• الموقع : كتابات في الميزان .
        • القسم الرئيسي : ثقافات .
              • القسم الفرعي : ثقافات .
                    • الموضوع : وقفات على أعتاب الديار .
                          • الكاتب : د . سعد الحداد .

وقفات على أعتاب الديار

  كان للمشهد الشعري في مطلع الثمانينات مفترق ظاهر في مسيرة الشعر العراقي بما حمله من تناقضات تياراته المتعددة التي تقاطعت كثيراً في فضاء الشعر والثقافة والايدولوجيا ولم تكن الانشطارات المتوالدة من الأجيال السابقة الا بداية لتكريس مفاهيم جديدة تخترق المشهد ، فالشاعر الثمانيني وقف بين موقفين أو قل مصيرين عند اندلاع الحرب العراقية الإيرانية مما وجد نفسه منساقاً بإرادته أو (مدفوعاً) الى أحد مفترقين .
الأول : النظام الحاكم بكل جبروته وتسلطه وعقده الأنوية ونوازعه الشريرة . والثاني : المعارضة بشقيها (الصامت) الذي لا حول ولا قوة له ، وانكماش المبدع وانحساره إرادياً . أو (الحركي) المواجه بالمثل ، المنضوي تحت يافطات تنظيمية سياسية داخل البلد وخارجه .
وممن اتخذ الموقف الأخير منهجاً له الشاعر المرحوم سلمان عاصي الربيعي الملقب بـ( أبي أمل) فسجله الشعري  كان موازياً لسجله الجهادي ، فهو لم يتكيف مع الروح الهمجية للسلطة الحاكمة لذا اتخذ من الغربة سبيلاً لمقارعة الظلم والاستبداد مجاهراً بلا هوادة في فضح أساليب النظام حتى اتسمت تجربته بألوان (المرارة والمحنة والاغتراب) ، وطغى مفهوم (الحنين) على نتاجه الغزير بمختلف أغراض الشعر وفنونه.
      وابتداءً أقف أمام عناوين دواوينه الثلاثة وهي متسلسلة حسب سنوات إصدارها ( الديار المحجوبة) و (على أعتاب الديار) و (طيف وطن) . وأحسب أنَّ العنونة مقصودة . وهي تشكل خطأ واعياً متوازياً مع (النأي- العودة (المؤقتة) – الحلم (الخلاص) .
      فالديار المحجوبة الصادرة نهاية الثمانينات مثّلت فضاءً رحباً للتعبير العقائدي ممزوجاً بمرارة الغربة . بعيداً عن أعين الرقباء وأقلام أزلام السلطة . وهي تمثل مفتتح المعاناة وابتداء تجربة ضخ فيها الشاعر ما عن له من نتاج ليؤسس له موطأ قدم في الساحة الثقافية المعارضة وليكون صوتاً مناهضاً ومدوياً قبالة تيار مؤسسة السلطة الذي آزر الحرب ودافع عن النظام .
      كانت القصيدة عند الربيعي ( تعبوية التوجه ) ، مخطط لها بإحكام يركن فيها بجد الى معطيات علوم العربية في تشعباتها التي يرى فيها نوعاً من الانتماء الى الأصيل والثابت الذي يشكل هويته الشعرية ، فضلاً عّما كان يمثله من معين ثرّ في سد احتياجات المنبر الحسيني الى الجديد من النصوص . فهو على أهبة الاستعداد لتلبية نداءات الولاء والقضية الحسينية التي كانت له بمثابة الحافز القوي لشحذ الهمم وعدم التراخي في الدفاع عن قضيته المصيرية التي تغرّب من أجلها .
طوتني غربتي حتى كأنّي
        أُقضّي الشوطَ ضيقاً بعد ضيقِ
ج

     هكذا كانت معاناة الشاعر وهو يرسم الصورة الحقيقة المعبرة عن الغربة ، صحيح أنّ الغربة وطن للحرية إلا أن الغربة (منفى) لذا كان الشاعر يلجأ الى كسر الحاجز في لجوئه الى الرثاء وتفريغ شحنات كافية من الحزن والبكاء وخاصة في رثاء أهل البيت (عليهم السلام) وندب الامام الحجة (عج) فهو بعيد عن أهله وأحبته وطفلته التي لم يرَ مولدها .
     والحنين الجارف الى الوطن يولّد لدى الشاعر تساؤلاتٍ مستمرةً ضاق ذُرْعاً بها واستنفذ كل أدواته الطبيعية وحيلهِ البريئة في تحقيق أمانيه فانتفض متذمراً في تساؤله
فمتى أُكحلُ من ضيائك مقلةً
        قد كللها – تاللهِ طولُ شُهادِ ؟


