• الموقع : كتابات في الميزان .
        • القسم الرئيسي : المقالات .
              • القسم الفرعي : المقالات .
                    • الموضوع : التاريخ والحضارة الانسانية .
                          • الكاتب : اسراء العبيدي .

التاريخ والحضارة الانسانية

 التاريخ، في أبسط معانيه، قصة الإنسان وقصة محاولاته لإعمار الأرض وكشف حقائق الكون. وفى زمن البدايات لم يكن الإنسان يعرف حقائق الكون الذى عاش في رحابه، لم يكن قادرًا أيضا على فهم الظواهر التي تحيط به في هذا العالم ، ولم يكن قادرًا على التحرر من أسر الطبيعة؛ فعاش تحت رحمتها .
وفى ذلك الزمان كانت الأسطورة بمثابة الحل العقلي والنفسي لعجز الإنسان وجهله ؛ فظهرت الأساطير التي تتحدث عن نشأة الكون، ومظاهر الطبيعة ، وأصل الإنسان ... وما إلى ذلك.
لقد كان الفكر التاريخي رفيقًا ملازمًا للإنسان في كل زمان ومكان . ولذلك فإنه عندما عاش الإنسان الأول على الأسطورة التي عوضت نقص معرفته ورقعت ثقوب ذاكرته، كان فكره التاريخي أسطوريًا ؛ فقد ولدت المعرفة التاريخية في رحم الأسطورة ، وكبرت فى حجرها عندما كان الإنسان بحاجة إلى هذا النوع من «القراءة الأسطورية» لتاريخه . ولهذا السبب فإن من يقرأ الأساطير الأولى عند الشعوب يجدها تدور حول نواة «تاريخي؛ ، أو يجد فيها الكثير من «التاريخ» ومن يقرأ الكتابات التاريخية الباكرة يجد فيها الكثير من العناصر الأسطورية. وفى هذه التواريخ / الأساطير ، أيضا ، نجد بدايات الحضارة الإنسانية الباكرة في جوانبها الفكرية والثقافية؛ فقد حملت هذه التواريخ والأساطير والإجابات التي توصل إليها الإنسان في بحثه عن أصول الجماعات البشرية ، وهويتها الحضارية ، فضلاً عن أصول الأشياء والظواهر التي شاهدها الإنسان في الكون.
هكذا ، كان التاريخ مفهومًا حضاريًا منذ البدايات الأولى. ففي تلك المرحلة الباكرة من تاريخ الإنسان ، وتاريخ التاريخ، نجد محاولات أسطورية لتفسير الوجود الإنساني في الكون، وحل اللغز المتعلق بهذا الوجود. وفى تلك المرحلة ، أيضًا نجد محاولات أسطورية لتبرير سلطة الحكام والملوك الذين نسبتهم الأساطير إلى الآلهة والديانات التي ابتكرها البشر. فقد نسبت تلك التواريخ / الأساطير حكام ذلك الزمان إلى حكومات الآلهة، كما نسبت إليهم الفعاليات التاريخية ولم تترك للإنسان سوى دور المفعول به . لقد كانت تلك مرحلة «تاريخية» تتوازى مع تلك المرحلة «الحضارية» من حيث بساطتها وسذاجتها ومن حيث أن قوامها كان الأسطورة والخرافة .
أي أن حضارة الإنسان في تلك الأزمنة البعيدة كان قوامها البحث عن وسائل مادية للسيطرة على الكون الذى يعيش الإنسان في رحابه من ناحية، والبحث عن وسائل ثقافية تبرر الوجود الإنساني وتفسره من ناحية أخرى. وفى ذلك الزمان أيضا كان التاريخ يدور حول « نواة تاريخية» واقعية يغلفها الخيال وتحتضنها الأسطورة . وهو ما يبرر ما نزعمه أن التاريخ والحضارة مترادفان على نحو ما . التاريخ هو قصة الإنسان في الكون والحضارة هي إنجاز الإنسان في الكون.
