموي والقريشي ﻻبادتها والقضاء عليها وبالتالي القضاء على روح اﻻسلام الذي مثل نقلة تقدمية اشتراكيه على كافة الصعد السياسية واﻻقتصادية واﻻجتماعيه..كانت العائله اﻻمويه الحاكمه تخطط لاستعادة زمام اﻻمور بأﻻنقلاب على اﻻسلام من الداخل واعادة مجدها الجاهلي الذي ذراه النبي مع الريح بشعار "كلكم ﻻدم وادم من تراب" وساوى بين بلال الحبشي وابي سفيان في اكبر عملية للقضاء على الطبقيه عرفها التاريخ وقرب المناضلين والكادحين وفضلهم على سواهم بما يستحقوه من عمل نضالي الى الحد الذي اعتبر فيه سلمان الفارسي واحدا من اهل بيت النبوه..تلك السياسة كانت لم ولن ترق للمتنفذين واﻻرستقراطيين في قريش ابدا وكان ﻻبد من القضاء عليها من وجهة نظرهم ..
اي متتبع للثوره يعرف جيدا ايضا انها انتهت -من الناحية التكتيكيه- بأسر واعدام قائدها الميداني في الكوفه مسلم بن عقيل ومساعده هانئ بن عروه بعد ان فرض الوالي الجديد عبيد الله بن زياد سيطرته وحكم الناس بالحديد والنار..في الطريق الى الكوفه معقل انصار الحسين حيث الكتب التي كانت تترى اليه نصحه الكثيرون بالتراجع بعدما اجهضت الثوره وربما تأكد للامام ذلك بما يمتلكه من نظرة ثاقبه وبما يعرفه عن الطبيعة السايكلوجيه للكوفيين والتركيبه الديموغرافيه للمجتمع الكوفي ولو كان اﻻمام يفكر بشكل سياسي لرجع..ولكن هيهات فالثوري الحقيقي ﻻ يوجد في قاموسه شئ اسمه تراجع وهذا يعتمد بشكل كبير على نظرته الثوريه للامور حتى وان كلفه ذلك حياته او كان الموت منه قاب قوسين او ادنى..
ﻻ اتخيل ابدا ان الشعار الخالد (هيهات منا الذله) الذي اطلقه اﻻمام في ذروى المواجهة في اليوم العاشر من المحرم والذي اصبح شعارا لكل اﻻحرار في العالم كان شعارا انيا ابدا عندما قال ( اﻻ ان الدعي ابن الدعي قد ركز بين اثنتين بين السلة والذله..وهيهات منا الذله) ولو قدر لحياة الحسين ان يكون لها عنوانا لكانت تلك العباره هي خير ما يختصر به نضال رجل عظيم كاﻻمام الحسين عليه السﻻم..يخيل لي ان ذلك الشعار كان يردده اﻻمام في قرارة نفسه حتى قبل ان يخرج من المدينه ﻻن شخصا بحجم وعظمة الحسين ﻻيمكن ان يقبل بالذل مهما كانت الظروف وتحت اي ذريعه فاﻻنسان الحر يفضل الموت الف مرة على ان يحيى ويرى الظلم بأم عينه ثم ﻻ يستطيع ان يعمل شيئا..فها هو النواب يقول "سبحانك كل شي رضيت سوى الذل وان يوضع قلبي في قفص في بيت السلطان" نعم هكذا يفكر كل اﻻحرار وعلى امتداد التاريخ البشري الطويل !
في عام 1956 هجم فيدل كاسترو الزعيم الكوبي المعروف ورفيق نضاله ارنستو جيفارا على العاصمة الكوبية هافانا في ثمانين رجلا فقط لتحريرها من نير الحكم الدكتاتوري الفاسد لنظام باتيستا كان هجوما فاشلا- من الناحية العسكريه على اﻻقل- فمجموعة ثورية بذلك العدد لن تستطيع مواجهة حاكم يتمترس بالسلاح والرجال ويمتلك جيشا مدربا و مسلحا باحدث اﻻسلحة اﻻمريكيه.. قتل في ذلك الهجوم جميع رفاق كاسترو ولم يبق معه اﻻ جيفارا واخيه راؤول وبضعة اشخاص لكنه لم يستسلم بل عاد للغابات وشكل جيشا واستطاع ان يدخل هافانا في تموز 1959 فيما فر باتيستا مرعوبا خائبا..اذكر هذه الحادثة ﻻبين الفرق بين الرجل الثوري الذي ﻻ يعرف الهزيمه و بين السياسي الذي يركب الموجه ويعد العدة ويضع لكل حق باطلا في سبيل اهدافه ومجده الشخصي ..في قلب اي ثوري حقيقي شعلة مقدسة وعشقا ابديا ﻻ يخبو ابدا اﻻ بتحقيق ما ثار من اجله او ان يسقط مضرجا بدمه ليتحول الى اسطوره تلهم اﻻجيال وتلهب في قلوبهم حرارة الثورة والتوق لها
السلام عليك يا سيدي وموﻻي يا رمز اﻻحرار وكعبة الثوار ما بقيت وبقي فكرك اﻻنساني العظيم يشع في مشارق اﻻرض ومغاربها لينير للمضظهدين والرازحين تحت سياط الجلاد امل بالحرية والكرامه اﻻنسانيه |