        ولم يتوقف الشاعر عن استعادة مخزون ذاكرته وما علق فيها من أحداث ، لكنه يتفاءل في مفتتح ديوانه (على أعتاب الديار) الصادر سنة 1992م  والذي مثّل (العودة المؤقتة) حيث رؤية الأهل بعد سنين عجاف وهذا التفاؤل المتولد من الانتصار المعنوي الذي حققه الشعب العراقي في انتفاضته المباركة سنة (1991) هو كسر لحاجز الخوف الجبار الذي كان يكتنف العراقيين . وراح الشاعر يمنّي النفس بقرب العودة متوسلاً في نظمه أوزان طاربة كالموشح فيقول :
يا حبيبي إن يطُلْ عنكَ فراقي
وحُرْتُ العيش في أرض العراقِ
فلقد بُشرتُ في يوم التلاقي
حين هدًّ الشعبُ أوكارَ النفاقِ
بعدما شطَّ المزار
 سأرى تلك الديار
وبلمَّ الشملِ بعد الانفصامْ
كنتُ حقّقت المرامْ
 
        وتزاد وتيرة التفاؤل بعد أن تحققت أمنيةٌ لا أغلى منها وهي لقاء عائلته بعيداً عن الدار الأولى وفي المنفى أيضاً . فشقلاوة كانت أرض حرام ومنفى آخر . وفي هذا النص ابتعد الشاعر عن أسلوبه في النظم الكلاسيكي وراح يعبر عن آلامه وآماله بالجديد من الشعر . وعلق في مطلع قصيدته (لقاء في شقلاوة) بالقول (ذهبتُ الى شقلاوة روحاً بلا جسد وعدتُ منها جسداً بلا روح ) وتلك حقيقة المجاهدين الذي عاشوا تلك الأيام العسيرة في سني عمرها ، فهم في وادٍ والأحبة والإغراب والأهل في وادٍ آخر .
والقصيدة تذكرنا بقصيدة في الغرض ذاته ومن النوع نفسه الا وهي قصيدة الشاعر بدر شاكر السياب (غريب على الخليج) . فالهمّ الانساني واحد وان اختلفت بواعثه .
       وتحفل مجموعة الشاعر بمساحات من أصالته القيمية والتربوية التي نشأ عليها ، فهو يوجد بما امتلك من خبرة المجاهد المفارق عن الأهل والوطن ، ويناصر ممن على شاكلته في جهادهم ونضالهم ضد الاستعباد والظلم ، وهذا يذكرنا بما كان في العقود المنصرمة من وقفة الشعراء العراقيين مع نضال الشعوب في العالم ومناصرتها وتمجيد قادتها أمثال جيفارا وهوشي منه وغيرهما ، فالشاعر الربيعي ينزع نحو رفض الاضطهاد والسجن للمجاهدة التركية (أمينة سليكو جلو ) وبهذا يدلك أنَّ جهاده لم يكن مقتصراً على المطالبة بالحرية والسلام لشعبه وذلك قمّة الخلق الإسلامي الرفيع فالناس صنفان إمّا أخ لك في الدين او نظير لك في الخلق .
إنّي لأفخر يا أمنيةُ إنّ لي
        أُختاً يُردَّدُ ذكرُها في المحفلِ

نذرتُ لتطبيقِ الشريعة روحَها
        في أمةٍ ناءت بصبء منقلِ

أعظمتُ فيك شجاعةً ومواقفاً
        قد أرَقتْ واللهِ جفنَ الأَخيلِ

إنَّ السعادةَ لا تنالُ بلا عنا
        أما الشفاء فذاك حظُّ الأكسلِ

فعليك بالاسلام نهجاً وابشري
        بالعزّ فخراً في الزمان المقبل
ج
لك سجّل التاريخ في صفحاته
ج        شأواً يعزّ على السماكِ الأعزلِ


    وبقي الربيعي الذي تكنّى بــ( أبي أمل )على أعتاب الديار وهو يودّع الحياة نتيجة عمل جبان أقدمت عليه زمر النظام  البعثي  سنة 2000م لتغتال الشاعر المتفائل الذي أقضَّ مضاجعها بقصائده الخالدة  في بلاد الغربة .
 




  • المصدر : http://www.kitabat.info/subject.php?id=70306
  • تاريخ إضافة الموضوع : 2015 / 11 / 18
  • تاريخ الطباعة : 2024 / 03 / 29