• الموقع : كتابات في الميزان .
        • القسم الرئيسي : المقالات .
              • القسم الفرعي : المقالات .
                    • الموضوع : من مذكراتي عن اهل الفلوجة الكرام .. * في الطريق الى المحكمة العسكرية .. .
                          • الكاتب : جاسم المعموري .

من مذكراتي عن اهل الفلوجة الكرام .. * في الطريق الى المحكمة العسكرية ..

 

 
كنا صغارا بعمر الزهور , كبارا بقلوب طاهرة , وكان الوطن حبيبنا , نحبه بشجاعة من خلال بغضنا الشديد لنظام صدام اللعين الذي مازال حتى اليوم يعبث بدماء ابناءه الغيارى , ومن خلال خوفنا عليه , والحرص على وحدته , واستقلاله , وكرامة وحرية ابناءه جميعا ..
في عام 1987 وبعد تخلفي عن أداء الخدمة العسكرية لمدة تقارب العام , ومن ثم هروبي من الجيش , تم القاء القبض علي , وارسالي الى المحكمة العسكرية الخاصة الخامسة في الفلوجة , برفقة  ( المأمور ) نائب ضابط من اهالي الرمادي محافظة الانبار لا اتذكر اسمه , والمأمور هو العسكري المسلح المسؤول عن ايصال المتهم الى المحكمة واعادته الى السجن , وفي الطريق الى المحكمة ركبنا سيارة اجرة عبارة عن باص صغير وكانت مليئة بالركاب من اهل الفلوجة , وعندما جلسنا متقابلين مع الركاب الاخرين , كانت امرأة في الخمسينات من عمرها , تنظر الي وهي تتألم وتطلق الحسرات بين الحين والحين ,وتركز نظرها الى يدي المكبلتين بالقيود الفضية اللون , كانت تبدو وكأنها ستنفجر بالبكاء شفقة بحالي , في الوقت الذي لم أعر أية أهمية لتلك القيود , ولا الى المصير الذي ينتظرني , كان الصمت يخيم على الركاب جميعا فلقد كان الناس في ذلك الوقت في حزن وخوف شديد لما كانت تمر به البلاد والعباد من مخاطر الحرب , وكثرة قتلاها وجرحاها وأسراءها , بالاضافة الى الاعدامات التي كان يقوم بها النظام المجرم ضد ابناء الشعب كافة .. وفجأة صرخت تلك المرأة الفلوجية الغيورة بوجه المأمور قائلة : لماذا لاتفك القيود عن يديه ؟ ألا ترى انه مازال ولدا صغيرا ؟ هل تعتقد انه سيقفز من السيارة مثلا وهي تسير بنا ؟ فرد عليها بكل هدوء قائلا : لاضيرعليه , فلقد كبلوا يدي السيد الرئيس القائد بالقيود ايضا , فهل من عار في ذلك ؟ فصمتت المرأة وساد الخوف والشك صدور الركاب .. 
 
