• الموقع : كتابات في الميزان .
        • القسم الرئيسي : المقالات .
              • القسم الفرعي : المقالات .
                    • الموضوع : دعيني أفعل .
                          • الكاتب : عماد يونس فغالي .

دعيني أفعل

"دعنا نصنعُ كلَّ برّ"، أجابَ يسوع الآتي في بدايات اعتلانه مسيحًا، متسلِّلاً بين الجماهير المحتشدة، الطالبة المعموديّة على يد يوحنّا، ينتظر دوره كأيّ واحدٍ منهم. اعترضه المعمدان الذي فاجأه تعرّفه بالقامة الإلهيّة التي يهيّء لها الطريق: "كيف تجيء أنتَ إليّ؟" (متى3: 14). وبهدوءٍ واثق، يمسك بالحدث كاملاً، يرى الأفقَ الملآن بالإشارات الضوئيّة، أخمد يسوع تعجّبَ يوحنّا قال: دعنا نتمّ مشيئة الله حتى النهاية! توقّفْ يوحنّا، لا تعترض مخطّطَ الله! إجعلْ كما تنادي، سبلَه قويمة! عندها تركه يوحنّا يفعل. وفي منطق متى الإنجيليّ، البرّ يعني أمانةً مطلَقة لله، أمانةً حتى النهاية، حتى التضامن الكامل مع المرذولين والمنبوذين، الأكثر حاجةً في هذا المجتمع. هوذا سحْقُ نفسٍ لمعايشتهم لأجل خدمتهم، بل لأجل رفعهم إلى مستوى الإنسان، صورة الله يسوع المسيح. فيتشكّل الإنسان "يسوعًا" في ملء كينونته وحالة!
في هذا الإطار، هتف "جان بيار أميريس"، صاحبُ فيلم "ماري هورتان": "أرى اليوم الكثير من المنبوذين الذين لا يجدون لهم مكانًا في المجتمع". يرى صاحبُ الفيلم في المجتمع الحاليّ من هم في حاجة ماسّة لمن يصرخ لأجلهم: "دعنا نصنع كلَّ برّ". وأحداث الفيلم علامةٌ واقعة في هذا المجال. 
يُظهِر الفيلم ماري فتاةً بالغةً عمرَ الحادية عشرة، صمّاءَ خرساء. ويُظهرها فوقَ ذلك غير متمدِّنة، "متوحِّشة" عِدائيّة جرّاء توحّدها. إعاقتها دفعت والدها إلى التوجّه بها نحو مركز للراهبات، اهتمامُه الأولاد المصابون بالصُمّ. في اعتقاد الوالد أنّ الراهبات سيَهْتمِمْنَ بها في مؤسّستهنّ بالرغم من فظاعة وضعها! لكنّ الرئيسة رفضت قاطعًا. لا نستطيع ههنا قبول "حيوان غير داجن"، فكّرتْ! كيف يجيء بهذه الفتاة إلينا والدُها؟! لكنّ صدى صوت يسوع على الأردنّ تفجّر هنا، في فم الأخت مَرغريت، الراهبة العجوز، فاقدة الصحّة والهمّة. قالت لرئيستها: "دعيني أفعل!"، دعيني... بل دعينا نصنع البرّ! دَعينا نُتمُّ مشيئة الله في صورته هذه. فما سنفعله لهذه الفتاة، مع يسوع نفعله! ألا تخشَينَ أختاه الرئيسة، أن نتركَ يسوع دون اهتمام إن رفضنا ماري؟! كنتُ غريبًا، كنتُ مريضًا، فما آوَيتموني، فما زرتموني! لا، لا سمحَ الله! 
أخذت الأخت مَرغريت الفتاة "غير الداجنة" على عاتقها، وسط تساؤل الأمّ الرئيسة: ماذا تستطيع أن تفعل؟ أيُّ بِرٍّ سيخرج من مخلوق أقرب إلى الحيوان منه إلى الإنسان؟! ولكن، إذا قالت مَرغريت: دعيني أفعل، أمَا 
