• الموقع : كتابات في الميزان .
        • القسم الرئيسي : المقالات .
              • القسم الفرعي : المقالات .
                    • الموضوع : التوحيد و الشرك الأسبقية و المنشأ .
                          • الكاتب : الشيخ ليث عبد الحسين العتابي .

التوحيد و الشرك الأسبقية و المنشأ

    إن الإنسان ومنذ أول يوم نزل فيه إلى الأرض كان موحداً , وعابداً , ومطيعاً لله سبحانه و تعالى , إلا أنه و بعد سنوات من التوسع , والتكاثر , و مع كثرة المتطلبات و الاحتياجات , وما ألت إليه المجتمعات من انقسامات , وهجرة مما أدى إلى تعدد الشعوب , و إلى تشعب الجماعات , وتفرق القبائل , وتكثر اللغات و اللهجات .
نتيجة لكل ذلك ابتعد الإنسان عن سيرة أبيه الأول آدم ( عليه السلام ) , وعن نهجه و شريعته . فخسر الأمان الذي كان يظله, والبركة التي كانت لديه . فعرضت له أزمات و نكبات ورأى أهوالاً و أشياء مخيفة جعلته يفكر في كيفية توفير الحلول لها . 
الا أن الحلول كانت فردية تدل على قصر نظره , و اعتماده على حواسه المجردة , فما كان من الشيطان الا أن يتدخل ـ فهذه فرصته ـ لإبعاد هذا الإنسان عن الطريق الصحيح . فبدت للعيان ظاهرة جديدة ألا وهي عبادة غير الله تعالى , ابتدأت بعبادة الطبيعة وانتهت بنصب وعبادة الأوثان و الأصنام مما زاد في اختلاف الناس و تكثر مذاهبهم في ذلك , و أدى إلى تمردهم على الفطرة السليمة , وابتعادهم عن العبودية الأصيلة لله سبحانه و تعالى .
 يقول الفيلسوف الأمريكي ( ماكس مولر )  : ( أن هذه الآلهة المجسمة ليست إلا تمثيلاً طرأ على الإنسان ,بعد تلك الفكرة الطبيعية . وبناء على هذا فقد ركع آباؤنا و سجدوا أمام الله الحق حتى قبل أن يجسروا على الإشارة إليه باسمه )  .
كل ذلك كان بفعل أسباب متعددة منها على سبيل المثال :
1ـ عبادة الهوى .
قال تعالى:(( أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ وَأَضَلَّهُ اللهُ عَلى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلى بَصَرِهِ غِشاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللهِ أَ فَلا تَذَكَّرُونَ )) الجاثية (23) .
2ـ اتباع الشيطان إلى حد العبودية له .
قال تعالى :(( يا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الأَرْضِ حَلالاً طَيِّباً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ )) البقرة (168) .
و قال تعالى :(( أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ )) يس (60) .
فما كان من الله سبحانه وتعالى , وبعد شيوع كل ذلك الاختلاف إلا أن يبعث الأنبياء و الرسل ( عليهم السلام ) لإرجاع الإنسان إلى أصله الأول , و إلى فطرته السليمة .
قال تعالى :(( كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً فَبَعَثَ اللهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلاَّ الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ )) البقرة (213) .
فكان هذا الاختلاف امتحاناً للإنسان .
قال تعالى : (( وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً واحِدَةً وَلا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلاَّ مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ * )) هود (119).
إن دور الأنبياء و الرسل ( عليهم السلام ) هو إزالة حالة الشرك لدى المجتمعات, و إرجاع الناس إلى الفطرة السليمة . 
فـ(( عندما يذكر القران قصص نهضة الأنبياء العظام فإنّه يؤكد في عدة مواضع على هذه النقطة , وهي : أن الرسالة الأصلية للأنبياء تتمثل بإزالة أثار الشرك و الوثنية . و ليس إثبات وجود الله, لأن هذا الموضوع مخبأ في أعماق فطرة كل إنسان ))  .
وهذا جلي واضح للمتصفح لآيات القران الكريم الموضحة لدعوات الأنبياء و الرسل ( عليهم السلام ) لأقوامهم , فالأصل في كل الدعوات واحد ألا وهو : الرجوع إلى الله سبحانه و تعالى و طاعته و عبادته .
قال تعالى:(( وَسْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنا أَ جَعَلْنا مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ )) الزخرف (45) .
و قال تعالى:(( فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ )) الروم (30) .