في المحكمة  
كانت المحكمة عبارة عن بيت سكني صغير يقع في الشارع العام في بداية مدينة الفلوجة , وكانت في باحة البيت شجرة سدرة عملاقة تتساقط ثمارها على الارض لثقلها ورواجها , وكنت التقط من تلك الثمار بيدي المكبلتين ونحن بانتظار الاذن لنا بالدخول , فقال لي المأمور : بأي حال انت حتى تفعل ما تفعل وأخذ يضحك .. وقبل دخولي على القاضي تم تحرير يدي من القيود , وهكذا دخلت عليه وطعم السدر مازال في فمي .. فأخذ يتلو منطوق الحكم وانا في قفص الاتهام قائلا : بأسم الشعب حكمت عليك المحكمة بالاعدام رميا بالرصاص , فاغمضت عيني قائلا في نفسي أي شعب هذا الذي خول لكم قتلي ؟ فنظر الي قائلا وهو يعتقد بأني اغمضت عيني بسبب الخوف من الحكم : لا عليك .. لاتخف .. لم انته من تلاوة الحكم بعد .. ثم اخذ القاضي او الحاكم العسكري واسمه الرائد حسيب يتلوا بقية القرارات الصادرة عما كان يسمى مجلس قيادة الثورة والخاصة بتخفيف تلك الاحكام لمن يثبت لديه اسباب مقبولة ادت الى فراره من الجيش , والحقيقة بالنسبة الى حالتي لم تكن كذلك , بل ان الواسطة والمال لعبا دورا اساسيا في تخفيف ذلك الحكم من الاعدام الى السجن , ثم قررت محكمة الاستئناف بعد ذلك غيابيا جعل الحكم ستة اشهر.
في السجن \ الحبانية ( سن الذبان ) *
كان عدد السجناء كبيرا , وكنا ننام بكل صعوبة لضيق المكان , حيث كان العدد يتراوح ما بين الثلاثين الى الخمسين في تلك الغرفة التي لا يتناسب حجمها مع ذلك العدد الكبير , وكانت الاغلبية منهم من الشيعة , مع اثنين او ثلاثة من السنة ,وكردي واحد مع مسيحي واحد .. وجاءت ليلة الجمعة فجلست بعد صلاة المغرب لقراءة دعاء كميل , وهو الدعاء الذي لم يكن معروفا على نطاق واسع في العراق كما هو اليوم .. كان صوتي يعلو شيئا فشيئا , ويسود على تلك الضوضاء التي كانت تملأ السجن , فيما اخذ السجناء ينتظمون جالسين الى جدران السجن وفي وسطه وهم يصغون الى الدعاء , وبعضعهم يردده بعدي هامسا بشفتيه , اما الاخرون فتيقنت منهم بعد ذلك انهم كانوا خائفين من دخول الحراس علينا لمنعنا من مواصلة الدعاء , وربما اتهامنا بتهمة خطيرة تودي بحياتنا .. في تلك اللحظات احسست بأحد السجناء جالسا الى جانبي واضعا رأسه بين ركبتيه وهو يجهش بالبكاء , ويشاطره الدموع صديقي واخي عبد الرزاق كاظم خيون من اهالي الناصرية \ الشطرة ,وبعد انتهائي من الدعاء تعرفت عليه لاول مره انه ضياء الدين رجب من اهالي الفلوجة , وكانت جريمته انه قام متعمدا بتفجير قنبلة يدوية ليحطم كفيه , ويدمر يديه كي لا يقتل المسلمين اثناء الحرب العراقية الايرانية , وقال لي انه فضل الموت اوالسجن على قتل المسلمين , وكان ابوه احد ائمة جوامع الفلوجة , وله معارف من ذوي النفوذ في السلطة مما انقذ ابنه من الاعدام الى السجن المخفف لخمس سنوات . يكاد النور يشع من وجه ضياء كلما كنا نصلي معا جنبا الى جنب , ونقرأ ذلك الدعاء الجميل كل ليلة جمعة , ونتسابق بالتسبيح والذكر والصيام وغيره , ونتعلم من بعضنا البعض , ونسر بعضنا بعضا , ونتعاهد على المحبة والاخوة , لم اناقشه في مذهبه الا قليلا , ولم يفعل هو حتى ذلك القليل .. كنا نحن الثلاثة نتعرض الى الضرب والتعذيب معا دون الاخرين , وكنا نصبّر بعضنا بعضا , كانوا يخرجوننا الى باحة السجن , ويربطون ايادينا الى اعمدة موجودة هناك , ويبدأون بضربنا بالسياط حتى يغمى علينا , ولكن عندما يعيدوننا الى داخل غرفة السجن الصغيرة نبدأ بمواساة ومداواة بعضنا .. هكذا كنا , وهكذا سنبقى , فنحن أيها القاريء العزيز من وطن واحد , ودم واحد , ودين واحد ,وشعب واحد , وتاريخ واحد من الموصل الى البصرة , ومن تكريت الى النجف , ومن الكوفة الى الفلوجة , أما بقايا النظام الصدامي المجرم , من مخابرات , وحزب البعث , ممن يقودون زمر الارهاب في العراق , فهم من يزرع بذور الفتنة والتفرقة العنصرية والمذهبية بين ابناء الوطن الواحد , نعم هناك من يمارس الطائفية هنا وهناك , وهناك من باع نفسه وعرضه وشرفه الى الارهابيين , ولكن هذا لايعني ان الجميع مجرمون , والسؤال الذي اود طرحه هنا هو هل سينتصر الارهابيون وخونة الاوطان الذين استقبلوا الاجانب من الارهابيين بالاحضان ليقتلوا ابناء الوطن , ام ينتصر ضياء الدين رجب واخوته ممن احبوا الناس والوطن ودفعوا من اجل ذلك ارواحهم وحريتهم ثمنا لوحدة الوطن وسلامته ؟ لاشك عندي ان النصر آتٍ وان طال الزمن وغلت التضحيات .
 
*ملاحظة : ماكتبته هنا كان اختصارا لتلك المذكرات , وانما هناك تفاصيل كثيرة جدا لتلك المرحلة والتجربة التي مررت بها ,والتي تخص الاخر المختلف دينيا اوسياسيا او قوميا من ابناء الوطن , لايسع المقام لذكرها جميعا , والمذكور يفي بالغرض المطلوب .
*سمعت ان سجن الحبانية يسمى سن الذبان ولست على يقين من هذه التسمية.
جاسم المعموري
 30 \ 5 \ 2016  
 



  • المصدر : http://www.kitabat.info/subject.php?id=79177
  • تاريخ إضافة الموضوع : 2016 / 06 / 02
  • تاريخ الطباعة : 2024 / 03 / 28