يتردّد في قولها، صدى صوت يسوع القائل هذا الكلام؟ بتعبيرٍ آخر، هو يسوع الذي يعلن للأمّ الرئيسة: دعيني... بل دعينا نصنع كلّ برّ! وإذا فعلَ يسوع، أيّ برٍّ عظيم سيكون، وأيُّ مقياسٍ لمشيئة الله سيُنتظَر؟ أقول إنّ عجائبَ ستتحقّق! ماهت الراهبة العجوز، العاجزة في نظر أختها، نفسَها بالربّ. قدّمت له يدها ليمسكَ بها ويصنع كلّ برّ. رأت أنّ يسوع يفعل، يريد أن يفعل، وسيفعل. يكفي أن نفسح له المجال! 
وتبان مرغريت في الفيلم، تُغرق نفسها مع ماري في غياهب ظلمتها وعمق تألُّمها مدّةَ حمْل. تسعةَ أشهرٍ كاملة تتمخّض تبرُّحًا، لتلدَها من جيد للعالم! معموديّة تلدُ للحياة الجديد، من حم الحبّ الذي استقته الراهبة من قلب يسوع، روَتْ فيه "جنينَها" وسقتها دفقَ نِعم الله! هوذا حبٌّ خالص ومركّز لهذه الفتاة التي جاءتها شبه لا إنسان، لتخرجَ من ظلمتها و"الرجاء الصالح"، صبيّةً تُريها المَشاهد الأخيرة، ساجدةً أمام مثوى "أمّها الثانية" تصلّي، علامةَ قيامةٍ تهديها إيّاها منذ حالتها، حيث تجلّت بواكيرَ ملكوتٍ تُنشدُه لها. وفي عالي الأفق تردّداتٌ إلهيّة: هاتان هما ابنتاي الحبيبتان، بهما سُررت!  
من بؤَرةِ نشأتها التوحّشيّة إلى نعيم انقلابها القيَميّ، مسيرةٌ طويلة عنوانها: "دعيني أفعل"! هنا، في كلّ لحظة تتقدّم، تترافق صلوات وأدعية مع جهودٍ عاملة على المستوى الإنسانيّ في جوانبه كلِّها. عينان مصوَّبتان إلى المصلوب الذي اشترى هذه النفس من علوّ تقدمته! 
التقت الأخت مرغريت عريسَها الإلهيّ في عمل مشيئة الله. التقته في تجلّيات رؤياهما المشترَكة، أن في إرادة الله آفاقٌ لا يدركها بُعدُ النظر البشريّ، وفيها قدرةٌ على الارتفاع بالإنسان نحو أعالي تطال المخادع السماويّة، حيث بنو البشر بعضُ الله! أمَا رؤية هذا "الحيوان غير الداجن" في عينَي الأخت الرئيسة يومَ التقتها، فتاةً تتجلّى إماراتُ يسوع إضاءاتٍ على وجهها الطاهر، تناجي الله أمام جسد "أمّها" مرغريت البالغة السماء، تُمطر عليها رذاذاتِ حياةٍ جديدة، عربون مجدٍ أبديّ!

كافة التعليقات (عدد : 2)


• (1) - كتب : عماد يونس فغالي ، في 2016/01/24 .

أخي الحبيب السيّد وليد،
كم تدفعني تعليقاتك على مقالاتي إلى الأمام، وتحمّلني مسؤوليّة التقدّم نحو الأفضل في ما يليق بالكلمة الراقية والإبداع. تحيّاتي القلبيّة لكم وللعائلة. وتقديري لنشاطكم الفكريّ الرائد!!!

• (2) - كتب : وليد البعاج ، في 2015/04/17 .

لا زلت مبدعا ايها الاخ العزيز والصديق المحترم لك مني كل التحيه ولقلمك الثر فانت سليل اسرة متربعه علي عرش الثقافه والمعرفه يحمل لوائها عمكم الخوراسقف بولس فغالي.



  • المصدر : http://www.kitabat.info/subject.php?id=60571
  • تاريخ إضافة الموضوع : 2015 / 04 / 16
  • تاريخ الطباعة : 2024 / 04 / 19