بعد سقوط النظام الشمولي والتعسفي وسياسته المسلحة , دخل العراق كدولة عصرية في مرحلة المراهقة وفي طور استكشاف مساحات نضجه السياسي والديمقراطي في ظل حريات مطلقة او منفلتة لم يعهدها من قبل, فبدأ يتحسس بلوغه بأساليب بدائية خاطئة لاتستند الى أُسس علمية حديثة, بسبب رزوحه تحت نير الممنوعات لسنوات طويلة, فتارة تمارس بعض اطرافه السياسية العادات السرية من مؤامرات ودسائس لتفريغ ماتراكم من كبت سلطوي قديم كمتنفس وحيد متاح في ظل الضغوطات الحياتية وافرازاتها الداخلية والخارجية ,وتارة اخرى على شكل حماقات وتصريحات تنم عن صبيانية طائشة وانفلاتات غيرمسؤوله!! ولِم لا ... فالحرية وهبتنا مهارة القفز العالي في المطالب والرغبات والطفرالعريض على حدود الاخرين والديمقراطية (ادام الله ظلها) منحتنا القدرة على تطويع القوانين وتعطيلها بذرائع شتى !! وحتى بلوغ العراق سن الرشد والتوصل لثقافة سياسية منسجمة لابد ان يمر بمغامرات سياسية هائجة وممارسات ديمقراطية شاذة وبرامج حزبية مرتجلة.
ولسوء حظنا العاثر كما هو معروف ان تاتي حريتنا وديمقراطيتنا عن طريق فوهة الدبابة الامريكية التي اقتحمت المشهد العراقي دون أذن من احد, وماترتب عليه من ازاحة غبار السنين المتراكم من الحقبة البعثية المظلمة, ليتجلى لنا واقع جديد, شائك ومعقّد حد اللعنة, ولتظهر اشكاليات ومشاكل من نوع آخر, منها جاءت في ظل التغيرات الجديدة ومنها صُنعت في الخارج للاستهلاك العراقي حصراً. فهناك جهة تميل الى تعزيز الواقع الراهن وتدفع باتجاه تطويره وجهة تهدف الى تقويض واجهاض التجربة الفتية والواعدة.
فمن تضرر او لم يحتف كثيراً بماحدث من تغييراو ربما ضاعت عليه فرصة القفزعلى اكتاف الاخرين , قال احتلال ظالم وغاشم لايخرج الا بالمقاومة المسلحة!! , ومن تخلص من القهر والموت والخوف وعربدة ازلام النظام السابق , قال عنه تحرير ورحمة هبطت علينا من سماء الولايات المتحدة الامريكية! ـ الجمعية الخيرية الاكبر في العالم لتوزيع الحريات ـ ومن هنا انبعث فرسان "التحرير" من سُباتهم الطويل مستأنفين حروبهم المقدسة بحزّ رؤوس الابرياء والمستضعفين وتفخيخ اسواقهم وبيوتهم بغية " تحريرالعراق " ضمن استراتيجية فريدة من نوعها!! وتحول حلم الديمقراطية المنتظرة الى كابوس مرعب لايحبذه حتى اعتى رجل متحضر رضع الديمقراطية منذ نعومة اظفاره,وتشعّبت وتقسّمت جوقة المحاربين" النشامى" الى فيالق وفرق والوية تختلف في الاختصاص والمهام في معركة متواصلة لأم المهازل ... وفي الفوضى ينعم المجرمون.
خلاصة القول نحن ارتضينا الكثير من السلبيات والتعقيدات برغبتنا او مرغم اخاك لابطل لاجل المصلحة الوطنية والوصول الى صيغ واقعية ومعقولة تطمئن الجميع في ظل المتغيرات ,ومن ضمن مارتضيناه .. قضية الاحتلال كحالة مؤقته تنتهي بتكاتفنا ووحدتنا الوطنية!! وتعاملنا من جهة اخرى مع ظاهرة الفساد المالي والاداري كوضع شاذ نعمل على تغيره تدريجيا بعد تشكيل حكومة قوية ومتماسكة, وقبلنا ايضا على مضض ديمقراطية المحاصصة حتى تنمو بذور الثقة في حقول الوطن المتصحرة وتذوب الولاءات الملزمة الاخرى ببوتقة الولاء للوطن. .