فالمتحصل : إن نشأة الإنسان الأولى قائمة على التوحيد , أما الشرك فأمر عرضي في حياة الإنسان , فالإنسان موحد بالفطرة . فالمتصفح للحقائق التاريخية ـ غير المحرفة ـ يجدها تدل و بشكل قاطع على وجود الدين لدى الإنسان و منذ القدم ,  وأن الإنسان الأول و المجتمعات الأولى كانت موحدة, ومعترفة بوحدانية الله سبحانه و تعالى .
يقول الأستاذ الشهير ( هرشل ) : ( كلما اتسع نطاق العلم ازدادت البراهين الدامغة القوية على وجود خالق أزلي لا حد لقدرته و لا نهاية ... ) .
كما ويقول المؤرخ الكبير ( ويل ديورانت )  :( .. فأن الإلحاد الديني من الحالات النادرة وهذا الاعتقاد القديم بأن التدين حالة بشرية عامة يتطابق مع الحقيقة ) .
ويقول الفيلسوف الأمريكي ( ماكس مولر ) : ( خلافا لما تقوله النظرية الشهيرة بأن الدين ظهر أولا بعبادة الطبيعة, و الأشياء , و الأصنام ثم وصل إلى عبادة الله الواحد , فلقد اثبت علم الآثار بان عبادة الله الواحد كانت سائدة منذ أقدم الأيام ) .
إذن فالإنسان الأول و المجتمع الأول كان موحداً , أما الشرك فأمر عارض دخل على المجتمع الإنساني . إن الصراع ما بين الشرك والتوحيد صراع أزلي , ومستمر على طول حياة بني الإنسان . 
( ولذا كانت روح الشرك و الوثنية سارية في المجتمع الإنساني سراية تكاد لا تقبل التحرز و الاجتناب حتى في المجتمعات الراقية الحاضرة وحتى في المجتمعات المبنية على أساس رفض الدين فترى فيها من النصب و تماثيل الرجال و تعظيمها و احترامها  و البلوغ في الخضوع لها ما يمثل لك وثنية العهود الأولى و الإنسان الأولي )  .
إن المتتبع لحالة الصراع المحتدم على مر العصور بين جند الرحمن و جند الشيطان , يلحظ ان جوهر الصراع يكمن في : ( من الذي تكون له العبودية ؟ ) .
فنعلم و بما لا يقبل الشك ان صراع التوحيد ضد الشرك هو منهج الرسالات الإلهية إزاء الملأ المستكبر , والطاغوت المتجبر . نعم لقد كان هذا الصراع يمثل خطاً ثابتاً في المنطق القرآني , حيث يدعو لتخليص الناس من الشرك و عبودية العباد و الشهوات , ليرتقي بهم إلى عبودية الله سبحانه و تعالى رب العباد و خالقهم و سيدهم .
يقول مولى الموحدين أمير المؤمنين علي أبن أبي طالب ( عليه السلام ) : (( ... أما بعد, فان الله بعث محمداً صلى الله عليه و آله , ليخرج عباده من عبادة عباده إلى عبادته , و من عهود عباده إلى عهوده , و من طاعة عباده إلى طاعته , و من ولاية عباده إلى ولايته ))  .
قال تعالى:(( وَلَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ فَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ )) النحل (36) .
فالصراع مع الشرك و أتباعه و أدعياءه  هو الأصل و الأساس ، و ذلك لأنهم العقبة الكئود في طريق الأنبياء و المرسلين ( عليهم السلام ) , الذين بعثهم الله عز و جل لإنقاذ الإنسان من الضلالة و الجهالة و الضياع.والهدف من وراء كل ذلك كما يقول أمير المؤمنين ( عليه السلام ) هو: (( ... لنرد المعالم من دينك , ونظهر الإصلاح في بلادك ... ))  .
فصراع التوحيد و أولياء الرحمن , ضد الشرك و أدعياء الشيطان , يمثل الهوية المتكررة في كل زمان و مكان ، نحو الحقيقة المتمثلة في العبودية الخالصة لله سبحانه و تعالى .
قال تعالى:(( لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلَنا بِالْبَيِّناتِ وَأَنْزَلْنا مَعَهُمُ الْكِتابَ وَالْمِيزانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ )) الحديد (25) .
وأساساً فان ملحمة الصراع الفكري و المبدئي بين التوحيد و الشرك تمثل رأس المواجهة و سنام المعركة و ذروة الاحتدام و قمة التحدي , حيث يقوم التوحيد بفضح الأفكار الضالة , و المفاهيم المنحرفة و مواجهتها بجدية و صراحة , في الدعوة إلى نبذ الشرك و التخلي عنه , والعزوف عن متبنياته , والخروج من   دائرة تأثيراته , و اعتباره سلطاناً غاشماً على العقول , و سرطاناً فتاكاً للنفوس .
قال تعالى:(( إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ قَدْ ضَلُّوا ضَلالاً بَعِيداً )) النساء (167) .



  • المصدر : http://www.kitabat.info/subject.php?id=68362
  • تاريخ إضافة الموضوع : 2015 / 10 / 08
  • تاريخ الطباعة : 2025 / 02 / 23