التاريخ قصة الإنسان في الكون، وسيرته في هذا العالم، ورحلته عبر الزمان . والحضارة تجسيد لهذا كله على المستوى المادي واللامادي عبر القرون. وإذا كان مؤرخو الحضارات يجمعون على أن جميع حضارات الإنسان، منذ البداية حتى الآن، قد أخذت عن الحضارات التي سبقتها- باستثناء الحضارات الأولى التي حددها البعض مثل أرنولد توينبى بعدد معين في وديان الأنهار في مصر والعراق والصين والهند- فإن معنى هذا في التحليل الأخير أن تاريخ الحضارة متصل الحلقات متواصل المراحل شأنه في ذلك شأن تاريخ الإنسان صانع الحضارة أيضا.
وإذا كان الإنسان هو صانع التاريخ فهو أيضًا صنيعة هذا التاريخ، بمعنى أنه يصنع تاريخه حقًا ؛ ولكنه يتشكل بفعل هذا التاريخ أيضا. ومن ناحية أخرى، فإن الإنسان صانع الحضارة ونتاجها في الوقت نفسه، ومن ثم فإن التاريخ يحمل مفهومًا حضاريًا ، كما أن الحضارة تحمل مفهوما تاريخيًا.
واللافت للنظر حقًا أن المؤرخين والباحثين وعامة المفكرين والمثقفين يتفقون على أن التاريخ علم موضوعه الماضي الإنسان ، ولما كانت الحضارة محصلة ما أنجزه الإنسان في الماضي- وهو ما يصدق على الحضارات القديمة والحضارات المعاصرة بالقدر نفسه- فإن الماضي عنصر يجمع بين التاريخ والحضارة . فالحضارة بناء تاريخي متراكم فيما يشبه الطبقات الجيولوچية ، ويحمل بصمات وآثار التفاعل والتواصل المستمر بين الحضارات الإنسانية الأخرى .
تاريخ البشرية واحد؛ ولكن تجليات هذا التاريخ مختلفة متباينة من زمن إلى زمن آخر ومن مكان إلى مكان مختلف ، ومن أمة إلى أمة غيرها ، والحضارة الإنسانية واحدة ولكن تجلياتها مختلفة أيضا، وآية ذلك أنك لن تجد أمة لها تاريخ منعزل تمامًا عن تاريخ الأمم الأخرى ، ولن تجد حضارة لم تأخذ عن حضارة سابقة ، أو معاصرة ، أو مجاورة، صحيح أن لكل أمة تاريخًا خاصًا بها ويحمل بصمات هويتها الحضارية ، وصحيح أيضا أن لكل أمة حضارة شادتها عبر تاريخها؛ بيد أنها جميعا تبدو مثل روافد تصب في مجرى نهر واحد هو التاريخ الإنساني والحضارة الإنسانية.
ويلفت النظر هنا أن الجوانب السياسية والعسكرية في التاريخ ، أو في الحضارة إن شئت ، هي عوامل الفرقة والتفرقة والتباعد والتخاصم ، فالأطماع السياسية والأنشطة العسكرية ، كانت باستمرار من أسباب التباعد والنزاع ؛ ولكن العوامل الفكرية والثقافية فى التاريخ وفى الحضارة على السواء كانت هي عوامل التقارب والتفاعل والمشاركة ؛ وكانت على مدى الزمان تنتقل من شاطئ إلى آخر في سهولة ويسر. هذا هو مفهوم الحضاري في التاريخ ، أو المحتوى التاريخي في الحضارة.
إن قراءتنا الحالية للتاريخ قراءة تهرب من مواجهة مسؤوليات الحاضر والمستقبل لدغدغة مشاعر الزهو الكاذبة بإنجازات الماضي الذى نبدده في سفه سيأسى وثقافي مزعج . وبسبب الأجواء الخانقة سياسيًا والمعطلة للحرية والمانعة تخبو جسارة الإبداع ، وتخفت القدرة على قراءة تاريخنا قراءة واعية ؛ بل إن التاريخ مطارد فى مدارسنا وجامعاتنا .
إن الحرية شرط جوهري للإبداع ، وعندما تنزاح النظم المستبدة الجاثمة على الحياة فى العام العربي، ربما يتحقق ما نصبو إليه .

 




  • المصدر : http://www.kitabat.info/subject.php?id=70843
  • تاريخ إضافة الموضوع : 2015 / 11 / 30
  • تاريخ الطباعة : 2024 / 04 / 19