ارتضينا الاحتلال كحل لمعضلة العراق المستعصية وتعاملنا معه كواقع مزعج , وحتى الذين رفضوه بشدة ارتخت قبضتهم رويداً رويدا ... وبدأوا يتسللون الواحد تلو الاخر للالتحاق بحكومة الاحتلال , ومع هذا مازال الكثير منهم يتعامل مع حالة الاحتلال كما تتعامل بعض الفتيات مع الملابس القصيرة " المني جوب " بسحبها الى الاسفل طوال فترة وجودها في الشارع لاسيما عند الجلوس رغم انها ارتدت الثوب برغبة ذاتية او بسبب حرارة الصيف او مواكبة لاخر الموضات الشِهيرة ـ بكسر الشين ـ في كل الاحوال طالما قبلت هذا الزي الفاضح! عليها التعامل بواقعية معه حتى تستطيع استبداله اذا كان مخجلا لها اوتريد النجاة من تلصص الاخرين وفضولهم! فكل الاحزاب تتعامل مع الاحتلال بشكل او بآخر فلماذا التحرج من ذلك في الاعلام ,بالامكان التخلي عن هذا العيب " المني جوب" والبقاء خارج العملية السياسية حتى خروج المحتل!.
ولا يخفى على احد ان اغلب الاحزاب السياسية متورطة في قضايا الفساد المالي والاداري الا من رحم ربي .. وبالامس القريب لمِسنا كيف ان اصحاب ابن العاص كشفوا عوراتهم في البرلمان امام صولة الحق كي يفلتوا من الخسارة الاكبر فمنحوا مفوضية الفساد الثقة وارتضوا ذلك كبديل منقذ من فضائح الوزن الثقيل, دع عنك تبريراتهم ومحاولة قلب الفضيحة لنصر مؤزر! فحتى المقبور كان ينتصر في كل معاركه "المقدسة" وواقع العراق الحالي دليل على "انتصاراته " المزعومة !.. فلماذا التنصل والقاء اللوم على الاخرين والتحدث عن الفساد وقد توفرت فرصة ذهبية لاثبات النزاهة! بالامكان رفض " المني جوب" وارتداء الثوب الطويل بالاستقالة من " الحكومة الفاسدة ".
كل الاحزاب ارتضت ودفعت باتجاه ديمقراطية المحاصصة ـ دفعاً للتهميش المفترض ـ وهروباً من خانة المعارضة التي مازالت تخيفهم , من اعلى المستويات الوزارية والمناصب السيادية الى ادنى المستويات الادارية في دوائر الدولة , والوزارات الامنية التي اقلقت القائمة العراقية ومازالت تتحرق شوقاً وشبقاً لحيازتها دليل على التمسك بالمحاصصة التي يشتمون ويلعنون!! فلماذا التجني على الشراكة الوطنية او المحاصصة ورفضها في الاعلام واظهار الاشمئزاز منها كأنها عصير (خروع ) تناولته الاحزاب مرغمة, بالامكان نزع " المني جوب" (المحاصصة ) ولبس رداء الحشمة والعفاف والذهاب الى المعارضة.
أليس ذلك اجدى وانفع لكل الاطراف؟ حتى لايجد من يريد العمل لخدمة الشعب شماعة يعلق عليها اخفاقاته وفشله, وبذلك نعرف منْ مع منْ ؟ وضد منْ ؟ بدل الرقص على الحبال والايحاء بغير حقائق الامور والنوايا, فما تحتاجه المرحلة الراهنة هو الوضوح والصدق في التعامل مع الواقع والابتعاد عن المزايدات والشعارات الصاخبة , فالعراق يمر بفترة دقيقة وحرجة وتقع المسؤولية الاولى على الحكومة والبرلمان في اجتيازها, لانقاذ البلاد من مشاريع الانقسام والتشظي, فالتحديات كبيرة ومتداخلة بنحو مقلق! والحاذق من يعبر بنا الى شاطئ الامان بأقل الخسائر! ويختطف مستقبل العراق وشعبه من براثن المخططات الخارجية والداخلية.
13.8.2011 |